بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

القدس في القلب:

قضية فلسطين هي قضية العرب والمسلمين الأولى،  فهي الأرض التي بارك الله حولها وشرفها الله بأن جعلها مسرى رسوله صلى الله عليه وسلم وخلد ذكرها في القرآن العظيم بقوله سبحانه "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِد الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" ومن يومها وهي تضم أقدس مقدسات الإسلام بعد الحرمين الشريفين: المسجد الأقصى،  ومدينة القدس.

 

معركة تزييف الوعي:

والآن وبعد الاحتلال الصهيوني لها تنشط حملة لتزييف وعي الشعوب العربية والإسلامية تشارك فيها -للأسف الشديد- عديد من الأنظمة العربية،  حتى تتلاشى هذه القضية من الوعي والضمير الإسلامي،  فتنتهي العداوة للكيان الصهيوني وتموت المقاومة الفلسطينية على الأرض،  ويزهق الرفض الإسلامي في النفوس، ويذوب الإصرار على استعادة فلسطين ومقدساتها، وعلى رأسها المسجد الأقصى، ويظفر الصهاينة بها ملكاً مغتصباً من أصحابه.

 

محنة القدس عبر التاريخ:

لقد تعرضت فلسطين لحملات صليبية متتابعة في العصور الوسطى قادها عشرات الملوك الأوربيين بدعوى استخلاص مسقط رأس السيد المسيح وكنيسة القيامة من أيدي المسلمين الذين يصفونهم بالكفار، وأغروا المسيحيين بالمشاركة في هذه الجيوش للاستيلاء على أرض المشرق التي تدر اللبن والعسل، وأسسوا ممالك صليبية في بلاد الشام مستغلين ضعف الحكومات الإسلامية وتمزقها وعداوة بعضها لبعض، حتى وصلوا لبيت المقدس واقتحموه وقتلوا فيه سبعين ألفاً من المسلمين احتمى كثير منهم من العباد والزهاد والعلماء والعامة بالمسجد الأقصى،  فقتلوهم حتى غاصت أرجل خيلهم في الدماء،  وبعد نحو قرن من الزمان وحد صلاح الدين الأيوبي مصر والشام،  وخاض حروباً عديدة مع الصليبين وانتصر عليهم في مواطن كثيرة،  وتوج انتصاراته في موقعة حطين حيث هزم جيوشهم العديدة وبعدها توجه للقدس وحاصرها،  ثم سمح للصليبيين أن يخرجوا منها آمنين - كما عاهدهم- في موقف يمثل المبادئ والأخلاق الإسلامية النبيلة.

 

الاستعمار الغربي يزرع الكيان الصهيوني:

وفي العصر الحديث أصدرت بريطانيا وعد بلفور بتمكين اليهود من إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين،  وبعد الحرب العالمية الأولى احتلت فلسطين تحت اسم الانتداب، ومكنت مئات الآلاف من يهود أوربا من الهجرة إلى فلسطين حيث ادَّعوا أنهم يريدون أن يعيشوا بسلام مع أهل البلاد من الفلسطينيين وأنهم لا يتطلعون لما سوى ذلك، إلا أنهم جاءوا ومعهم الفيلق العسكري اليهودي،  إضافة إلى عصابات مسلحة راحت تقتل القرويين الفلسطينيين،  وتهجر الباقين من ديارهم،  وتستولي على القرى والمزارع،  وكلما قام الفلسطينيون بثورة يدافعون فيها عن أنفسهم وديارهم تصدت لهم قوات الاحتلال البريطاني،  واعتقلت زعماءهم وأعدمتهم شنقاً؛ لإلقاء الرعب في قلوب الفلسطينيين، وشاركتها في ذلك العصابات الصهيونية المسلحة.

 

وفي سنة 1947 وبعد تأكد الدول الغربية الاستعمارية من قوة المسلحين الصهاينة استصدرت قراراً من هيئة الأمم المتحدة بتقسيم دولة فلسطين بين العرب واليهود، وفي 1948 أنهت بريطانيا انتدابها على فلسطين وانسحبت ودخلت سبعة جيوش عربية مهلهلة بعضها يقودها جنرال بريطاني،  وملك يطمح أن يوسع حدود مملكته على حساب أرض فلسطين،  فكان من الطبيعي أن تنهزم أمام العصابات الصهيونية، إلا أن هناك متطوعين غالبيتهم من الإخوان المسلمين أبلوا في الحرب أحسن البلاء وحرروا مساحات من الأرض، شهد لهم قائدا الحملة المصرية في فلسطين اللواء صادق واللواء المواوي، إلا أنهم لقوا من الحكومة المصرية بأمر الدول الاستعمارية جزاء سنمار،  وأدخلوا في محنة شديدة لا تكاد تنتهي حتى يُدخلوا في غيرها حتى اليوم .

 

ورغم نكبة 1948 إلا أن الشعوب العربية والإسلامية ظلت تعتبر الصهاينة عدوها الأول وأن فلسطين أرض عربية إسلامية لا بد أن تعود إلى أهلها المهجرين واللاجئين،  ولم تكن هناك حكومة تستطيع أن تجاهر بغير ذلك، وحينما صرح رئيس تونس الأسبق بإمكانية التصالح مع اليهود وصمه الجميع بالخيانة والعار .

