كان الله سبحانه ينظر إلى نبيه – صلى الله عليه وسلم – وهو يقلب وجهه في السماء حيث اختلجت بين جوانحه رغبة أن يتوحد المسلمين تحت قبلة خاصة بهم، تجمع شتاتهم، وتلم شعثهم، ولا يكون لأحد عليهم فيها سلطان، فاستجاب الله لأمنية نبيه – صلى الله عليه وسلم – وأنزل شرائعه برسم قبلة خاصة للمسلمين توحدهم وتجمعهم تحت لوائها، قال تعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}(البقرة: 144)، فكانت إيذانا باستقلالية الأمة الإسلامية مع التأكيد على الحفاظ على القبلة الأولى والتي كانت لها انطلاقة رحلة الإسراء، والتي كانت إليه تتجه قلوب وأنظار المسلمين في صلواتهم، قبل أن تتحول إلى نقطة بداية رحلة الإسراء وهو المسجد الحرام والذي جعله الله قبلة موحدة للمسلمين، توحد عقيديتهم، وشعائرهم، وشرائعهم، وقلوبهم، وكلمتهم، وصوتهم، قبل أن تغتاله سهام الفرقة لعلة السياسة.

لقد جمعت القبلتين وحدة واحدة في البناء – على أرجح الأقوال – وهو نبي الله إبراهيم – عليه السلام – والذي ولد في العراق بعد الطوفان العظيم، وبعثه الله إليهم إلا أنهم كذبوه فأمره الله بالهجرة إلى أرض كنعان في فلسطين، قبل أن يأمره بترك زوجته هاجر وابنه اسماعيل في أرض فلاه جعلها الله مباركة بعد ذلك، ثم أمره بوضع حجر البيت الحرام ورفع بنيانه بمشاركة ابنه إسماعيل قبل أن يعود إلى فلسطين حيث وهبه الله ابنه اسحاق الذي يقال انه رفع قواعد المسجد الأقصى بعد الحرام بأربعين سنة مع ابيه إبراهيم، فجمع الله – سبحانه – وحده المسلمين على هاتين المسجدين حيث جعلهما قبلتا المسلمين، وسبيل وحدتهم.

إن لحادثة تحويل القبلة في النصف من شعبان بعد ثمانية عشر شهرا من هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم - أبعادًا كثيرة؛ منها: السياسي، والعسكري، والديني، والتاريخي؛ حيث جعلت من الجزيرة العربية محور الأحداث، وتمثل البعد التاريخي بأنها ربطت هذا العالم بالإرث النبوي لإبراهيم عليه السلام، والذي تحقق بعد آلاف السنين بفتح مكة، وإنهاء الوضع الوثني في المسجد الحرام؛ وتحوله لمركز التوحيد بعد أن كان مركزًا لعبادة الأصنام، عبر ربط القلب بالحنيفية، وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها من الأديان السابقة.

إن الصفات التي جمعت الجيل الأول والذي عايش تحويل القبلة والتي اختلفت عن الجيل الذي حمل جينات النفاق لهذا الحدث، هي نفس الصفات التي تعيشها الأمة اليوم مع أبنائها.

فقد ميز تحويل القبلة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الذي تعاملوا مع الحدث بريبه، حيث استجاب المؤمنون للنداء فورا حتى وهم في صلاتهم، فما أن سمعوا المنادى أن الله أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام حتى اتجهوا بقلوبهم قبل أجسادهم مباشرة إلى القبلة الجديدة دون انتظار الاستعلام من النبي أو لماذا حدث ما حدث، لكنه صدق الإيمان الذي تملك القلوب في المبلغ والمبلغ له، وهو بخلاف من كذب هذه الحدث وتملكه الغضب من التحويل مثلما يحدث اليوم مع أقوام يلهثون خلف التطبيع من الكيان المغتصب على حساب أولى القبلتين وثالث الحرمين، ويتاجرون بأرواح المرابطين حول الأقصى.

لقد كان المسجد الأقصى أول قبلة للمسلمين، وهذا فيه العديد من الدلالات والمعاني الجليلة، والبعد العقدي والارتباط الإيماني، فالقبلة رابط لتوحيد الأمة، إذ لو تُرك كل إنسان يتجه حسبما يريد، لافترق الناس واختلفت وجهاتهم، ففي معنى القبلة الترابط والتآخي والنصرة والوحدة ورمز الوجود والقوة.

لقد كانت قبلة المسجد الأقصى فيها عبرة تخليص الجيل الأول الذي أمن بالرسول صلى الله عليه وسلم من النعرة القبلية ورواسب الجاهلية التي كانت تحيط بالمسجد الحرام، حتى إذا خلصت القلوب وتجردت لله الواحد القهار جاء الأذن بالعودة إلى القبلة الأم وهي المسجد الحرام الذي كان أول بيت وضع للناس في الأرض.

لقد بدأت الرحلة بفرض الصلاة من معراج بالمسجد الأقصى وانتهت بتحويل لقبلة الصلاة إلى المسجد الحرام.

يعتبر تحويل القبلة حدثا غاية في الأهمية، عكس ما يعتقد الكثيرون، وما كان القرآن الكريم ليهتم به وبذلك الشكل شرحا وتوضيحا في تسع آيات بينات من سورة البقرة،: {سيقول السفهاء ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}، إلى قوله سبحانه {ولأتـم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون} (البقرة: 141- 149)؛ حيث أبرز الحق سبحانه دواعي التحويل تضاف إلى دلالات ترتبط بسياق الحدث وأخرى بسلوك المسلمين أفرادا وجماعة، إلى قيام الساعة.

لقد كان تحويل القبلة درس عملي وحدث كاشف فاضح للجميع حيث تجلى فيه كما يذكر المصطفى السنكي:

1-    ترضية ومواساة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2-    التأكيد على مرحلة جديدة للمشروع الإسلامي تحريرا للكعبة من الأصنام وقلب ميزان القوة لصالح المسلمين والذي جاءت غزوة بدر بعد تحويل القبلة بأقل من شهر لتأكيده.
3-    تمحيص الصف الإسلامي وقياس مدى قدرته على التدافع وقابليته للبذل والتضحية بعد سنوات التربية وبناء العامل الذاتي، قال تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله}(البقرة: 142).
4-    التمايز العقدي دفعا لأي التباس قد يقع فيه عوام المسلمين.
5-    استقبال القبلة رمز لتوحيد الوجهة حسا ومعنى، وانجماع القلوب على غاية واحدة، حماية للأمة من انفـراط الأمر واختلاف الرأي وانتشـار الفرقة بين المسلمين.

سيظل المسجد الأقصى الذي أسرى الله بنبيه إليه ليصلى برسله وأنبيائه ثم يعرج من على صخوره إلى سدرة المنتهى لتفترض عليه الصلاة التي جعلها الله وحدة للمسلمين حيث يصدعون بها خمس مرات في اليوم والليلة لتنتهي رحلة الإسراء إلى بداية الرحلة بالمسجد الحرام والتي جعلها الله قبلة خالصة للمسلمين توحد كلمتهم وصفوفهم، مع التأكيد على الرابط الوثيق الذي يجمع بين القبلتين فلا تفريط في أحدهما.