حَقِيقَةُ الأُخُوَّةِ فِي نُفُوسِ الإِخْوَان


(1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ 

الحمدُ لله، والصلاةُ والسَّلامُ على رسولِ الله، وعلى آلِهِ وصحبِه ومَنْ والاه.

وبعد، أيُّها الإخوانُ؛ فقد اهتمَّ الإسلامُ غاية الاهتمامِ بتوثيقِ عُرَى الأُخُوَّةِ الَّتِي تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، حتى جعل الأخوَّةَ التي جمعَ عليها القلوبَ أصلًا من أصولِ الإيمانِ لا يتِمُّ إلا بها، ولا يتحقَّقُ إلا بوجودِها؛ بل جعلَها أَوْثَقَ عُرَى الإِيمَانِ وأكملَ معانيه، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وأخرج الشيخان عن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». 


وأخرج مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». 


وأخرج الشيخان عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».


 لذلك كان من أصولِ الإصلاحِ الاجتماعيِّ الكاملِ الذي جاء به الإسلامُ: إعلانُ الأُخُوَّةِ بين النَّاس، وامتنَّ اللهُ على المؤمنينَ بأنْ ألَّفَ بالإسلامِ بينَ قلوبهم بعدَ أنْ فرَّقهم الكفرُ، فقال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾.
ومن ثَمَّ كانت الأخوَّةُ أحدَ أركانِ البيعةِ عند الإخوانِ المسلمين. 


(2) معْنَى الأُخُوَّة عندَ الإخوانِ المُسْلمين 

قال الإمامُ المؤسِّسُ حسنُ البنا رحمه الله: «وأُرِيدُ بالأُخُوَّةِ: أنْ ترتبطَ القلوبُ والأرواحُ برباطِ العقيدةِ، والعقيدةُ أوثقُ الروابطِ وأغْلاها، والأخوَّةُ أختُ الإيمانِ، والتفرُّقُ أخو الكُفْرِ، وأوَّلُ القوَّةِ قُوَّةُ الوحْدةِ، ولا وِحْدَةَ بغير حبٍّ، وأقلُّ الحبِّ سلامةُ الصَّدرِ، وأعْلاه مرتبةُ الإيثَار ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾.


 والأخُ الصَّادِقُ يرى إخوانَه أوْلَى بنفسِه من نفسِه؛ لأنَّه إنْ لم يكنْ بهم فلنْ يكونَ بغيرِهم، وهم إنْ لم يكونُوا به كانوا بغيرِه، و«إِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ»، و«الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، وهكذا يجبُ أنْ نكون».


فَقُلْتُ: أَخِي قَالُوا: أَخٌ مِنْ قَرَابَةٍ فَقُلْتُ لَهُمْ: إنَّ الشُّكُولَ أَقَارِبُ
نَسِيبِي فِي رَأْيِي وَعَزْمِي وَهِمَّتِي وَإِنْ فَرَّقَتْنَا فِي الْأُصُولِ الْمُنَاسِبُ


ذلك هو معنى الأُخُوَّةِ التي يسْعَى الإخوانُ لتحقيقِه في واقعِ الأمةِ، حتى لا تبقَى معانيَ نظريةً مثاليةً حالمةً، وإنما تتجسَّدُ في نماذجَ حيةٍ تسعَى بينَ الناس، ويحسُّ أثرَها الجميعُ، وقدَّمَ الإخوانُ في ذلك ما أدهشَ الكثيرين، حتى قال البعضُ عن متانةِ رابطةِ الأخوَّةِ بينهم: «لو عطسَ أحدُ الإخوانِ في أسوان لشَمَّتَه أخوه في الإسكندرية».  


(3) الأُخُوَّةُ عِندَنا دِينٌ 

لم يَزَل الإخوانُ المسلمونَ حريصينَ على تحقيقِ الأُخُوَّةِ الصحيحةِ الكاملةِ فيما بينَهم، مجتهدِينَ ألَّا يُعكِّرَ صَفْوَ علاقاتِهم شيءٌ، مُدْرِكين أنَّ الأخوَّةَ في الدِّين من أفضلِ ما يتقرَّبُون به إلى اللهِ زُلْفَى، ومُلْتَمِسين بالمحافظةِ عليها نَيْلَ الدرجاتِ العُلَى، ويحرِصُ الأخُ على تذكُّرِ إخوانِه والدُّعاءِ لهم مع كُلِّ غروبِ شمسٍ في وِرْدِ الرابطة.


وقد أخرج ابنُ وهب في (الجامع) عن محمَّدِ بنِ سُوقة، وزَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَحْدَثَ عَبْدٌ أَخًا يُؤَاخِيهِ فِي اللهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهِ دَرَجَةً». 


فقَالَ رَجُلٌ مِنَ المنَافِقِينَ فِي نَفْسِهِ: وَمَا دَرَجَةٌ رُفِعَهَا رَجُلٌ أَوْ وُضِعَهَا؟. 


فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَتْ بِدَرَجَةِ عَتَبَةِ بَيْتِ أُمِّكَ، وَلَكِنَّهَا دَرَجَةٌ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ».


ولم لا وصِدْقُ الحبِّ في الله علامةُ الوِلايةِ وعُنوانُ التَّقوى، بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ؟. 


قَالَ: «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ» وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.


وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب (واللفظ له) عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». 


وَقَامَ فِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ أَعْرَابِيٌّ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَمَى بِيَدَيْهِ، فَقَالَ: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللهِ عَنْهُمْ مَنْ هُمْ؟. 


قَالَ: فَرَأَيْتُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِشْرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ، مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى، وَقَبَائِلَ شَتَّى، مِنْ شعوبِ الْقَبَائِلِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا، وَلَا دُنْيَا يَتَبَاذَلُونَ بِهَا، يَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللهِ، يَجْعَلُ اللهُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلَا يَخَافُونَ».


ومن ثَمَّ يتواصَى الإخوانُ المسلمونَ ويحرِصُون على مراعاةِ حُقوقِها الَّتِي  تُصَفِّيها عنْ شوائبِ الكُدُوراتِ ونَزَغَاتِ الشياطينِ، وقدْ جعلَ أهلُ العلمِ أقلَّ درجاتِ الأُخُوَّةِ أنْ يُعامِلَ الأخُ أخاه بما يُحِبُّ أنْ يُعامِلَه أخوهُ به.