الأستاذ عمر التلمساني.. ذكريات مرشد عن مرشد سابق

الأستاذ حامد أبو النصر: حسن الهضيبي.. الإمام الأمين والمرشد الحارس

مواقف وذكريات مع الإمام الهضيبي

الأستاذ عمر التلمساني.. ذكريات مرشد عن مرشد سابق

على مشارف الزمن رجال اصطفاهم ربهم، فأتاهم من فضله ما لم يؤتِ غيرَهم، ومِن البشر خلقٌ ينساهم الناس قبل أن يواروهم التراب، وثمة رجال هم والزمن صنوان من الخلود، لن ينساهم الناس أجمعون، ومن هؤلاء فضيلة مرشدنا السابق الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي- رضي الله عنه وصلى عليه- ﴿هُوَ الَّذِيْ يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ﴾ (الأحزاب: من الآية 43).

 

زاول مهنة المحاماة حينًا، فكان مثال الشرف والصدق والأمانة والتحرز لدينه، واستأثر به القضاء، فكان المعلم المشرق في جنباته، معتزًّا بدينه وخلقه وكرامته، اختاروه مستشارًا وذهب إلى السراي الملكية ليحلف اليمين المعهودة، فكان أول مستشار يحلف اليمين ثم يخرج موليًا الملك ظهرَه، وكانت مفاجأة ما كان للملك ولا لرجاله عهدٌ بها من قبل، إذ كان الذي يؤدي اليمين يخرج متراجعًا حتى يصل إلى الباب، وكادت تحدث أزمةٌ لولا معرفة الجميع بصلابة الرجل واعتداده- بعد الله- بنفسه.

 

ثم شاء الله أن ينتخبه الإخوان المسلمون مرشدًا لهم، فصادف الاختيار صاحبه، وملأ الرجل مكانته؛ لأنه كان إخوانيَّ النزعة منذ معرفته بالإمام الشهيد حسن البنا مرشد الإخوان المسلمين وكان يحضر بعض أحفالهم، وأذكر أنني كنت أتحدث في محفل إخواني، وكانت فاتحة كلامي أننا في أحفالنا هذه نطهِّر ألسنتنا من مهاجمة أحد أو النَّيل منه، واسترسلت في الكلام، وجرفني حماس الموقف، وبدرت مني عبارة رآها فضيلتُه ماسَّةً ببعض الناس، فأهاب بي من مكانه أن أفي بما بدأت به كلامي، فأكبرته لأنه أهدى إليَّ عيوبي.. فجزاه الله عن الحق خيرًا، وكان بقبوله لمركز المرشد شهادةً قضائيةً لحقيقة الإخوان المسلمين، وإلا لما قَبِل مكانَ الإرشادية، لو رأى في الإخوان أو في دعوتهم وأسلوبهم مأخذًا.

 

ودعاه الملك فاروق في قصر عابدين دون أن يطلب هو المقابلة، فلما خرج سأله الصحفيون عن المقابلة، فكان الرد المهذَّب الصادق لمثل ذلك الموقف وفي تلك الملابسات قال رحمه الله ورضي عنه وأرضاه: "مقابلة كريمة لملك كريم"، ولكل كلمة مدلولها ومؤداها، لم يقل تشرفت أو سعدت بالمثول بين يدي الملك الكريم، ولكن قال إنها مقابلة، وكلمة مقابلة وفي هذا المقام تدل على المجادلة، في اللقاء والمساواة بين الرجلين، وما كان ليقول غير ذلك، ووصفها بأنها مقابلة كريمة، لأنها تمت في جوٍّ من المحافظة على العزة والكرامة وليست ساميةً ولا ملكيةً ولكنها كريمةٌ؛ لأنه هو المدعو للقاء، وما كان لمُواطن أن يرفض مقابلة الحاكم إذا دعاه، لا إذا استدعاه، ووصف الملك بأنه كريم؛ لأن الحفاوة التي استقبله بها الملك، والمكانة التي أحلها إياه مستطلعًا ومستبشرًا.. لا تصدر إلا موصوفةً بهذا الوصف السليم، مهما كانت أخلاق الداعي في غير ذلك الموقف، فالوصف كان متسقًا تمام الاتساق مع ما يجب أن يقال في مثل ذاك المقام.

