أما السكوت، فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته، بل يتجاهل عنه ويسكت عن الرد عليه فيما يتكلم به ولا يماريه، ولا يناقشه، وأن يسكت عن التجسس والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طريق أو حاجة لم يفاتحه بذكر غرضه من مصدره ومورده، ولا يسأله عنه، فربما يثقل عليه ذكره، أو يحتاج إلى أن يكذب فيه، وليسكت عن أسراره التي بثها إليه ولا يبثها إلى غيره البتة، ولا إلى أخص أصدقائه، ولا يكشف شيئًا منها ولو بعد القطيعة والوحشة، فإن ذلك من لؤم الطبع وخبث الباطن، وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده، وأن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه، فإن الذي سبّك من بلغك. وقال أنس: "كان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدًا بشيء يكرهه"، والتأذي يحصل أولاً من المبلغ ثم من القائل، نعم لا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه فإن السرور به أولاً يحصل من المبلغ للمدح ثم من القائل، وإخفاء ذلك من الحسد. وبالجملة، فليسكت عن كل كلام يكرهه جملة وتفصيلاً إلا إذا وجب عليه النطق في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، ولم يجد رخصة في السكوت، فإذا ذاك لا يبالي بكراهته فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق وإن كان يظن أنها إساءة في الظاهر.

أما ذكر مساوئه وعيوبه ومساوئ أهله فهو من الغيبة، وذلك حرام في حق كل مسلم، ويزجرك عنه أمران:

أحدهما: أن تطالع أحوال نفسك فإن وجدت فيها شيئا واحدا مذموما فهوّن على نفسك ما تراه من أخيك، وقدر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة، كما أنك عاجز عما أنت مبتلى به، ولا تستثقله يخصلة واحدة مذمومة.. فأي الرجال المهذب? وكل ما لا تصادفه من نفسك في حق الله فلا تنتظره من أخيك في حق نفسك، فليس حقك عليه بأكثر من حق الله عليك.

والأمر الثاني: أنك تعلم أنك لو طلبت منزهًا عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة، ولن تجد من تصاحبه أصلاً، فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوئ، فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهو الغاية والمنتهى، فالمؤمن الكريم أبدًا يحضر في نفسه محاسن أخيه؛ لينبعث من قلبه التوقير والود والاحترام، وأما المنافق اللئيم فإنه أبدًا يلاحظ المساوئ والعيوب.

قال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات، وقال الفضيل: الفتوة العفو عن زلاّت الإخوان، ولذلك قال عليه السلام: "استعيذوا بالله من جار السوء الذي إن رأى خيرًا ستره وإن رأى شرًّا أظهره"، وما من شخص إلا ويمكن تحسين حاله بخصال فيه ويمكن تقبيحه أيضًا.. روي أن رجلاً أثنى على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد ذمّه، فقال عليه السلام: "أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه?" فقال: والله لقد صدقت عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم، إنه أرضاني بالأمس فقلت أحسن ما علمت فيه وأغضبني اليوم فقلت أقبح ما علمت فيه فقال عليه السلام: "إن من البيان لسحرًا"، وكأنه كره ذلك فشبهه بالسحر، ولذلك قال في خبر آخر: "البذاء والبيان شعبتان من النفاق"، وفي الحديث الآخر: "إن الله يكره لكم البيان كل البيان" وكذلك قال الشافعي رحمه الله: ما أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصيه ولا أحد يعصي الله ولا يطيعه. فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل، وإذا جعل مثل هذا عدلاً في حق الله فبأن تراه عدلاً في حق نفسك ومقتضى أخوتك أولى.

وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساوئه، يجب عليك السكوت بقلبك، وذلك بترك إساءة الظن؛ فسوء الظن غيبة بالقلب، وهو منهي عنه أيضًا، وحده أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكن أن تحمله على وجه حسن. فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة فلا يمكنك أن لا تعلمه، وعليك أن تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان إن أمكن، وهذا الظن ينقسم إلى ما يسمى تفرسًا، وهو الذي يستند إلى علامة، فإن ذلك يحرّك الظن تحريكًا ضروريًّا لا يقدر على دفعه، وإلى ما منشؤه سوء اعتقادك فيه حتى يصدر منه فعل له وجهان، فيحملك سوء الاعتقاد فيه على أن تنزله على الوجه الأردأ من غير علامة تخصه به، وذلك جناية عليه بالباطن وذلك حرام في حق كل مؤمن؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد حرم على المؤمن من المؤمن دمه وماله وعرضه، وأن يظن به ظن السوء"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"، وسوء الظن يدعو إلى التجسُّس والتحسُّس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تحسَّسوا ولا تجسَّسوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا"، والتجسس في تطلع الأخبار والتحسس بالمراقبة بالعين.

