حمدًا لله تعالى، وصلاةً وسلامًا على الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد..

فإن تأملاتنا في هذه الحلقة سوف تكون حول لجوء الخلق إلى الله تعالى في وقت الشدائد، سواءٌ أكانوا مسلمين أم مشركين؟ وذلك من خلال الآيات الكريمات التي ذكرها الله تعالى في سورة الأنعام المكية، والتي يوم أن نزلت شيَّعها سبعون ألف ملَكٍ.

وهذه الآيات فيها تحدٍّ للخلق، الذين اغتروا بقوتهم وعلمهم وتقدمهم، وظنوا أن كل ذلك سوف يغني عنهم شيئًا، وقتما يقع بهم زلزال مدمر أو فيضان مهلك أو عواصف وريح تدمِّر كل شيء بأمر ربها.. ظنوا أن علمهم سوف ينقذهم مما حلَّ بهم من خراب ودمار واعتمدوا عليه، ولكنهم للأسف وجدوا أنفسهم قد خذلهم العلم، وخانتهم التقنيات الحديثة، ووجدوا أنفسهم عاجزين أمام قدرة الله تعالى وتحديه، وجدوا أنفسهم لا ملجأ لهم إلا الله، ولا منجى منه إلا إليه، فصرخوا من أعماقهم: يا الله، يا مغيث، وإذا بمجيب المضطر إذا دعاه، يكشف عنهم السوء ويفرِّج عنهم الكرب مع علمه سبحانه وتعالى بأنهم سوف يعودون إلى شركهم بعد كشف الضرّ عنهم، إنه سبحانه وتعالى يسأل، وهو الذي يجيب لعلمه أنهم لا يملكون جوابًا غير هذا الجواب، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)﴾ (الأنعام).

لقد ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن المشركين إذا أتاهم عذاب من الله أو أتتهم الساعة؛ أخلصوا الدعاء الذي هو مخ العبادة لله وحده، ونسوا ما كانوا يشركون به؛ لعلمهم أنه لا يكشف الكروب إلا الله وحده جل وعلا، ولم يبينْ هنا نوع العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص لله، ولم يبينْ هنا أيضًا إذا كشف عنهم العذاب هل يستمرون على إخلاصهم أو يرجعون إلى كفرهم وشركهم، ولكنه بيَّن كل ذلك في مواضع أُخَر.

فبيَّن أن العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص هو نزول الكروب ممن نزل بهم الهلاك؛ كأن يهيج البحر عليهم، وتلتطم أمواجه، ويغلب على ظنهم أنهم سيغرقون فيه، إن لم يخلصوا الدعاء لله وحده؛ كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)﴾ (يونس) وقوله: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67)﴾ (الإسراء)، وقوله: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)﴾ (العنكبوت)، وقوله: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)﴾ (لقمان) إلى غير ذلك من الآيات.

وبيَّن أنهم إذا كشف الله عنهم ذلك الكرب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشرك في مواضع كثيرة كقوله: ﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ وقوله: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)﴾ (الأنعام) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

وبيَّن سبحانه وتعالى أن رجوعهم للشرك بعد أن نجَّاهم الله من الغرق من شدَّة جهلهم وعماهم، لأنه قادرٌ على أن يهلكهم في البر كقدرته على إهلاكهم في البحر، وقادرٌ على أن يعيدهم في البحر مرةً أخرى ويهلكهم فيه بالغرق؛ فجرأتهم عليه إذا وصلوا البر لا وجه لها؛ لأنها من جهلهم وضلالهم، وذلك في قوله: ﴿أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)﴾ (الإسراء).

ويعلِّق على هذه الآية الشهيد سيد قطب فيقول: إنها مواجهة الفطرة بتصور الهول.. عذاب الله في الدنيا عذاب الهلاك والدمار، أو مجيء الساعة على غير انتظار، والفطرة حين تلمس هذه اللمسة وتتصور هذا الهول؛ تدرك ويعلم الله سبحانه أنها تدرك حقيقة هذا التصور وتهتز له؛ لأنه يمثِّل حقيقةً كامنةً فيها يعلم بارئها سبحانه أنها كامنة فيها ويخاطبها بها على سبيل التصور، فتهتز لها وترتجف وتتعرَّى، وهو يسألهم ويطلب إليهم الجواب بالصدق من ألسنتهم، ليكون تعبيرًا عن الصدق في فطرتهم.. ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (40)﴾ (الأنعام).

ثم يبادر فيقرر الجواب الصادق المطابق لما في فطرتهم بالفعل، ولو لم تنطق به ألسنتهم، ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)﴾ (الأنعام)، بل تدعونه وحده، وتنسون شرككم كله.. إن الهول يعرِّي فطرتكم حينئذٍ، فتتجه بطلب النجاة إلى الله وحده وتنسى أنها أشركت به أحدًا، بل تنسى هذا الشرك ذاته.

إن معرفتها بربها هي الحقيقة المستقرة فيها، فأما هذا الشرك فهو قشرة سطحية طارئة عليها بفعل عوامل أخرى.. قشرة سطحية في الركام الذي ران عليها، فإذا هزَّها الهول تساقط هذا الركام وتطايرت هذه القشرة وتكشَّفت الحقيقة الأصيلة، وتحركت الفطرة حركتها الفطرية نحو بارئها؛ ترجوه أن يكشف عنها الهول الذي لا يد لها به ولا حيلة لها فيه، هذا شأن الفطرة في مواجهة الهول، يواجه السياق القرآني به المشركين.

