رجل من رجالات هذا الوطن، وليس كل رجال الوطن سواء، ففي البلاد الصالح، وفيها الطالح، وهذا شأن الحال في كل مكان، فارس وكذا الأمر ليس كل الفرسان بذات الشجاعة والقوة والقدرة وبنفس المستوى من التقديم والعطاء.

 

بحثت له في مصطلحات اللغة المعروفة لديَّ عن وصف أصف به ملك حكايتي وصاحب مقالي فلم أجد أجمل من لفظية الفارس المخلص صاحب حكايات الصمود التي لم تنته.. ملك ممكلة الصبر وقاهر رجال الشاباك وهازم المحققين.

 

وعن قصة هذا المقال فهي قصة قديمة بدأت معي فصولها لما كنت أنا والمجاهد أيمن في أحد أقبية التحقيق الممتدة على طول البلاد وعرضها، وقتها ولِمَا رأيته من صمود وصبر وتحدٍّ قرَّرت أن أكتب هذه الكلمات التي أريد من خلالها أن أوصل صورة فارس من فرسان هذا الوطن، كان على الدوام ينتصر على محقِّقيه ويخرج من كل اعتقال بأقل الخسائر.

 

قيل فيما مضى: إن للصبر حدودًا، وإن للإنسان قدرةً على التحمل، وبعدها تبدأ قواه بالانهيار وجسده في الاستسلام، وهذه الحال لا ينطبق على أيمن أبو عيد البتة، فقدرته على الصبر لا حدود لها، ولنفسه التي تعشق الأقصى والصخرة جلد وهمة عالية على صخرتها تتحطم كل الصعاب والتحديات.

 

أيمن أبو عيد أمضى ما مجموعه 14 شهرًا في أقبية التحقيق وزنازين التعذيب، منها 7 أشهر متواصلة عام 1999م إبَّان ضربة الشهيد عادل عوض الله وما تبعها من تفكيك للمجوعات والخلايا التابعة لحركة حماس، وخلال التحقيق مورس ضد الفارس الهصور أبشع صنوف العذاب وأصعبها، ولك أن تتخيل أن تكسر قدم إنسان في التحقيق وتجبر لوحدها وهو مشبوح ومعلق.

 

مرَّ الشهر الأول على المجاهد أيمن أبو عيد وهو معلَّق من كتفيه ولم ينطق ببنت شفة، فقال المحققون له في القادم من الأيام ستتحدث بكل ما نريد، فهزَّ لهم رأسه، وقال لهم: الأيام دول، ومرَّ الشهر الثاني وكذلك الشهر الثالث والرجل على حاله معلَّق، طالت لحيته، وغارت عيناه في جسده، وهزل الجسد، وبقي أيمن على موقفه، ومع كل يوم يزداد إصرارًا ويزداد المحققون معه قسوةً وخسةً.

 

 مرَّ الشهر الرابع وكُسرت خلالها قدمه من شدَّة الضرب، وساومه المحققون على أن يتحدث ويذهب إلى المستشفى أو يبقى على هذه الحال، فاختار أن يبقى على هذه الحال، وقد جبرت قدمه وهو مشبوح مع الأيام والليالي، وقد رأيته وقدمه مكسورة وبكت عيناي، فابتسم وقال لي: لا عليك، أنا مستعد أن أبقى عامًا كاملاً على هذه الحال، وسمعته يردد آيات من ذكر الله الحكيم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)) (آل عمران) فازددت إعجابًا بهذا الرجل، ومرت الأيام، وانتهت الأشهر السبعة، وخرج أيمن يجرُّ قدمه وعرجته معه لينتقل إلى السجن فأذهل منظره الأسرى.. من أي كهف قادم إلينا هذا القادم؟ ولماذا هكذا حاله؟! فاستقبلهم بابتسامته التي لا تفارق محيَّاه وقال أريد أن أستحمّ، وغطّ بعدها في نوم عميق حرم منه سبعة أشهر متواصلة.

