فلما كانت الليلة السادسة والثمانون بعد المائة الثالثة بعد الألف التاسعة؛ قالت فقر زاد:

بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي السديد، أن القرندلي الأول حكى حكايته، ثم قال: فلما حدث لي كل هذه الشرور، وتغيرت الأمور، قصدت هذه المدينة، لعلي أجد أحدًا يوصّلني إلى أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، حتى أحكي له وأبثّ قصتي وما جرى لي؛ فوصلت إلى هذه المدينة الليلة، فوقفت حائرًا أين أمضي؟ وإذا بهذا القرندلي واقف فسلّمت عليه، وقلت له: غريب، فقال: وأنا غريب. فبينما نحن كذلك وإذا برفيقنا الثالث جاء إلينا وسلّم علينا وقال لنا: غريب، فقلنا له: ونحن غرباء، فمشينا وقد هجم علينا الظلام، فساقنا القدر إلى عندكم، وهذا سبب حلق ذقني وشواربي، وقلع عيني.

 

فقال الخليفة: ملِّس على رأسك وروح، فقال: لا أروح حتى أسمع خبر غيري!

فتعجبوا من حديثه، ثم تقدم القرندلي الثاني وقال: أما أنا ما ولدت أعور ولي حكاية عجيبة، لو كتبت بالكيبورد، على برنامج الوورد، لكانت عبرةً ليس لها حدّ، وهي أني كنت رجلا ابن ذوات ، وقرأت الكتب والموسوعات، وقرأت علم النجوم، وتفوقت في سائر العلوم؛ حتى شاع ذكري في سائر الأقاليم والبلدان، ورُويت اكتشافاتي في البراري والوديان، فأرسل إلي ملك الهند والسند، يطلبني وأرسل إلى أبي هدايا وتحفًا تصلح للملوك، فجهزني أبي في ستة مراكب، وعندما وصلنا بعد عدة شهور، استقبلني ملك الهند والسند، بالترحاب والود، وبعد انتهاء مراسم الاستقبال، صرف جميع الرجال،وانتحى بي جانبًا في القصر، وقال: الآن سأبوح لك بالسرّ!

 

لدينا مشكلة كبيرة، تهددنا بكارثة خطيرة، فلقد صنعنا قنبلة نووية، ولدينا حياة ديمقراطية، وتقدمنا في الصناعات الكمبيوترية، ولكن مشكلة الفقر، مازالت تنتشر في أرجاء القطر، وقد بلغني نبوغك في جميع العلوم، ومقدرتك الفائقة على وضع الخطط والحلول.

 

فقلت له: بإذن الذي رفع السماء، وخلق اليابس والماء؛ سأخلصك من هذه الهموم، بما فتح عليّ من العلوم.

 

وماهي إلا عدة شهور، حتى انتظمت الأمور، كما هو مخطط ومرسوم، وحققت للملك أحلامه وأمنياته، فما كان منه إلا أن زوجني كبرى بناته.

 

وأقيمت الأفراح، والليالى الملاح، وطاب لي في بلاد الهند والسند المقام، حتى هاجني الشوق والحنين، إلى موطن أهلي بعد بضع سنين، فلما رأى الملك مني الإصرار والإلحاح، جهزني ذات صباح، بكنوز وأموال، لم يحصِّلها من قبل أحد من الرجال.

 

وسارت بنا القافلة العظيمة، حتى وصلنا إلى مراتع الأهل والديار، وراعني ما أصابها من فقر وانهيار، وتخلف بعد التقدم والازدهار، وعلمت أنها صارت تحتكر الأصفار، وأدنى المراتب والدرجات، بين جميع الممالك والإمارات!

 

واعتكفت في الدار أكثر من أسبوع، أذرف أنهارًا من الدموع، فقامت زوجتي الأميرة الهندية، ومسحت دموعي بكل حنية، وقالت: أنت من أذكى العلماء، فلماذا العويل والبكاء؟ لقد أفاض الله عليك بالعلم والمال، فقم وحقق ما تصبو إليه من الأحلام والآمال، وأنا معك حتى تسعد قومك، كما أسعدت أهلي في بلاد الهند والسند.

 

فشكرتها على نصيحتها، وحسن عشرتها، وشمَّرت عن ساعد الجد، لتكون بلادي أفضل من مملكة الهند والسند.

 

ولكن حدث بعد ذلك، الكثير من المهالك؛ إذ رحبت بي الجهات المعنية، وأقسموا أن يذلّلوا أمامي جميع العقبات الفنية، ولكنهم طلبوا بعض الرسوم والمكوس، فدفعت ما طلبوا من الفلوس، ثم ما لبثوا أن طلبوا أن يراجعوا بأنفسهم المشروعات، ليتأكدوا أنها لا تتعارض مع منظومة السياسات، ولا تجور على ما يسود البلاد من حريات، فقلت: حبًا وكرامة، فقالوا: ولكن سيحتاج الأمر إلى لجان ومستشارين، وخبراء ومختصّين، وهؤلاء تكلفتهم كبيرة، وخزائن البلاد فقيرة!

 

فقلت: وأين أموالي وثروتي؟! كلها فداء أهلي وعشيرتي.

 

ولم أبخل أبدًا في سبيل تحقيق المشروعات، وعرفت أن هناك بنودًا تسمى إكراميات، ورشاوى تسمى تسهيلات، فقلت إنها سلبيات، ستنتهي بعد انتشار الرخاء، بيد أن الأمر طال وساء، وازدادت الرسوم والمصروفات، فأبديت قليلاً من الاعتراضات، فاهتمَّ كبار الأعيان، وأرغموا هذه اللجان، أن تصدر تقريرها قبل فوات الآوان، فجاء بالموافقة، ولكن التقرير أوصى أن تتولى الهيئات الرسمية، تنفيذ هذه المشروعات القومية، لما لها من صفة السرية.

 

فسلمت لهم ما بقى من ثروتي، وأنا في قمة سعادتى، ورضيتُ بعيشة الفقير الصعلوك، ومعي زوجتي ابنة الملوك، وانتظرنا الشهور والسنوات، ولم نرَ المشروعات، فتوجهتُ بالسؤال، فاقتادني عشرة رجال، وحوكمت محاكمة عسكرية، بتهمة احتقار المؤسسة القومية، والتشكيك في شفافيتها المالية، وعندما تدخَّلت زوجتي الهندية، واجهوني بتهمة الاستقواء بمملكة أجنبية، وتدهورت صحتي في السجن، من الكرب والحزن، وفقدت عيني من كثرة البكاء، وفقد العلاج والدواء.

 

وتعرّفتُ في الحبس على أحد المجرمين، الشرفاء المحترمين، ساعدني على الهروب، ونصحني بنسيان العلم المحفوظ أو المكتوب، وادَّعاء الغباء والجهل، وقال إنّ تعلّم اللصوصية أمرٌ سهل، يضمن لي الحياة الكريمة، في منظومة قومية عظيمة.   

 

وهنا انخرطت فقرزاد في البكاء والعويل والنواح ، فسكتت عن الكلام المباح.