بقلم: د. علي الصلابي

إنَّ الإيمان بالقدر لا يعارض الأخذ بالأسباب المشروعة، بل الأسباب مقدَّرة أيضاً كالمسببات، فمن زعم أن الله تعالى قدّر النتائج والمسببات من غير مقدماتها وأسبابها، فقد ذهل عن حقيقة القدر، وأعظم على الله الفرية، فالأسباب مقدّرة كالمسببات، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الرّقي، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: هي من قدر الله، وحياةُ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابُه كانت قائمةً على الأخذ بالأسباب وسيرته تشهد بأنَّه كان يتخذ كل الوسائل والتدابير وأسباب العمل.

ولقد شغل الناسَ في هذا الزمان ما أصابهم من هذا الوباء المسمى بفيروس كورونا وهو بقدر الله، والأخذُ بالأسباب -التي هي من قدر الله- محتَّمٌ في ظل هذا الوباء، كما أنَّ سيِّد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتوكلين كان يأخذ الأسباب، وما غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم إلا مظهر من مظاهر إرادته العليا في الأخذ بالأسباب، التي تجري حسب مشيئة الله وقدره، فقد أخذ الحذر وأعد الجيوش، وبعث الطلائع والعيون وظاهر بين درعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندقَ حول المدينة، وأذنَ في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر بنفسه واتخذ أسباب الحيطة في هجرته، أعد الرواحل التي يمتطيها والدليلَ الذي يصحبه، واختبأ في الغار وكان إذا سافر في جهاد أو عمرة حمل الزاد والمزاد وهو سيد المتوكلين.
 
القول بالتنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب جهل بالدين

إن القول بالتنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب جهل بالدين، وهذا من قلة العلم بسنة الله في خلقه وأمره، فإن الله تعالى خلق المخلوقات بأسباب، وشرع للعباد أسباباً ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا والآخرة، فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه، وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسباباً لها فهو غالط.
     
التوازن بين مقامي التوكل والأخذ بالأسباب

الأصل أن يستعمل العبد الأسباب التي بينها الله تعالى لعباده وأذن فيها وهو يعتقد أن المسبب هو الله سبحانه وتعالى، وما يصل إليه من المنفعة عند استعمالها بتقدير الله عز وجل، وأنه إن شاء حرمه تلك المنفعة مع استعماله السبب فتكون ثقته بالله واعتماده عليه في اتصال تلك المنفعة إليه مع وجود السبب، وبالتتبع لما قاله العلماء في التوازن بين المقامين نجد أن جمهورهم يقررون أن التوكل يحصل بأن يثق المؤمن بوعد الله، ويوقن بأن قضاءه واقع ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بد له منه من مطعم ومشرب وتحرز من عدو بإعداد السلاح وإغلاق الباب ونحو ذلك، ومع ذلك فلا يطمئن إلى الأسباب بقلبه، بل يعتقد أنها لا تجلب بذاتها نفعاً ولا تدفع ضراً، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل بمشيئته، فإذا وقع من المرء ركون إلى سبب قدح في توكله.
 
تأثير السبب في المسبب

إن من الأسباب ما يعرفه كل إنسان بفطرته مثل الوطء سبب الولد، والقاء البذور سبب للزرع، والأكل سبب للشبع، وشرب الماء سبب للري، ومن الأسباب ما يجادل فيه بعض الناس مثل اتباع شرع الله سبب للسعادة في الدنيا والآخرة والخروج على هذا الشرع سبب للشقاوة في الدنيا والآخرة، والدعاء سبب لدفع المكروه ونوال المطلوب ومن الأسباب ما يخفى على كثير من الناس مثل أسباب الأحداث الاجتماعية.