 

 أما عن عدد اعتقالات أيمن أبو عيد فحدِّث ولا حرج، فلقد اعتقل الرجل الذي أمضى في سجون الاحتلال أربعة عشر عامًا، ولا يزال رهين الاعتقال بقضية جديدة مرات ومرات.
الاعتقال الأول لأيمن أبو عيد كان حينها يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا فقط لا غير؛ حيث اتُّهم بالتعرض لسيارات المغتصبين في مدينة القدس بالحجارة، واتهم بإصابات مباشرة حكم خلالها لمدة عامين، ليخرج من السجن ويعود ليعتقل مرةً أخرى في ذات العام الذي خرج منه بذات التهمة.

 

أيمن أبو عيد، المولود عام 1974م، من بلدة بدّو بمنطقة القدس، متزوج من زوجة صابرة مجاهدة، أكملت دراستها العليا، وانتظرت أيمن سبع سنوات وهي مخطوبة، حفظت غيبة زوجها وصانته، وخرج لها البطل؛ لتتزوج بمن أحبته وأحبها، وتم اعتقال الفارس مرةً أخرى، وعادت لتزوره في السجون وتلتقيه عبر الألواح الزجاجية وشبك الزيارة وخرج ليعاد اعتقاله..

 

تأخذ بناتها على كتفها تقطع الحواجز، وتمر على نقاط العبور تحمل كل هموم الحياة، وما إن ترى زوجها الغائب الأسير حتى تلاقيه بابتسامه تنسيه ألم البعد والفراق وتطمئنه عن أحوالهم، وتدعوه لعدم القلق عليهم.

 

أيمن صاحب اسم قد يكون الأكثر شهرة داخل سجون الاحتلال، فهو مبدع بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. مبدع في عالم نصب الخيام للأسرى، فمع بداية كل عام هناك معركة يخوضها الأسرى من أجل إنزال الخيمة وتعليق خيمة أخرى، وهذا بحاجة إلى جهد ونشاط، كان أيمن هو من يقوم بهذه المهمة الشاقة، وكان هو من يقوم بترتيب داخل الخيمة، ووضع الأقمشة التي تزيِّن الخيمة، كان يصاب بالذهول كل من يدخل الخيمة من الترتيب والنظام والجمال، وكان مبدعًا أيضًا في بناء (البرش)، وهو السرير الذي ينام عليه الأسير؛ فهو منجد ونجار متقن لعمله وسريع.

 

قد تكون من أكثر قصص أيمن أبو عيد شهرةً قصص تهريبه الأجهزة النقَّالة داخل الأسْر، فللرجل قصص وحكايات يشهد له الجميع؛ فهو تحدَّى إدارة السجون، وكان كل مرة يهزم الإدارة، ويدخل الأجهزة النقالة للسجن، وفي ذات مرة قامت إدارة السجن بالتضييق على الأسرى وسدِّ كل الطرق وإحضار أجهزة خاصة تكشف كل مستور، فكَّر أيمن وقال للشباب سأقوم بإدخال أجهزة.. تحدّوه وقالوا له لن تستطيع.. قاده ذكاؤه المميَّز إلى طريقة لا تخطر ببال بشر، طلب من أهله أن يحضروا ابن شقيقه للزيارة، وأن يقوموا بوضع الجبس على يد الصغير وكأنها مكسورة، وطلب منهم أن يخرجوا أسياخ بلاتين من اليد، وأن يوضع داخل الجبص جهازان نقَّالان، ومر الطفل من أمام الماكينات وأصدرت صوتًا وأدرك الجنود أن الصوت بسبب البلاتين ومرَّ الطفل، ووصل إلى الزيارة، وسمح للطفل أن يدخل عند عمه الذي ضمَّه وأخذ ما في يده من أجهزة وأخرج الطفل الذي كان يبكي من الألم والموقف بينما أيمن يبتسم ودخل إلى القسم والكل يسأل ماذا فعل أيمن، فأخرج الأجهزة، الكل يريد أن يعرف الطريقة.. رفض أيمن، واحتفل الجميع بالإنجاز من دون أن يخبر أيمن عن السر والطريقة.

 

هذه بعض القصص والملامح من صاحب حكايتنا، وأسال الله أن أكون قد وُفِّقت في إنارة شمعة أمام اسم من أسماء أسرانا وعمالقة العمل الجهادي في فلسطين.

 

فلأيمن أبو عيد من أخيك وصديقك ورفيق زنزانتك وسلوتك وأنت مشبوح.. كل الحب والاحترام والتقدير.

---------

* كاتب مختص في شئون الأسرى الفلسطينيين.