 

حل عيد الأضحى مرةً وهو في أزمة مالية، حكَى لي حكايتها فقال: جاء العيد وليس عندي من مظاهره ما أحتفل به، وفي مساء يوم الوقفة جاءه أحد أقاربه وذكر الاسم، وكان يعمل في المجال القضائي- جاء ليستقرض من قريبه- فابتسم الأستاذ الهضيبي، وكانت بسمة أوضح من مئات الدلالات، وأدرك قريبُه حقيقةَ الموقف، فخرج متَّجِها إلى بلدة المرشد وقال لوالده وكان ميسور الحال: أتترك ابنَك على هذه الحال وفي أيام العيد؟! وقال فضيلته: وما أدهشني بعد صلاة فجر العيد إلا قرع الباب عليَّ، ورجل يسحب خروفًا ومعه العديد من الجنيهات، وموضع الاستشهاد بهذه الحادثة قوله لي إن الذي كان يشغل باله أن خادمته لن تفرح بالأضحية والعيدية كمثيلاتها في تلك الضاحية، أي أن حاله وحال أولاده وزوجه لم تكن ذات بال يشغله، ولكنها الخادمة البعيدة عن والديها وأترابها والتي لم تكن لتجد ما يعوضها عن ملهاتها في الريف البعيد المشاعر القريب المسافة، وتلك ناحية من نواحي النبل الأخلاقية التي تهتم بالغير أكثر من اهتمامها بنفسها.

 

وهكذا كان مرشدنا الراحل- رضوان الله عليه- في كل مناحي حياته الحافلة بشتى المشاعر والأحاسيس المحببة إلى القلوب، وكانت زوجه الفاضلة رحمها الله صورةً من هذه الصور الرائعة، فيوم أن أذاع المذياع نبأ الحكم بالإعدام على فضيلته من المحكمة العسكرية التي شكلها عبد الناصر، الذي رضي لنفسه أن يكون الخصم والحكم.. في تلك اللحظة صرخت الخادمة وولولت فنهرتها السيدة الكريمة قائلةً لها: لا تصرخي فهو شهيد، والشهداء يهنأ أهلوهم وذووهم؛ لأنهم نالوا ما لم يحظَ به الكثيرون وأنهم يغبطون ولا يناح عليهم.

 

وجاءت المحن، واستبدل الإعدام بالسجن المؤبد، ودخل فضيلته السجن رغم تقدم سنه وحالته الصحية، كانت محنة في مظاهر منحة، وقديمًا قال علماء اللغة العربية: إن الكلمات المركبة من حروف واحدة كثيرًا ما تتفق في المعنى، فأنت إذا قلت نيل فهو النهر الذي يروي الأرض ويمدها بالنماء بإذن الله، وإذا قلت نَيْل فقد ضمنت الأماني ونلتها.

 

وكان الله سبحانه وتعالى قد أعده لقيادة الإخوان المسلمين؛ لِما علمه فيه من حكمة وجلد واحتمال وصبر على المكاره؛ ليكون الأسوة المثلى لمن بايعوه على الوفاء والتضحية والسمع والطاعة في غير معصية.

 

وكان فضيلته موضع الدهشة والإعجاب من كل من في السجن.. ضباط.. وأطباء.. ونزلاء.. الكل كان يعجب كيف يبتسم هذا الرجل في وجه تلك المحنة!! كيف كان ينام قرير العين من بعد صلاة العشاء حتى أوقات السحر ليتهجَّد، كيف كان يأكل العدس بالحصا.. أو الحصا بالعدس.. عدس محصو أم حصا معدَّس، وقُل هذا عن الفول المسوَّس أو السوس المفوَّل، وقل هذا عن اللحم الذى تأنف منه قطط السجن.

