( الأمة ): كلمة معرفة بـ " أل " العهدية، كما يقول علماء العربية، فهي تشير إلى معهودٍ في الذهن، مرسوم في الفكر، محفور في القلب.

وهي الأمة، التي لا يعرف المسلم غيرها، فإليها ينتمي، وبها يعتز، وفي سبيل بقائها وكرامتها يجاهد، وأعني بها: " أمة الإسلام ".

إنها الأمة الواحدة، التي تؤمن برب واحد، هو الله تعالى، وتؤمن بكتاب واحد، هو القرآن الكريم، وتؤمن برسول واحد، هو محمد عليه الصلاة والسلام وتتجه كل يوم خمس مرات إلى قبلة واحدة، هي الكعبة، بيت الله الحرام.

إنها تتكون من شعوب وقبائل في أقطار وأقاليم، ولكنها مع هذا تظل أمة واحدة، جمعتها العقيدة، وربطت بينها الشريعة، ووحدت بين أذواقها ومشاربها القيم والآداب الإسلامية، وعاشت تاريخاً مشتركاً في انتصاراته ومآسيه، وعانت حاضراً مشتركاً في آلامه وآماله.

ولهذا لا يجوز لنا أن نقول " أمم إسلامية " بل " شعوب إسلامية " لأمة واحدة، خاطبها الله تعالى بقوله: ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون ) (المؤمنون: 52).

إنها أمة واحدة في الغاية والوجهة . . .

واحدة في الأفكار والمفاهيم . .

واحدة في المشاعر والأحاسيس . .

صَوَّر الرسول صلى الله عليه وسلم وحدتها في ذلك فمثّلها بالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

وهي أمة متميزة بمقوماتها وخصائصها.

ومن هذه الخصائص: أنها أمة " ربانية ".

لم تنشأ بمجرد المصادفة، أنها وجدت في إقليم واحد، أو انتسبت إلى عنصر معين، كبعض الأمم ولم تنشأ كذلك بإرادة فرد، أو إرادة حزب، أو إرادة طبقة أو إرادة مجلس ثوري أو منتخب. إنما أنشأها الله لتؤدي رسالتها في الوجود كما قال سبحانه: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) (البقرة: 143).

فالله هو الذي جعلها كذلك وأعدها لذلك، لتقوم بدورها في الناس.

• خصائص متفردة:

ومن خصائصها: ما أشارت إليه الآية الكريمة وهو " الوسطية " فهي أمة وسط في كل شيء، في التصور والاعتقاد، وفي التعبد والتنسك، وفي القيم والأخلاق، وفي العمل والسلوك، وفي التشريع والتنظيم، وفي السياسة والاقتصاد، وفي العلاقات كلها داخلية وخارجية، لا تهمل المادة لحساب الروح، ولا الروح لحساب المادة، ولا يضخم الفرد فيطغى على المجتمع ولا المجتمع فيطغى على الفرد وإنما يعطى لكل جانب حقه، ويطالبه بواجبه في غير طغيان ولا إخسار، كما قال تعالى: ( ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) (الرحمن: 8، 9).

وهي أمة ذات رسالة عالمية، ليست أمة إقليمية ولا قومية، بل وضعها الله في مقام الأستاذية للبشرية كلها، والهداية للناس كافة . . . وهذا معنى قوله تعالى: ( .. وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة: 143) وقوله جل شأنه: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتهون عن المنكر، وتؤمنون بالله ) (آل عمران: 110).

فهذه الأمة لم تنبت وحدها كالنبات البري أو الشيطاني، كما يسميه بعض الناس، إنما أنبتها منبت، وأخرجها مخرج، وهو الله جل جلاله، ولم يخرجها لتتقوقع على نفسها، وتعيش في حدودها، ولمنافعها المادية الخاصة، إنما أخرجها "للناس" كل الناس، بيضاً وسوداً، عرباً وعجماً، أغنياء وفقراء، فهي أمة "مبعوثة" للعالمين، كما أن كتابها أنزل ذكراً للعالمين، ونبيها أرسل رحمة للعالمين وبعثة هذه الأمة بعثة رحمة ويسر، لا بعثة قسوة وعسر.

وقد خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة فقال: ( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )

ولقد فقه الصحابة هذا المعنى، وأدركوا أنهم مبعوثون لهداية أمم الأرض، وعبر عن ذلك أحدهم، وهو: ربعي بن عامر - في مواجهة رستم قائد الفرس، محدداً مهمة الأمة في عبارات بليغة موجزة: ( إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلي سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ).

• أمة خالدة :

ومن خصائص هذه الأمة: أنها أمة خالدة، بخلود رسالتها وكتابها، فهي باقية ما بقي الليل والنهار، دائمة ما دام في الدنيا قرآن يتلى، وإذا كان القرآن محفوظاً بحفظ الله، فأمة القرآن باقية ببقاء القرآن.

وقد تكفل الله تعالى لرسوله الكريم ألا يهلك أمته بما أهلك به أمماً من قبلها، بالعقوبات القدرية، والنوازل الكونية، كالطوفان والخسف والمسخ والريح الصرصر، وغير ذلك.

