تعدَّدت صور البطولات والملاحم التي رسمها الفلسطينيون بقصص صمودهم وصبرهم وثباتهم على أرضهم ومقاومتهم للمحتل، وخلف كل قصة كان هنالك فارس وبطل، ومن بين هذه القصص والحكايات تبرز قصة شيخنا محمد أبو طير، صاحب المدرسة الأولى في التميز والإبداع.

 

عملاق بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.. لا تعرف نفسه للركود طريقًا.. لا تفتر همته ولا تستكين عزائمه.. مدرسة في الصبر والتحمل، لا يقيل ولا يستقيل، وعلى الدوام هو بأتمّ الجهوزية للتقديم والعطاء.

 

أكثر من ربع قرن تلك المدة التي أمضاها العملاق أبو طير متنقلاً بين سجن إلى آخر ينشر عبير عطره بين الأسرى ويُري عدوَّه صلابةً ومتانةً وإصرارًا على مواصلة الطريق حتى تعود الأرض حرة.

 

صاحب نفس أبيَّة، كان له الفضل بعد الله في إرساء ركائز الجماعة الإسلامية في السجون، فأرسى قواعدها، وسقى النبتة من دمه وعرقه وسهره، وتحمل في سبيل بقائها الكثير من الويلات والتضييق والأذى، فكبرت النبتة التي بقي الشيخ يعطيها من دون أن ينتظر أي مردود أو جزاء إلا من الله. 

 

في سجون الاحتلال حيث أمضى الشيخ أكثر من نصف عمره، غمر من حوله بحبه وعطفه وعلمه، فكان الشيخ أبو طير- أو كما يسمونه رفاق السجون بأبي مصعب الخير- الأب والأخ والصديق، وكان طول عمره عنوانًا للوحدة ونبذ الخلافات، يجمِّع ولا يفرِّق.

 

"قبطان السجون" هو اسم من أسماء صاحب حكايات العزة، فما إن تطأ قدماه سجنًا من تلك السجون التي نشرها المحتل على طول الوطن حتى يتسلَّم زمام إدارة السجن فيبدأ بترتيب أوضاع السجن وانتزاع حقوق الأسرى من بين براثن المحتل؛ فإدارة السجون تحسب للقائد ألف حساب كيف لا وهو القبطان؟!

 

روح الشباب هي من أكثر ميزات هذا الفارس الفذّ، وحماس الرجال سمته الدائم.. حيوية ما بعدها حيوية، وتألق ما بعده تألق.. روح محلِّقة على الدوام، وهمَّة لا تعرف للفتور طريقًا.. إنه العملاق محمد أبو طير.

 

في الأرض المباركة وُلد وفي ساحات المسجد الأقصى، تعلَّم فنون القتال.. روحه معلَّقة في صخرة الأقصى، ونفسه تعشق المسجد الأقصى، ما إن يخرج من سجنه حتى تكون مزاره الأول يجلس يتفيأ في ظل شجرها؛ يبث لحجارتها شوقه وحنينه وينقل لقبابها شوق الرجال في الأسر لها وينقل لها سلاماتهم وحنينهم وشوقهم.

 

عضو المجلس التشريعي الذي لم يُسمح له بالجلوس تحت قبته، فكان أول من اعتُقل، وتم إصدار أعلى الأحكام بحقه مقارنةً برفاقه من نواب المجلس التشريعي، خرج من سجنه يحمل على وجنتيه ابتسامته التي يعرفها الجميع، وحماسه الذي ما فتر في يوم من الأيام، ومنذ اللحظة الأولى التي أفرج عنه بها وتوجهه إلى المسجد الأقصى ومن حوله أهالي القدس المدينة العظيمة التي ما بخل أهلها عليه بأصواتهم؛ أعلن من هناك أول تصريحاته النارية: لن يكون هناك سلام أو استقرار، ما زالت القدس والأقصى أسيرين.

 

ولأنه العملاق أبو طير صاحب الأثر والتأثير والفعل ورد الفعل، ومنذ اللحظة الأولى للإفراج عنه أعلنت حكومة الاحتلال قرارها بضرورة إبعاد الشيخ العملاق عن مدينة القدس، وأعلن الشيخ ورفاقه من حوله رفضهم القرار، وقاموا بما قاموا من خطوات احتجاجية بدأت تحرِّك الشارع المقدسي، فقرر المحتل أن يشلَّ هذه الحركة، فاعتقل رأس هذه الحركة الاحتجاجية التي قالت للاحتلال: لا للإبعاد، فكان مصيره أن عاد إلى حيث كان، وإلى حيث اعتاد أن يكون، يحمل على كاهليه تلك السنين الطويلة من البعد عن الأهل ومن الحرمان، ولكن ابتسامته الساحرة ما زالت على حالها تزيِّن محيَّاه الجميل.

 

عاد الشيخ محمد أبو طير، صاحب اللحية الحمراء التي تشع نورًا وحيويةً وشبابًا.. وتتحدَّى بلونها تصاريف الزمان والشيب الذي نبت في غير وقته من كثرة القهر في السجون، عاد إلى السجون واليوم وفي تحدٍّ ما بعده تحدٍّ من قبل دولة الاحتلال تعود لتعرضه على المحكمة.. والتهمة أنه لا يريد أن يخرج من بيته ومن مسقط رأسه.

 

للشيخ أبو طير في زنزانته التي حوته وجلس بها أكثر مما جلس في بيته، أقول: لك الله يا شيخنا الجليل.. لك الله يا أبا مصعب الخير، قد يتمكنون من إبعادك عن مسقط رأسك وإخراجك من قدسنا بقوة سلاحهم وجبروتهم وظلمهم، ولكننا على يقين أن روحك ستبقى محلقةً حول القدس وحول المسجد الأقصى، فأنت من علمتنا أن الإبعاد سياحة والسجن خلوة.

 

شيخي أبا مصعب الخير، أنت حكاية ليست ككل الحكايات وملحمة ليست كبقية الملاحم وصورة ليست ككل الصور.. أنت حكاية من نوع آخر.. إنها حكاية نسجت بمنوال، العزة أنت حكاية بطعم العزة.

 

صبرًا أخي، فما بعد الضيق إلا الفرج، ولليل ساعات ويرحل، ولا يضرنّك ابتعاد القريب وجور البعيد وقلة الدعم والمساندة والتأييد.

-------------

* كاتب وباحث مختص في شئون الأسرى الفلسطينيين.