 

كل هذا كان سهلاً هينًا، وما كان يطلب إلا رضاء الله، وأسأله تعالى أن يكون قد وهبه إياه، فقد كان من دعائه: يا صاحب الفضل أهِّلني لرضاك.

 

كان صلب أسارير الوجه، لا تعرف أراضٍ هو أم غاضب، لا تستطيع أن تستشف دخيلته مما كان يبدو على أسارير وجهه، مَن لا يعرفه يظن أنه غاضبٌ وهو راض، ومن يعرفه يظنه راضيًا وهو غاضب، فهو متعالٍ عن المحنة، لم يضعف أمامها، ولم يُخف استعلاءَه عليها.

 

كان يتعامل مع الجميع وكأنه مستوٍ على منصة القضاء بكل ما فيها من هيبة ووقار، ينزل الكل على احترامه، حتى إذا ما احتوته جوانب الزنزانة مع زملائه فيها نطق الرجل كأظرف ما يكون جناسًا في العبارات مع محدثيه، يسرِّي عنهم جميعًا وكأنه واحد من الجنود، وليس قائدَ الرايات والبنود، يروي لنا شذرات من المحاماة ومواقف القضاء، ومحاورات مع العامة ممن لا يعرفون حقيقته ومكانته، وكأنه واحدٌ منهم لا يفضلُهم بشيء، وهو الذكي الأريب اللماح.

 

اتهمه عبد الناصر بالعِمالة في يناير 1954م، ثم أفرج عنه في مارس من السنة نفسها، وذهب إلى داره مهنئًا ومعتذرًا، وهكذا كان يُرغم الحقُّ المبطلين على النزول عند حكمه مهما كان منصبهم واستعانتهم بالقوة الزائفة الزائلة.

 

لقد كان مجلس الثورة كله على وجه التقريب زوارًا له في داره، وكانوا جميعًا أشبه شيء بالتلامذة في حضرة أستاذ عظيم، كانوا مسلَّحين بقوتهم المادية، وكان مسلَّحًا بقوته الروحية المعنوية، وكان الله معه وكان خير الناصرين؛ لأن من ركن إلى الله فقد آوى إلى ركن شديد، حتى الذين عارضوه أيام قيادته للإخوان قبل المحنة، سارعوا إلى داره معتذرين معترفين بفضله وبُعد نظره.. لقد كان هو ورجل آخر- ما يزال على قيد الحياة- الوحيدين اللذَين لم يتوقَّعا خيرًا من عبد الناصر من أوائل أيام الانقلاب، وأثبتت الأيام والأحداث أنهما كانا على حق دون غيرهما من الناس أجمعين.

 

إن أكبر ما كان يستثير عبد الناصر أنه كان يخاطبه بغير الأسلوب الذي شوَّه مواقف عبد الناصر؛ نتيجةً للبطانة التي أوحت إليه أنه فريد عصره وأوانه، ولو أن الناس عرفوا أن الله قد خلقهم أعزةً أحرارًا لما استطاع الظالمون أن يبطشوا أو يتألَّهوا، ولكن الناس معادن، لا تظهر جواهر كيانهم إلا إذا صهرتها نيران المحن.

 

ولما ضاق بعض الشباب بألوان العذاب، التي أوقعها بهم زبانية عبد الناصر تحت سمعه وبصره، وقدروا أن هذه الأفعال لا يرتكبها مسلم وحكموا بكفرهم لما حصل هذا، أباه عليهم، ولم يرضَه لدينهم، وأقنعهم بالحجة والدليل أن الحكم بالتكفير شيء غير يسير، ورجع البعض منهم وبقي البعض على ما هم عليه، ولو كان يعمل لنفسه ويرضى لهم صغار الانتقام لوافقهم على رأيهم، ولكنه كان فوق ذلك وأكبر.

 

هذه بعض الذكريات التي جالت بالخاطر، وأنا أكتب عن شخصية من أكبر الشخصيات التي ظهرت على مسرح الأحداث التاريخية في القرن العشرين.

