بقلم: جمال عبد الغفار بدوي

فلما كانت الليلة الخامسة والثمانون بعد المائة الثالثة بعد الألف التاسعة، قالت فقرزاد:

بلغني أيها الملك السعيد، أنه قد وقف أمام الرشيد، ثلاثة قرندلية، في هيئة مزرية، فسألهم ما الذي حدث لهم، وأخرجهم من بلادهم؟ وسأل الأول: هل أنت ولدت أعور؟ قال: لا والله.. أنا قد حدث لي حديث عجيب، وأمر غريب، ولي حكاية لو كتبت بالماوس، على الوورد أو الأوفيس، لكانت عبرة لمن اعتبر واقتبس.

 

فسأل الثاني والثالث، فقالا مثل ما قال الأول، فالتفت إليهم الخليفة وقال: كل واحد منكم يحكي عن حكايته.

 

فتقدم الأول وقال: أما سبب نتف ذقني وقلع عيني أن والدي مواطن شريف، له أخ- أيضًا- مواطن شريف في بلدة أخرى، واتفق أن أمي ولدتني ووُلد ابن عمي في يوم واحد، ومضت سنون وأعوام وأيام، حتى كبرنا، وكنت أزور عمي، وأقعد عنده أشهرًا عديدةً، فأكرمني ابن عمي غاية الإكرام، وذبح لي الأغنام، وسهرنا حتى انتشينا وانسجمنا، فلما تحكَّم منا الوداد والصفاء، قال لي ابن عمي: يا ابن العم، لي إليك حاجة مهمة، وأريد أن لا تخالفني فيما أريد أن أفعله.

 

فقلت له: حبًّا وكرامةً، فاستوثق مني بالأيمان العظام، ونهض من وقته وساعته، وغاب قليلاً، وعاد وهو يحمل حصَّالته، وقال هذه فيها كل ثروتي، وما ادخرته في حياتي ودنيتي، وقد حاولت- كما تعلم- يا ابن عمي أن أزيل بها حزني وهمي وأدفع كل هذه الثروة- إكراميةً أو رِشوةً- للحصول على عمل أو وظيفة، أعيش منها عيشةً شريفة، فضحك مني المرتشون، وقالوا: هذه لا تشتري قميصًا أو بنطلون، ولكن يمكنك أن تبتاع بها قليلاً من البونبون!!

 

ولا يخفى عليك أن أبي قد استغنت عنه شركته بعد خصخصتها، وبعد تحويلها إلى خردة ومصمصتها، تمامًا كما فُعِلَ بأبيك، وخالك وأخيك، وجميع مَن في القُطرِ الذي يُؤويك، ومن يومها فقد أصيب عمك بالاكتئاب، ويرفض الخروج من الباب، وأصبحتُ أنا المسئول، عن توفير الملبس والمشروب والمأكول.

 

فقلت: يا ابن عمي قد أطلت الشرح، ولو استطردت لبلغنا الصبح، قل ما شئت وحدِّد، فإنني سأنفذه بلا تردُّد.

 

فقال: لقد قررتُ الظهورَ في البرامج الفضائية، والمطالبةَ بحرية الانحرافات الأخلاقية!!
فانتفضت قائلاً: أستغفر الله العظيم، من الشيطان الرجيم، ما هذا الهراء والتخريف، وأنت رجل مسلم شريف؟! هل استذلَّك الشيطان يا ابن العم، بعد ما ركبك من البطالة والفقر والهمّ؟!
فقال: معاذ الله!! إنني ما زلت أؤدي الفرض، ولم ألوِّث الشرف والعِرض، ولكن هذه سبُّوبة مضمونة، وعواقبها يا أخي مأمونة.

 

فقلت: كيف.. طالما ستتهم نفسك على رؤوس الأشهاد، بشيءٍ تشمئز منه جموع العباد؟! ستُحاصَرُ في الطرقات والسكن، بعدما ستشوِّه سمعة الوطن!!

 

فضحك بملء فيه، وقال: يا لك من ساذجٍ عبيط، لا تفهم في السياسة ولا التربيط!!
واحتدم بيننا الخلاف والفصام، وانتهى بالفراق والخصام، حتى ظهر في برامج الشو الفضائية، ودعا دعوته اللا أخلاقية، وباتت عائلتنا محطَّ الأنظار، يرمقنا الجميع بنظرات الاحتقار، فقررتُ أن أردَّ لأهلي الطيبين الاعتبار، فوقفت أمام باب المسجد، وتبرَّأت من ابن عمي بلا تردُّد، وللحقيقة وللتاريخ لا أذكر ما حدث بعد ذلك؛ إذ تكاثرت عليَّ المهالك، واتُّهمتُ بالتجمهر والتظاهر، وحوكمت بتهمة التخابر، مع جهات أجنبية، وتعكير الأجواء الأمنية!!

 

واشتعلت التظاهرات والفعاليات في عواصم الفرنجة، كلها تطالب بذبحي كالنعجة؛ لاعتدائي على ابن عمي وحريته الشخصية، والتطاول على ثقافة العولمة الإباحية.

 

وفي التوِّ استجابت الجهات المعنية، وسارعت إلى درءِ الفتنة، والثأر لابن عمي عليه اللعنة، خاصةً لكونه صار من المشاهير المُحصَّنين، والأثرياء الدوليين، ولم تستجب الدولة لوساطته، وأصرَّت على ألا تفرِّط في حقها،  وحوَّلتني للمحاكمة العسكرية، وصادرت حصالتي الفارغة المهرية، وقد أُفرِج عني بعد عدة سنين، فهاجرت منذ ذلك الحين، وحمدت الله أن الضابط اكتفى بنتف ذقني وقلع عيني اليمين، بعد ما شاهدت ما يفعلون ببعض المساكين!!

 

وهنا انخرطت فقر زاد في البكاء والعويل والنواح، فسكتت عن الكلام المباح.