"أمي، أبي، إخواني، أخواتي، زملائي في جيش الدفاع: أتوجه إليكم من سجني بالتحية، وأنا في شوق إليكم".. بهذه العبارة بدأ الفيلم الكارتوني القصير ثلاثي الأبعاد، الذي أنتجته كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، والموجه للرأي العام الصهيوني، ومن ثَمَّ الفلسطيني.

 

كان ناعوم يسير وحده في طريقٍ طويلٍ لمدينة شاسعة، والكلمات السالفة- رقيقة البنط، باهتة اللون- تتحرك على التتر، تحتاج إلى جهدٍ للتعرف عليها، بينما الموسيقى التصويرية غارقة في الحزن.

 

في وسط الطريق ينظر ناعوم إلى لوحة انتخابية يظهر فيها أولمرت وهو يرفع يديه: "أعدكم بإطلاق شاليط"، يرمقه ناعوم ثم يُكمل سيره، تتحرك على التتر كلمات أخرى لشاليط: "يؤسفني عدم اهتمام الحكومة الإسرائيلية وجيش الدفاع بإطلاق سراحي".

 

تمر وتيرة الزمن بطيئة، يصل ناعوم إلى المحطة التالية ليواجه لوحة دعائية لـ"تسيبي ليفني"  تكرر نفس الوعود: "أعدكم بإطلاق سراح شاليط "، ثم تأتي محطة نتنياهو: "أعدكم بإطلاق سراح شاليط".

 

في هذا الوقت تتحرك على التتر كلمات أخرى بائسة لشاليط: "أنا آمل من الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو ألا تضيع الفرص الآن، لإتمام عملية التبادل، ونتيجة لذلك أستطيع بعد طول انتظار تحقيق حلمي وأتحرر".

 

لم يستمع نتنياهو للنداء، يمر الزمن سريعًا، يَعْبُر ناعوم الطريقَ ليواجه لوحةً أخرى عليها وُضعت عليها صورة سوداء لمرشح مفترض، يُعطي نفس الوعود، ويرد شاليط: "آمل أن تهتم بي حكومتي أكثر".

 

يأخذ التعب من ناعوم مبلغه، لكنه ما زال يسير في الطريق وحده، يلتقط من القمامة إعلانًا يحمل صورة ابنه وجندي مختطف آخر، وحوافز قيمة لمَن يُدلي بمعلوماتٍ عن الاثنين.

 

ثم تعلن الحكومة الصهيونية تدشين وزارة للأسرى والمفقودين.

 

يلقي ناعوم بالإعلان من بين يديه، وقد تحوَّل إلى شيخٍ طاعنٍ في السن طالت لحيته البيضاء، ويستند على عصا، لكنه لا يزال يتأبط ملف ابنه- الجندي الأسير-.

 

يقف أمام وزارة الأسرى والمفقودين، يرمقها بأسى ثم يغادر بلا أمل، تمطر السماء وترعد، ويتهاوى البرق، وناعوم وحده في المدينة الخالية من سكانها، ما زال يسير ثم يسير.

 

ثم يعد رئيس وزراء مفترض الناخبين بمعرفة مصير جلعاد!

 

لكن أخيرًا تتكلل جهود الحكومة الإسرائيلية بالنجاح وتنجز صفقة تبادل الأسرى، وينتظر ناعوم ولده أمام معبر إيريز.

 

يمر باص المحررين في اتجاه، وفي الناحية الأخرى يأتي جيب عسكري، وسيارة سوداء يفتح الباب الخلفي ليخرج تابوت جلعاد ملتفًا بالعلم الإسرائيلي، يفيق ناعوم من الحلم المروع في محطة الباص صارخًا، ثم يأتي التحذير قويًّا "ما زال هناك أمل".

 

رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو وصف فيلم حماس بـ"الخطوة السافلة الإرهابية"، أما ناعوم شاليط والد جلعاد فاعتبره يأتي في سياق الحرب النفسية التي بدأتها حماس مستغلةً أسرة الجندي المختطف.