وتكفل له كذلك ألا يسلط عليها عدواً من غيرها، يستأصل شأفتها، ويقتلعها من جذورها، إلا أن يهلك بعضها بعضاً، ويذوق بعضهم بأس بعض.

وكما تكفل الله لرسوله أن يحفظ أمته من الهلاك الحسي بعذاب الاستئصال، تكفل له بحفظها من الهلاك المعنوي بالاجتماع على الضلال، ففي الحديث ( إن الله لم يكن ليجمع أمتي على ضلالة ).

وسر ذلك أنها آخر الأمم، كما أن نبيها آخر الأنبياء، وكتابها آخر الكتب، فليس بعد محمد رسول، ولا بعد القرآن كتاب، ولا بعد الإسلام شريعة، ولا بعد أمة الإسلام أمة.

فإذا اجتمعت أمة من الأمم، قبل الإسلام على الضلال لم يكن في ذلك خطر على البشرية، لأنها أمة محدودة المكان موقوتة الزمان، بخلاف الأمة الإسلامية، فلها من عالميتها وخلودها ما يجعلها ممتدة في المكان حتى تعم الشرق والغرب، وممتدة في الزمان حتى قيام الساعة. فلو ضلت كلها لضلت بها البشرية جمعاء، دون أمل في تغيير، إذ ليس معها ولا بعدها من يحمل للناس هداية الله.

ومن ثم كان عمل العناية الإلهية، أن تظل في هذه الأمة فئة تحيا على الحق وتموت عليه، هي بمثابة سفينة الإنقاذ، أو جيش الخلاص، وهي التي تحفظ التوازن وتمسك البناء أن ينهار وفيها جاء الله تعالى: ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) (الأعراف: 181).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ).

هذه الطائفة هي منار السارين، ودليل الحائرين، وقوة المستضعفين، وهم الذين يقومون لله بالحجة، ويدعون إلى الله على بصيرة، ويبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله.

وهم "الغرباء" الذين يَصلُحون إذا فسد الناس، ويُصلِحون ما أفسد الناس وهم " الفرقة الناجية " بين الهالكين، المهتدون بين السالكين، الذين يحيون ما كان عليه الرسول وأصحابه. ومن رحمة الله بالناس أن تبقى فيهم مثل هذه الفئة المختارة الموكلة من الله تعالى، تعلّم من يجهل، وتهدي من يضل، وتذكّر من ينسى، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ( فإن يكفر بها هؤلاء، فقل وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ) (الأنعام: 89)

ورحم الله أحمد شوقي حين قال:

إن الذي خلق الحقيقة علقماً ... لم يُخلِ من أهل الحقيقة جيلا

ومن دلائل الخلود لهذه الأمة، أن الكوارث والنكبات لا تحطمها و لا تقتلها، بل تبعث فيها روح المقاومة والتحدي، فتراها إذا نزلت بها النوازل القاصمة، أشد ما تكون قوة، وأصلب ما تكون عوداً، حتى إن الناس ليظنون بها الظنون، ويحسبونها في عداد الهلكى، فإذا هي في فترة وجيزة، تتغلب على عوامل الضعف المحيطة بها، بروح القوة المكنونة في داخلها وإذا بالذين يرقبونها من بعيد أو ينظرون إليها من قريب، يرون انتصاراً بعد انكسار، واجتماعاً بعد شتات، وحياة وحركة بعد جمود أشبه بالموات.

( 1 ) رأينا ذلك في فجر الإسلام، في حروب الردة وقتال المتمردين على دفع الزكاة.

( 2 ) رأيناه في عصور التمزق للدولة الإسلامية، فهي مقاومة غزوات التتار الوحشية، الذين أقبلوا من الشرق كأنهم يأجوج ومأجوج، أو كأنهم الريح العقيم "ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم".

( 3 ) وفي مقاومة الحروب الصليبية التي زحفت فيها أوربا على الشرق الإسلامي بقضها وقضيضها وثالوثها وصليبها، فقتلت وحرقت وأفسدت ودمرت، ما يعلمه كل دارس لتلك المرحلة من التاريخ.

ولكن القوة الذاتية الكامنة في أمة الإسلام، لم تلبث أن ظهرت في وقائع تاريخية حاسمة، فحطمت أحلام الصليبيين في حطين . . وفتح "بيت المقدس" بعد أن بات أكثر من تسعين عاماً أسيراً في يد الغزاة، وأسر " لويس التاسع" ملك فرنسا في "دار ابن لقمان" بالمنصورة وارتد التتار مدحورين في "عين جالوت" بعد أن كان الناس يعتبرونهم "القوة التي لا تقهر" حتى شاع بين الناس القول: إذا قيل إن التتار انهزموا فلا تصدق. . !