فستر العيوب والتجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين. ويكفيك تنبيهًا على كمال الرتبة في ستر القبيح وإظهار الجميل أن الله تعالى وصف به في الدعاء فقيل: يا من أظهر الجميل وستر القبيح. والمرضيُّ عند الله من تخلَّق بأخلاقه فإنه ستار العيوب وغفار الذنوب ومتجاوز عن العبيد، فكيف لا تتجاوز أنت عمن هو مثلك أو فوقك وما هو بكل حال عبدك ولا مخلوقك? وقد قال عيسى عليه السلام للحواريين: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائمًا وقد كشف الريح ثوبه عنه? قالوا: نستره ونغطيه، قال: بل تكشفون عورته، قالوا: سبحان الله من يفعل هذا? فقال: أحدكم يسمع بالكلمة في أخيه فيزيد عليها ويشيعها بأعظم منها.

واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وأقل درجات الأخوّة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به، ولا شك أنه ينتظر منه ستر العورة والسكوت على المساوئ والعيوب، ولو ظهر له منه نقيض ما ينتظره اشتد عليه غيظه وغضبه فما أبعده إذا كان ينتظر منه ما لا يضمره له ولا يعزم عليه لأجله، وويل له في نص كتاب الله تعالى حيث قال: "ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون" وكل من يلتمس من الإنصاف أكثر مما تسمح به نفسه فهو داخل تحت مقتضى هذه الآية. ومنشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها الداء الدفين في الباطن، وهو الحقد والحسد، فإن الحقود الحسود يملأ باطنه بالخبث، ولكن يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له مجالاً، وإذا وجد فرصة انحلَّت الرابطة وارتفع الحياء، ويترشح الباطن بخبثه الدفين، ومهما انطوى الباطن على حقد وحسد فالانقطاع أولى، قال بعض الحكماء: ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد، ولا يزيد لطف الحقود إلا وحشة منه، ومن في قلبه سخيمة على مسلم فإيمانه ضعيف وأمره مخاطر وقلبه خبيث لا يصلح للقاء الله.

وقد روى عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أنه قال: كنت باليمن ولي جار يهودي يخبرني عن التوراة فقدم عليَّ اليهودي من سفر فقلت إن الله قد بعث فينا نبيًّا فدعانا إلى الإسلام فأسلمنا وقد أنزل علينا كتابًا مصدقًا للتوراة، فقال اليهودي: صدقت ولكنكم لا تستطيعون أن تقوموا بما جاءكم به، إنا نجد نعته ونعت أمته في التوراة: إنه لا يحل لامرئ أن يخرج من عتبة بابه وفي قلبه سخيمة على أخيه المسلم.

ومن ذلك أن يسكت عن إفشاء سره الذي استودعه، وله أن ينكره وإن كان كاذبًا فليس الصدق واجبًا في كل مقام، فإنه كما يجوز للرجل أن يخفي عيوب نفسه وأسراره وإن احتاج إلى الكذب فله أن يفعل ذلك في حق أخيه، فإن أخاه نازل منزلته وهما كشخص واحد لا يختلفان إلا بالبدن، هذه حقيقة الأخوة وكذلك لا يكون بالعمل بين يديه مرائيًا وخارجًا عن أعمال السر إلى أعمال العلانية، فإن معرفة أخيه بعمله كمعرفته بنفسه من غير فرق، وقد قال عليه السلام: "من ستر عورة أخيه ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة"، وفي خبر آخر: "فكأنما أحيا موءودة"، وقال عليه السلام: "إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة"، وقال: "المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس يسفك فيه دم حرام، ومجلس يستحل فيه فرج حرام، ومجلس يستحل فيه مال من غير حله"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره".

-----------------
* إحياء علوم الدين (كتاب آداب الألفة والأخوة والصحبة والمعاشرة) للإمام أبي حامد الغزالي