 

إن الإحاطةَ بالرجل ومواقفه الباهرة وصبره العجيب ورجولته النادرة.. تستوعب صفحات مجلدات، ولكن من لي بعلم عالم، أو ذكاء كاتب، حتى أوفِّي هذه الشخصية الباهرة حقَّها من الإجلال والإكبار، وعلى كل فهو في غير حاجة إلى مديح أو ثناء، فحسبه ربه أولاً، وحسبه آثاره ومواقفه التي حفظت لدعوة الله استمرارها.

لقد أديت ووفيت يا فضيلة المرشد ﴿إِنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ (الكهف: من الآية 30).

 

الأستاذ حامد أبو النصر: حسن الهضيبي.. الإمام الأمين والمرشد الحارس

ذهب الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى واستخلف خليفتَه أبا بكر الصديق- رضي الله عنه وأرضاه في الجنة- وقد واجه الصدِّيق أحداثًا ضخمةً، منها وأهمها امتناع بعض المسلمين عن دفع الزكاة والتي هي الركن الاقتصادي من أركان الإسلام، فشمَّر الخليفة العظيم عن ساعده في تعقب هؤلاء المرتدين، وقال: "والله لو منعوا عقال بعير كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم عليه، وأخذ صاحبه عمر بن الخطاب- الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه- يخفف من هذه الصدمة، محاولاً صرفَ النظر عنها لحداثة دخول العرب في الإسلام، ولكن أبا بكر الصديق- الخليفة القوي- أبَى ذلك وقال لصاحبه بملء فيه: أشُجاع في الجاهلية خوَّار في الإسلام يا عمر؟!

 

وكان أن سار في مسيرة الصديق- رضي الله عنه- وضرب هؤلاء المتمردين ضربةً فاجعةً أعادت إليهم ومن على شاكلتهم صواب الإيمان وعظمة الإسلام.

 

وهكذا يدور الزمان دورته، ويقلِّب الله الليل والنهار، ويغيب الإمام الشهيد حسن البنا عن ساحة العمل الإسلامي والحركة المباركة التي وضع بذورَها، ويترك لمن خلفه الشدائد والصعاب والدعايات الكاذبة للنَّيل من جماعة الإخوان المسلمين، فيختار الله بسابق علمه المرشد الرجل الحارس الشجاع الذي يبدد هذه الأقاويل ويضرب على يد الفتنة في مهدها، ويواجه عمالقة الظلم والطغيان في العصر الحديث.

 

كل هذه الصعاب انبرى لها ذلك المستشار العظيم، قمة العدالة وشرف النزاهة، فبدَّد ما قيل وما يقال مما يشوه صفحة الإخوان المسلمين الناصعة والتي كانت مثلاً أعلى للحركة التي تبتغي من ورائها رفعة الإسلام والمسلمين، وكانت هذه الصورة طبق الأصل لصورة الرجل القانوني العادل الذي يعيش للعدل وللعدل فقط، وبدأت الصورة القاتمة التي صوَّرها الاستعمار وأعوانه تنقشع، وبدأ جمال الحق وجلاله يعود إلى النفوس، ولكنَّ القدر المحتوم والقضاء المبرم يُنبت في أرض الإخوان المسلمين نبتةً فاسدةً حملت لواء التمرد والعصيان كذبًا منها وافتراءً لتنال من عظمة هذا الرجل وهيبته، ولكن ذهبت أصواتهم أدراج الرياح وسقطت أوراق الخريف، ولم يبق إلا الصادقون، والذين كانوا مع الصادقين، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.

 

استطاع المرشد الحازم أن يقضي على هذه النبتة بل ويسحقها، رغم ما أحدثت من دوي، ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ﴾ (الرعد: من الآية 17)، وكانت أقاويل، وكانت افتراءات، وكانت اتهامات، وأخيرًا لم يصح إلا الصحيح، وسارت الدعوة في رعاية الله محصنةً من الداخل ومن الخارج.