وفي العصر الحديث، رأينا الجهاد البطولي، ضد الغزاة المستعمرين، في سائر ديار الإسلام، جهاد الأمير عبد القادر الجزائري ضد الفرنسيين، والأمير عبد الكريم الخطابي ضد الأسبان، والبطل عمر المختار ضد الطليان، والشيخ عز الدين القسام ضد الإنجليز واليهود، مروراً بثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، ومعارك فلسطين ضد الصهاينة، والقناة ضد الإنجليز.

• العملاق ينتفض :

واليوم نرى العملاق الإسلامي ينتفض بعد طول ركود ورقود، فإذا هو جهاد مستبسل في أفغانستان، وقتال في إريتريا والفلبين، وعمل فدائي في فلسطين، ويقظة في مصر وسوريا وتركية، وشباب مثقف يتجه بقوة ووعي إلى الإسلام في الشرق والغرب، متحدياً رواسب القديم، وفتنة الجديد، معتصماً بإيمان الأقوياء، وقوة المؤمنين.

وهذه الدلائل كلها من هنا وهناك وهنالك، تعبر بوضوح عن خلود هذه الأمة وقوتها وأصالتها، بالرغم مما قد يبدو على سحنتها من مظاهر الوهن والهزال.

إن الأجانب من المستشرقين والدارسين لطبيعة أمتنا، وخصائص ديننا، ومذخور الطاقات في شعوبنا، هم الذين يدركون حقيقة ما نملك من قوة ذاتية، يحسبون لها ألف حساب بل يساورهم - وهم مفزع من خشية انطلاقها يوماً من الأيام. يقول البروفيسور ( جب ) في كتابه ( وجهة الإسلام ): "إن الحركات الإسلامية تتطور عادة بسرعة مذهلة تدعو إلى الدهشة، فهي تنفجر انفجاراً مفاجئاً قبل أن يتبين المراقبون من أماراتها ما يدعو إلى الاسترابة في أمرها، إن الحركات الإسلامية لا ينقصها إلا الزعامة. لا ينقصها إلا صلاح الدين من جديد ".

وكتب الرحالة الألماني ( بول أشميد ) كتاباً خاصاً بهذا الموضوع سماه ( الإسلام قوة الغد ) ظهر سنة 1936 ومما قال فيه: إن مقومات القوى في الشرق الإسلامي، تنحصر في عوامل ثلاثة:

1- في قوة الإسلام ( كدين ) وفي الاعتقاد به، وفي مثله، وفي مؤاخاته بين مختلفي الجنس واللون والثقافة.

2- وفي وفرة مصادر الثروة الطبيعية في رقعة الشرق الإسلامي الذي يمتد من المحيط الأطلسي، على حدود مراكش غرباً إلى المحيط الهادي، على حدود إندونيسيا شرقاً.

وتمثيل هذه المصادر العديدة لوحدة اقتصادية سليمة قوية ولاكتفاء ذاتي، لا يدع للمسلمين في حاجة مطلقاً إلى أوربا أو إلى غيرها إذا ما تقاربوا وتعاونوا.

3- وأخيراً أشار إلى العامل الثالث وهو: خصوبة النسل البشرى لدى المسلمين، مما جعل قوتهم العددية قوة متزايدة، ثم قال: (فإذا اجتمعت هذه القوى الثلاث فتآخى المسلمون على وحدة العقيدة، وتوحيد الله، وغطت ثروتهم الطبيعية حاجة تزايد عددهم، كان الخطر الإسلامي خطراً منذراً بفناء أوربا وبسيادة عالمية في منطقة هي مركز العالم كله ).

ويقترح ( بول أشميد ) هذا بعد أن فصل هذه العوامل الثلاثة عن طريق الإحصاءات الرسمية، وعما يعرفه عن جوهر العقيدة الإسلامية، كما تبلورت في تاريخ المسلمين، وتاريخ ترابطهم وزحفهم لرد الاعتداء عليهم، أن يتضامن الغرب المسيحي شعوباً وحكومات ويعيدوا الحرب الصليبية في صورة أخرى ملائمة للعصر، ولكن في أسلوب نافذ حاسم.

وقال " روبرت بين " في مقدمة كتابه الذي سماه " السيف المقدس ": ( علينا أن ندرس العرب ونسبر أفكارهم، لأنهم حكموا العالم سابقاً، وربما عادوا إلى حكمه مرة أخرى، والشعلة التي أضاءها محمد لا تزال مشتعلة بقوة. وهناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الشعلة لا تطفأ. ولهذا كتبت هذا الكتاب لكي يقف القراء على أصل العرب، وسميته باسم السيف ذي النصلين الذي ناله محمد في وقعة بدر تذكاراً لانتصاره، لأن السيف أصبح رمزاً لمطالبه الإمبريالية ).

وبغض النظر عما في هذا الكلام من تحامل، وما يغلي به من حقد، فهو يبين لنا مبلغ قوة المسلمين في نظر الأجانب عنهم، وتؤكد تلك الحقيقة الكبيرة: أن هذه الأمة قد تضعف، ولكنها لا تموت، فقد ناط الله بها رسالة الخلود.

-------------------------
المصدر | كتاب " من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا " للإمام يوسف القرضاوي ، ص 137-143 ، ط دار الشروق بالقاهرة