لما كان الكيان الصهيوني من طبيعة خاصة، وأنه وُجد خارج دائرة القانون، فمن الصعب على الباحث أن يقيس تصرفاته وفقًا لأحكام القانون الدولي، غير أن الكيان الصهيوني رغم ذلك يحاول أن يُدخل تصرفاته في إطار المشروعية القانونية، حتى يوهم العالم بأنه دولة قانونية في نشأتها، وفي تنظيمها وإدارتها وفي سلوكها.

 

ولذلك فإن أقصى ما يشعر به الكيان الصهيوني هو التهديد بكشف حقيقته، ونزع الغلالة الرقيقة المزعومة للشرعية عنه.

 

فلا بد أن يلاحظ القارئ هذه المساحة الحساسة في المواجهة بين الكيان الصهيوني والعالم الخارجي؛ لأن المواجهة بين الكيان الصهيوني والعرب دفع الكيان الصهيوني إلى تصوير نفسه على أنه ضحية العرب، ولذلك فقد كان منطلقه هو قرار تقسيم فلسطين، وهو القرار الوحيد الذي رُخِّص لقيام الكيان الصهيوني، ومع ذلك يرى الكيان الصهيوني أنه مجرد اعتراف من المجتمع الدولي لحقيقة أكبر، وهي أن فلسطين كلها إرث اليهود التاريخي.

 

كان واضحًا للكافة ما حدث في أسطول الحرية، الذي كان يسعى إلى كسر الحصار عن غزة, ولم يكن هناك خلاف على أن القوات الجوية والبحرية والصاعقة للكيان الصهيوني قد شنَّت هجومًا على هذا الأسطول بتعليمات سياسية، وكان القتل هو المطلوب كأداة لردع كان واضحًا أيضًا.

 

إن أسطول الحرية يضم مدنيين قادمين من عدة دول برسالة واحدة؛ وهي تحدي إرادة الكيان الصهيوني في استمرار جريمة الحصار على غزه؛ ولذلك فإن ما قام به الكيان الصهيوني ضد أسطول الحرية هو جريمة مركبة وقتل متعمد، ينطوي على عدد من الجرائم المتعلقة بقانون البحار وأمن الملاحة المدنية والتجارية فيه, وكذلك القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي والقانون الدولي العام، ما يعرِّض الكيان الصهيوني للملاحقة الجنائية الدولية، وكذلك الملاحقة القضائية الدولية, فضلاً عن تمكين المجتمع الدولي من نزع الشرعية عن الكيان الصهيوني.

 

ورغم أن الكيان الصهيوني قد ضُبط بالجرم المشهود المُصور والمسجل، والذي لا شبهة فيه؛ إلا أن الكيان الصهيوني والولايات المتحدة قرَّرا قلب المائدة والقفز من دائرة التجريم والعقاب, وهو درس في فنون الدجل القانوني الذي أجاده الكيان الصهيوني، والحقيقة أن العالم كله يراقب باهتمام شديد محاولات الكيان الصهيوني للخروج من هذا المأزق القانوني المؤكد، بعد أن شُهد له بالخروج من عدوانه على لبنان عام 1982م بأنه عمل من أعمال الدفاع الشرعي لتغيير البيئة المحيطة به، والقضاء على منظمة التحرير التي تهدده من لبنان, كما برَّر الكيان الصهيوني عدوانه على مصر عامي 1956, 1967م بأنه دفاع شرعي استباقي عن النفس.

 

وساق نفس الدافع تبريرًا لمحرقة غزة, كما أنه اعتصم مرة أخرى بنظرية الدفاع الشرعي ضد أسطول الحرية، ويلاحظ أن الكيان الصهيوني ومعه الولايات المتحدة يعتبر نفسه الثابت الصحيح، والقابض على حقه، وأن غيره أعداء يتربصون به، وهم متغيرات يعتدون عليه، وهم المتغيرات أمام هذا الثابت الوحيد؛ ولذلك فإن الانقضاض عليهم حق طبيعي للكيان الصهيوني وفق تقديره وحاسته الأمنيَّة.

 

بدأ الكيان الصهيوني بالصمود أمام الإدانات الدولية على أمل أن تنكسر كل هذه الإدانات على صخرة الكيان الصهيوني، ورفض الاعتذار لتركيا أو غيرها, ثم رفض رفضًا قاطعًا فكرة التحقيق الدولي المستقل، حتى لو كلَّفه ذلك خسارة العلاقات مع تركيا، وسانده في ذلك الولايات المتحدة التي طالب بعض أعضاء الكونجرس فيها بمنع دخول أعضاء أسطول الحرية؛ حيث قررتا أمريكا والكيان الصهيوني أن هذا الأسطول يضم إرهابيين، وهو هجوم إرهابي على الكيان الصهيوني، متخفيًا بذريعة كسر الحصار والمساعدات الإنسانية.