 

بعيدًا عن مهاترات هؤلاء اعتمد الفيلم الذي لم يتعدَّ ثلاث دقائق ونصف، تقنية عالية سواء في السيناريو المكتوب بحرفية هائلة، أو الإخراج المتميز، أو المؤثرات المبهرة، أو الرسائل الضمنية المغلفة بسياجٍ نفسي هائل والمُوجَّهة للكيان الصهيوني لتشير إلى أن:

* حماس لا تتقبل الضغوط بسهولة حتى مع الحصار، وإغلاق المعابر، وحرق الأنفاق، والاستيلاء على تلال المساعدات الإنسانية على بعد أمتار من الحدود.

 

* حماس لن تبرم الصفقة إلا بشروطها مهما طال الزمن.

 

كما حمل الفيلم رسالةً لأهالي الأسرى الفلسطينيين: بأن الأمل موجود، وشاليط وغيره من الأسرى المفترضين مجرد أدوات؛ لتحقيق الحلم الذي يوشك بالصبر أن يصبح حقيقةً.

 

عبَّرت الرسالة المبتكرة الوسيلة واستقرت أمام عين المستقبل، تنتظر ردة فعل.

 

ما يدور على بعد خطواتٍ من القاهرة، وإن كانت القاهرة لا تدركه تمامًا هو: حرب شرسة بين خصمين يعرف كل منهما الآخر معرفةً جيدةً، فلفترةٍ طويلةٍ كانت المبادرات والتفهمات والاتفاقيات تُبرم بين الكيان الصهيوني مع دول كبيرة وعتيقة بالكليات، ثم يربط الصهاينة مواقفهم بقراءتهم وتفسيرهم للتفاصيل والجزيئيات كما يريدون أن يقرءوها هم.

 

حماس تجاوزت هذه المرحلة وأعطت للعرب دروسًا في كيفية إدارة الصراع وجهًا لوجه في الحروب ولو كانت غير متكافئة، وفي التفاوض غير المباشر ولو عبر وسيط.

 

منذ عام تقريبًا، قامت حماس بتسريب أخبار عن إصابة شاليط في حرب غزة، مع عدم الكشف عن طبيعة الإصابة لتحريك الرأي العام الصهيوني"، والوسيط في القاهرة مشغولٌ بفبركة قضية التنظيم الدولي للإخوان لتذهب بهم بعيدًا عن هذا الملف، على اعتقاد أن ذلك سيُسهل إتمامه، إذ إن القاهرة كانت ترى أنها كانت أمام موقف الفرصة أو اللحظة الأخيرة:

إما مزيدًا من الضغوط على حماس لإقرار التهدئة والصفقة بأي ثمن، قبل مجيء نتنياهو وليبرمان، وإما أن تُرحل الملفات برمتها لأربعة أعوام أخرى!، أي أن القضية والاعتقالات- في القاهرة- كانت رسالةً موجهةً إلى حماس في المقام الأول.

 

بعد ذلك بستة أشهر حرَّرت حماس بلقطة متلفزة لشاليط استمرت ثوانيَ 21 أسيرةً.

 

وفي الوقت الذي بدأت فيه القاهرة فتح ملف التنظيم الدولي من جديد؛ لتحقيق المزيد من الضغط على حماس لإنجاز صفقة شاليط، في وقتٍ تحتاجٍ فيه عملية تمرير السلطة فيها إلى توافق: طرف إقليمي وآخر دولي على إتمامه- كما يعتقد حكماء النظام- تجاوزت حماس الجميع وخاطبت الرأي العام الصهيوني بشكلٍ مباشر، وفي العمق.

 

ويبقى السؤال المطروح:

كم سيعود على حماس من شريطٍ استمر دقائق قليلة؟

 

أعتقد أنه في كل الأحوال الكثير، فقد تأكَّد الصهاينة مرارًا وتكرارًا من أنهم عثروا على ندٍّ لهم، كما أن تقلبات الرأي العام الصهيوني لا تتعامل مع المخزون التراكمي لإنجازات الساسة بقدر تعاملها مع الموقف الحالي.

 

لكن يبقى لِأُسَر آلاف المختطفين والمعتقلين والمفقودين في الدول العربية، والذين بُنيت على أنقاض حريتهم دعائم استقرار زائف، الحق في إنشاء وزارات للأسرى والمفقودين، فمئات الآلاف منهم أحق من شاليط بالحرية، ربما هذا درس مهم طَرَحَه الشريط في سياق رسائله.