لما اقتحم التتار بغداد وعاثوا فيها فسادا، كان في بغداد يومئذ يحيى بن يوسف الأنصاري رحمه الله، وكان رجلا ضريرا رفض أن يستسلم للتتار، وأمر أولاده أن يملؤوا بيته حجارة، ثم أخذ يرجم جنود التتار حتى هشم منهم جماعة، ثم لما اقتربوا منه قتل أحدهم بعكازه حتى تكالبوا عليه، فلقي الله شهيدا رحمه الله.

في حين أن آلاف الناس سلموا أنفسهم للتتار، ووضعوا رقابهم تحت سيفهم البتار، حتى قتلوهم قتلة ذل وعار وشنار..

سبحان الله!!

ضرير ثبت حتى لقي الله شهيدا.. ومبصر سلم رقبته لذابحه!!

لأن الهمم لا علاقة لها بآفات البدن.. إنما تعلو وتسفل حسب آفات الأرواح..

فأصحاب النفوس الكبار.. يثبتون على فكرتهم ولو كان آخر أسلحتهم الأحجار...

وقصار الأنفاس مساكين.. لا هم يطالون موتة العز، ولا حياة المكرمين..

وهل يكيد الطاغية ويكبته إلا كبرياء المجاهد ولو كان وحده؟!!

لما اغتاظ العبيديون من ثبات الإمام الراغب النابلسي أمروا جلاده أن يسلخ جلده.. فلم يمكنهم من لحظة تأوه أو تألم.. إنما كان ينظر إلى سالخه وهو يقرأ قول الله تعالى: (كان ذلك في الكتاب مسطورًا) فلم يتحمل جلاده ثباته فأغمد فيه السيف وقتله.

إن أهنأ اللحظات على المتجبرين شعورهم بيأس المقاومين لهم.. وأتعس ساعاتهم عندما يفعلون الأفاعيل بالمصلحين ثم يفاجؤون بأصواتهم تخرج من تحت الأحجار تقول: أحد أحد!!

لا تمكن تتار العصر من نفسك.. جاهدهم بما تستطيعه من حرف أو صوت أو عصا ولو كنت ضريرا كيحيى بن يوسف..

ولا تسلم لهم بيأسك وبؤسك فتمكنهم من عزيمتك وقوة نفسك..

فالتتار رغم كثرتهم خرجوا بعدها من بغداد.. وبقيت سيرة الراغب النابلسي ويحيى بن يوسف نبراسا للبلاد والعباد..

فالطغاة راحلون.. والثابتون باقون خالدون.. ولو كره المجرمون.