 

وقد بدأت المصادر الصهيونية تحاصر أردوغان حتى ترهبه وتمنعه من المضي في ملاحقة الكيان الصهيوني, كما نشرت عشرات المواقع الصهيونية معلومات عما أسمته التاريخ الإرهابي للجمعية التركية صاحبة سفينة "مرمرة"، وهي التي واجهت الجزء الأكبر من الهجوم الصهيوني، كانت الخطوة الثالثة أن الكيان الصهيوني شكَّل لجنة له خاصة مع مراقب أمريكي للتحقيق، ورغم المطالبات الدولية في مجلس الأمن والأمين العام ومجلس حقوق الإنسان إنشاء لجنة دولية للتحقيق، وقد لقيت لجنة الكيان الصهيوني ترحيبًا من الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية وكندا وروسيا.

 

في نفس الوقت الذي يعلن فيه الكيان الصهيوني نيته في التخلُّص من غزة، وإلقاء هذه الكرة الملتهبة في حضن مصر التي ساندت الكيان الصهيوني في مخطط حصار غزة، فكانت مساندتها سندًا مباشرًا في تورُّط الكيان الصهيوني في جريمة أسطول الحرية، تمامًا مثلما اتهم الكيان الصهيوني مصر بأنها هي التي دفعته إلى محرقة غزة؛ بحجة التخلُّص من حماس.

 

من الواضح أن لجان التحقيق للكيان الصهيوني منذ حرب أكتوبر 1973م، مرورًا بغزو بيروت 1982م، والعدوان على لبنان 2006م، ومعركة غزة 2008م- 2009م، حتى لجنة التحقيق في جريمة أسطول الحرية, كل هذه اللجان كان لها مهمة واحدة؛ وهي بيان الأخطاء التي ارتكبها الكيان في التنفيذ، فالهدف صحيح، ولكن التنفيذ حقَّق الهدف مقابل ثمن مرتفع، وذلك حتى يعمل الكيان الصهيوني بعد ذلك؛ لتحقِّق هدفها المشروع دائمًا بأقل قدر من التكاليف السياسية والعسكرية والأخلاقية, على أساس أن الكيان الصهيوني هو صاحب الحق دائمًا في مواجهة أي طرف آخر، ونظرًا لوحشية الجريمة، وقد تفتق الذهن الصهيوني عن حيلة قانونية تؤدي إلى تحوُّل الكيان الصهيوني من قاتل إلى ضحية، ومن هدف الهجوم إلى هدف للرثاء والتفهم والمساندة، وقد ظهرت هذه الحيلة في المهمة التي تحددت للجنة التحقيق الصهيونية, رغم أن القضية في أساسها هي بين الكيان الصهيوني المعتدي والمجتمع الدولي، والذي يحمي ضحايا العدوان, ورغم أن القاتل لا يجوز له أن يصطنع دليلاً لنفسه, ولا يجوز أن يكون الكيان الصهيوني خصمًا وحكمًا في نفس القضية، فمهمة اللجنة هي تأكيد مشروعية الحصار على غزة، حتى تكون محاولات كسر الحصار غير مشروعة، وحتى يكون تصدي الكيان الصهيوني بالقوة وبالقتل لهذه المحاولات من جانب أسطول الحرية دفاعًا عن حق مشروع، وهو ضمان عدم تحوُّل غزة إلى منصة للهجوم على الكيان الصهيوني.

 

كذلك أعلنت اللجنة أنها ستوثِّق حقيقة جديدة، وهي التاريخ الإجرامي للجمعية التركية؛ لكي تنتهي اللجنة إلى قرار وهو مطالبة تركيا بالاعتذار، ولأن قتلاها في أسطول الحرية لا يستحقون التكريم، وأن العالم كله لا بد أن يعتذر للكيان الصهيوني وإلى جيشه، الذي قام بعمل بطولي ضد هذا الغزو الإرهابي، وتنظيف البحر المتوسط من "الإرهاب الإسلامي"، بل إن هذه اللجنة قد تتهم الحكومة التركية بمساندة الإرهاب، ويبدأ الكيان الصهيوني حملة عالمية على أوردغان في الداخل مع العلمانيين، وفي الخارج لإدانة توجهاته الإسلامية الإرهابية, وذلك حتى يدفع الرجل إلى الاعتقاد أنه أساء التصرُّف؛ فيندم على فعلته، وأنه مدّ يده في "عش الدبابير"، فيكون ذلك درسًا لغيره، والحقيقة أن الصحف القومية المصرية تساند هذا الاتجاه؛ حيث بدأ حملته على تركيا، فأصبح الكيان الصهيوني والاتجاه العربي في جانب، وتركيا وحدها في جانب آخر.