وما يصيب الأمم من عز وذل وتقدم وتأخر ورخاء وشدة وهزيمة وانتصار ونحو ذلك فهذه الأحداث لها أسبابها التي تستدعي هذه النتائج، ولا يمكن تخلف هذه النتائج إذا انعقدت أسبابها، فهي كالأحداث الطبيعية من تجمد الماء وغليانه ونزول المطر فهذه أحداث لها أسبابها التي قدّرها الله فمتى تحققت هذه الاسباب تحققت هذه الأحداث وكل الفرق بينها وبين الأحداث الإجتماعية أن الأولى أسبابها منضبطة ويمكن معرفة حصول أكثرها إذا عرفت أسبابها، أما الثانية أي الأحداث الإجتماعية فإن أسبابها كثيرة جداً، ومتشابكة ويصعب الجزم بوقت حصول نتائجها وإن أمكن الجزم بحصول هذه النتائج، والشرع دلنا على هذا القانون العام قانون السبب والمسبب في نصوص كثيرة والمقصود أن ما قدّره الله وقضاه إنما قدّره بأسباب، فمن أراد الحصول على نتيجة معينة فلابد من مباشرة السبب المفضي إليها.
 
إنكار قانون السببية يؤدي إلى ابطال حقائق العلوم

لقد ثبت بنص القرآن أن الأسباب الشرعية هي محل حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهي في اقتضائها لمسسبّباتها قدراً، فهذا شرع الرب وذلك قدره، وهما خلقه وأمره، والله له الخلق والأمر، ولا تبديل لخلق الله، ولا تغيير لحكمه، فكما لا يخالف سبحانه بالأسباب القدرية أحكامها، بل يجريها على أسبابها وما خُلقت له، فهكذا الأسباب الشرعية لا يخرجها عن سببها وما شُرعت له، بل هذه سنته شرعاً وأمراً، وتلك سنته قضاء وقدراً، وسنته القدرية قال تعالى: "فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر : 43) فالمسببات مرتبطة بأسبابها شرعاً وقدراً، ولذلك فطلبها من غير أسبابها مذموم، كما أن إنكار الأسباب لأن تكون موصلة لها بأنها أمر مردود، بل إنَّ النتائج المترتبة على إنكار قانون النسبية كافية لهدم حقائق العلوم كلها، فإن العلوم جميعها تستند إلى هذا، القانون.  

ونفي الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، وهو طعن في الشرع أيضاً فالله تعالى يقول: "وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا" (البقرة : 164) . وقال تعالى: "يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ" (المائدة : 16) والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها والله هو الذي يُقدّر آثارها ونتائجها، والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذ الأمين، والنجاة من الوسواس والهواجس. "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ".

أدرك الصحابة رضوان الله عليهم هذا المعنى، وفهموا أن الإيمان بالقدر لا يعني ترك الأخذ بالأسباب، ولهذا أدرك الصحابة رضوان الله عليهم هذا المعنى، وفهموا أن الإيمان بالقدر لا يعني ترك الأخذ بالأسباب، ولهذا أنكر عمر عن أبي عبيدة رضي الله عنهما ربطه الإيمانَ بالقدر بعدم الإخذ بالأسباب، كما ورد في قصة طاعون عمواس الشهير، فحين همَّ عمر بالرجوع إلى المدينة في حدود الشام، قال له أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟، فدهش عمر لهذا الاعتراض وقال لأبي عبيدة: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم أردف قائلاً: أرأيت لو كان إبل هبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصيبة والأخرى جديبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله.

فعمر وأبو عبيدة يعلمان أنَّ القدر علم الله السابق بما يحدث، غير أنَّ عمر كان يرى أنَّ قدر الله لا دخل له في موضوع ربط الأسباب بالمسببات، فالذهاب إلى الشام مع وجود الطاعون يتسبب عنه الموت، والرجوع أخذٌ بالأسباب للنجاة من الطاعون، ولهذا أنكر عمر على أبي عبيدة أن يعترض عليه قائلاً له: لو غيرك يا أبا عبيدة، ولم يكتف بذلك، بل شرح رأيه بأن الذهاب إلى الشام ذهاب بقدر الله، والرجوع إلى المدينة رجوع بقدر الله، أي بعلم الله، مما يدل على أن القدر لا يصح أن يربط بالإقدام على الأعمال أو الإحجام عنها، ولا يصح أن يترك الأخذ بالأسباب بحجة القدر، كما أنه لا يصح أن يترك الأخذ بالأسباب بما يصيب الناس في هذا الزمان من أوبئة ومنها (كورونا) بحجة القدر.
-----------
المصادر والمراجع:
* علي محمد محمد الصلابي، سلسلة أركان الإيمان: الإيمان بالقدر ص 197.
* مجدي عاشور، السنن الإلهية في الأمم والأفراد في القرآن الكريم – أصول وضوابط ص 158