 

الصهاينة يوقدون نيران الحروب:

ومنذ استقر الأمر للصهاينة في فلسطين أشعلوا نيران الحروب مع دول الجوار بغرض التوسع والهيمنة على الأرض والمياه ومصادر الطاقة والثروات الطبيعية، وذلك من أجل تحقيق عقيدتهم التي تحدد حدود مملكتهم المزعومة (من النيل إلى الفرات) وكذلك الاستيلاء على القدس وهدم المسجد الأقصى لإقامة الهيكل المقدس مكانه ،  وكانت أخطر الحروب هي حرب 1967 التي هزمت فيها جيوش ثلاث دول، منها دولتان يحكمهما نظامان عسكريان،  واحتلت دولة الصهاينة سيناء كاملة والضفة الغربية وغزة والقدس ومرتفعات الجولان،  وهي مساحة تماثل مساحة فلسطين المحتلة 1948 عدة مرات، وتغيرت الأهداف والشعارات السياسية العربية من تحرير فلسطين إلى إزالة آثار العدوان، وفي حرب 1973 تم تحرير جزء من سيناء بالحرب، ثم كان التحكيم الذي جعلها رهينة للصهاينة ومنع تعميرها مع الاعتراف بالدولة العبرية واتفاق السلام والتطبيع معهم،  وبذلك خرجت مصر من معادلة الصراع مع الدولة الصهيونية، وتحولت بوصلة التبعية المصرية السياسية من الشرق إلى أمريكا في الغرب وكانت كارثة أوسلو التي أرادوا بها خطف القضية من الشعوب ووضعها في ثلاجة اتفاقيات خيانة ، عقدت الأردن على إثرها اتفاقية سلام مع الصهاينة، وتبعتها منظمة التحرير الفلسطينية باتفاق حكم ذاتي في الضفة الغربية مقابل تنسيق أمني يتصدى للمقاومة المسلحة لحماية الصهاينة بأيدي رجال السلطة في رام الله.

وهكذا بدأت القضية الفلسطينية تتميع وتضيع، لولا المقاومة المسلحة في غزة وعلى رأسها حركة حماس التي تمسكت بالحقوق الفلسطينية كاملة ورفضت التنازل عن أي منها.

 

الحرب الكونية ضد تحرير القدس وفلسطين:

والآن وفي ظل أوضاع بائسة للدول العربية تتلاعب بأنظمتها أمريكا ودول الغرب، وهي لا تملك إلا الانبطاح والخضوع لأوامرها، تعاني بعضها من حروب أهلية طاحنه تهدد بتقسيمها وتفتيتها، وتعاني مصر من انقلاب عسكري دموي فاشي،  وتطلق حملة شعواء على جماعة الإخوان المسلمين ، في ظل هذه الظروف يشن الصهاينة عدواناً وحشياً على قطاع غزة للقضاء على حركة حماس والجهاد الإسلامي وأخواتهما، ويشن النظام الانقلابي في مصر حملة لتضيق الخناق على القطاع وخنقه، ويقوم إعلامه بحملة شيطنة المجاهدين الفلسطينيين،  ويغلق معبر رفح ويدمر الأنفاق ويقيم المنطقة العازلة بعد التهجير القسري العنيف لألوف الأسر المصرية من رفح والشيخ زويد،  وتقوم دول عربية إسلامية بتحريض الصهاينة على إبادة المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها الحركات الإسلامية، ويستولى الصهاينة على أراضي الضفة الغربية ويملئونها بالمستعمرات التي يسمونها (مستوطنات) ويحاصرون بها مدينة القدس، ويضيقون على أهلها الفلسطينيين لإجبارهم على الهجرة منها.

 

الأقصى مفجر الانتفاضة والثورة:

وأخيراً بدأ العدوان على المسجد الأقصى نفسه وكانوا قد جربوا ذلك سنة 2000 باقتحام شارون له في حماية الشرطة،  إلا أن الفلسطينيين جميعاً انتفضوا انتفاضة عظيمة اضطرت الصهاينة للتوقف، والآن في ظل الضعف والتبعية والخيانة العربية يختبرون الوعي والمناعة الإسلامية لدى العرب والمسلمين،  فيقتحمه رئيس البلدية الصهيوني مرة،  ونائب رئيس الكنيست مرة، وأعضاء في الأحزاب اليمينية تارة في حماية الشرطة،  حتى إذا وجدوا ضعفاً هدموا المسجد وأقاموا الهيكل،  إلا أن أهل القدس المرابطين في المسجد وخارجه من الرجال والنساء والشباب يدافعون عنه بأرواحهم ودمائهم ويستغيثون بإخوانهم في الضفة والعالمين العربي والإسلامي، بل ويقوم بعضهم بأعمال فدائية ينالون بها الشهادة، قد استجابت الشعوب في الأردن وتركيا ومصر وقامت مظاهرات أثبتت أن القضية ما زالت حيه في وجدان الشعوب.

 

واجب الأمة نحو الأقصى:

إن الإخوان المسلمين يدعون الأجيال الجديدة لاستيعاب القضية وإيقاظ الوعي ووضوح الرؤية، ويؤكدون أن المسلمين قوة عظيمة وصل تعدادهم إلى أكثر من مليار ونصف المليار في العالم،  لو تحركوا لنالوا حريتهم وحقوقهم وفرضوا على الجميع احترامهم .

 

لذلك فإننا نهيب بالشباب في العالم الإسلامي أن ينتفض للتعبير عن تجاوبه مع المجاهدين والمرابطين في الأقصى،  ونهيب بالشباب المصري الثائر الحر أن يستمر في ثورته على القمع والظلم والاستبداد والفساد ليحرر وطنه ويستعيد إرادته وسيادته،  ويسعى مع إخوانه لتحرير مقدساته،  فالمهمة كبيرة والغاية عظيمة، ونصر الله يتنزل على أصحاب الهمم العالية والجهود العظيمة المخلصة" وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ "

 

وفقكم الله وتقبل منكم وأمدكم بنصره وتأييده .

 

والله أكبر ولله الحمد.

 

الإخوان المسلمون في 18 المحرم 1437ه

الموافق 11 نوفمبر 2014 م