فأما شأن الله سبحانه فيقرره في ثنايا المواجهة؛ فهو يكشف ما يدعونه إليه إن شاء، فمشيئته طليقة لا يرد عليها قيد، فإذا شاء استجاب لهم، فكشف عنهم ما يدعون كله أو بعضه، وإن شاء لم يستجب وفق تقديره وحكمته وعلمه.. هذا هو موقف الفطرة من الشرك، الذي تزاوله أحيانًا بسبب ما يطرأ عليها من الانحراف نتيجة عوامل شتى تغطي على نصاعة الحقيقة الكامنة فيها.. حقيقة اتجاهها إلى ربها ومعرفتها بوحدانيته. (أ هـ).

ومن التحدي لهؤلاء المشركين الذين اغتروا بعلمهم في زمن تزرع فيه الأعضاء البشرية، والذين ظنوا أنهم قادرون على تبديل أجزاء الإنسان، كلما تلف جزء استبدلوا به جزءًا آخر، فظنوا بذلك أنهم ليسوا في حاجة إلى الله تعالى، ما داموا قادرين على ذلك!! لكن هؤلاء نسوا، أو تناسوا أن هذه الأعضاء من صنع الله تعالى، وأن الذي يملك تشغيلها هو خالقها سبحانه وتعالى.

ويفاجأ هؤلاء أنهم مع علمهم وقفوا عاجزين أمام قدرة الله تعالى إذا سلب منهم البصر أو السمع أو عطَّل عمل الكبد أو الكليتين أو سلب العقل، أو تعطَّلت وظائف اليدين أو الرجلين أو سلب الله منهم الحياة! فمن يملك أن يعيد إليهم كل ذلك أو بعضه؟ فأي علم وأي قدرة وأي مال وأي سلطان يمكنه أن يعيد إليهم ما سلب؟ لا أحد إلا الله سبحانه وتعالى.. قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)﴾ (الأنعام).

ثم يأتي هذا التحدي الآخر.. ماذا أنتم فاعلون إذا حل عليكم عذاب الله بغتةً أو جهرةً؟ إذا حدثت فيضانات مغرقة، أو براكين مهلكة، أو زلازل مدمرة، أو عواصف مقلقة، أو ثلوج مجمدة؟! ماذا أنتم فاعلون؟! ومن الهالك حقيقة وسط هذا الجو المرعب المخيف؟ إنها نقمة الله التي تحل بالقوم الظالمين، مع أن بعض الصالحين قد ينالهم من هذا الدمار، لكنهم مبتلون به، وهم في النهاية شهداء، أما الظالمون فهم هلكى وفي خسران، لأنهم خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.. قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)﴾ (الأنعام)، وإنه لمشهد عجيب، يجسِّم لهم عجزهم أمام بأس الله من جانب، كما يصور لهم حقيقة ما يشركون به من دون الله في موقف الجد من جانب، ولكن هذا المشهد يهزهم من الأعماق.

إن خالق الفطرة البشرية، يعلم أنها تدرك ما في هذا المشهد التصويري من جد، وما وراءه من حق، إنها تدرك أن الله قادر على أن يفعل بها هذا، قادر على أن يأخذ الأسماع والأبصار، وأن يختم على القلوب، فلا تعود هذه الأجهزة تؤدي وظائفها، وأنه إن فعل ذلك فليس هناك من إله غيره يرد بأسه.

وفي ظلال هذا المشهد، الذي يبعث بالرجفة في القلوب والأوصال، ويقرر في الوقت ذاته تفاهة عقيدة الشرك، وضلال اتخاذ الأولياء من دون الله، في ظلال هذا المشهد، يعجب من أمر هؤلاء الذين يصرف لهم الآيات وينوعها، ثم هم يميلون عنها، ﴿انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾.. ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)﴾ (الأنعام)، إن عذاب الله يأتي في أية صورة وفي أية حالة، وسواءٌ جاءهم العذاب بغتةً وهم غافلون لا يتوقعونه، أو جاءهم جهرةً وهم صاحون متأهِّبون؛ فإن الهلاك سيحل بالقوم الظالمين أي المشركين، كغالبية التعبير في القرآن الكريم، وسينالهم دون سواهم، ولن يدفعوه عن أنفسهم، سواءٌ جاءهم بغتةً أو جهرةً، فهم أضعف من أن يدفعوه ولو واجهوه، ولن يدفعه عنهم أحد ممن يتولونهم من الشركاء، فكلهم من عبيد الله الضعفاء، وهو توقع يعرضه السياق عليهم ليتقوه ويتقوا أسبابه قبل أن يجيء، والله سبحانه يعلم أن عرض هذا التوقع في هذا المشهد يخاطب الكينونة البشرية خطابًا تعرفه في قراراتها وتعرف ما وراءه من حقيقة ترجف لها القلوب.

إننا يجب أن نأخذ العبرة من مصارع الظالمين، وأن نعلم بأن قدرة الله لا تحدها حدود، أو يحول دونها حائل، وأن الله تعالى صاحب الأمر والنهي، وأن قدرات الخلق محدودة، فيا بني آدم لا يغرنكم علمكم ولا سلطانكم ولا جاهكم ولا أحدث ما عندكم من تقنيات؛ فإن كل ذلك بيد الجبار، إن أذن له عمل، وإن لم يأذن له بطل، فالجئوا إلى الله تعالى ولا تركنوا إلى الظالمين.. ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113)﴾ (هود).