 

ومن ثم جاء القضاء الذي لا مفرَّ منه، وقُضي الأمر الذي لا بد منه، وجاءت حركة الضباط في سنة 1952 وترعرعت شجرتهم، وشربت من ماء المستعمر، الذي يهمه في المقام الأول تحطيم كل الحركات التي تُعيد للمسلمين والعرب قدرتَهم ومكانتَهم وأمجادَهم، وكان كل ذلك يعبر عنه الإخوان المسلمين أصدقَ تعبير في أجلِّ صورةٍ وأكرم مظهرٍ، فاتجه هؤلاء الضباط اتجاهًا كاملاً بوحي من الاستعمارِ للقضاء على هذه الروح التي تُحييها مبادئ الإخوان المسلمين بل مبادئ الإسلام، ورسموا لذلك الخطط، مشتركين مع المستعمر لإطفاء نور الحق الذي تجلَّى في شجب الإخوان لبعض بنود المعاهدة الإنجليزية ومطالبتهم بإعادة الحياة البرلمانية تحكم البلاد في جوٍّ من الشورى والطمأنينة.

 

فواجه المرشدُ الحارسُ الأمينُ على دعوة الله في هذا القرن الحديث والقائدُ الشجاعُ الذي يحرص على حرية الشعب المصري وحقوقه.. واجه الحديد والنار بغير ضعفٍ أو خذلان، ومن ورائه جماعته الحبيبة المخلصة، التي دفعت الثمن الغالي بسخاء، ونصب أعداء الشعب المشانق، وفتحوا غياهب السجون، ومارسوا الاعتداءات على الأرواح والأجساد، ففاقوا بذلك طغاة التعذيب وامتهان كرامة الإنسان على مدى التاريخ.

 

وحمل المرشد الحارس الرايةَ في استعلاءٍ وقدرةٍ مستمَدةٍ من عظمة جبار السموات والأرض جل وعلا، ودخلت الجماعة وربانها نار إبراهيم فكانت بردًا وسلامًا، ووقع القدر﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيْبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِيْ أَنْفُسِكُمْ إِلا فِيْ كِتَابٍ مِّن قَبْلَ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيْرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ (الحديد: 22، 23).

 

وعلى لهيب نار التعذيب نشأت داخل السجون عند أفراد قلائل فكرةٌ تصوِّر الحكام الذين حملوا لواء التعذيب والتنكيل والاعتداء على كرامة الإنسان، وكذلك المجتمع الذي يتقبل هؤلاء العتاة الطغاة دون أن يقاومهم أو يقومهم، تصورهم وتحكم عليهم بأحكام مختلفة متباينة لا تستند أصلاً إلى الأسس التي وضعها الإمام الشهيد حسن البنا لقيام جماعته على الكتاب والسنة والإجماع.

 

وهنا انبرى الإمام الأمين والحارس الشجاع يواجه هذه الأفكار الدخيلة على جماعته ويصحِّح مسيرة الدعوة الإسلامية، وألَّف تحقيقه المعروف "دعاة لا قضاة" وبذلك تبدَّدت هذه المفاهيم وتحصنت الجماعة من الفكر الدخيل وأخذت السفينة تشقُّ عباب البحر وسط العواصف والأنواء في قوة، حتى رست على برِّ السلامة ومرفأ الأمان.

 

وقُضي الأمر واستوت على الجودي وظهرت جماعة الإخوان مرةً أخرى تفتح الطريق للإسلام وتدعو الناس جميعًا إلى الحب والتعارف وإنكار الذات والتعاون الأكيد فيما يعود على البشرية بالسخاء والرخاء، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية 13).
وهكذا كانت حياة الإمام الأمين والمرشد الحارس حياةً هي الجهاد بعينه وهي النصر الأكيد، بفضل وقفاته الحازمة ونظراته الثاقبة، رحمه الله رحمةً واسعة.

 

فكان ما كان وأصبحنا ملء السمع والبصر والفؤاد، نسأل الله أن يثبِّت الخُطا وأن يمنحَنا القدرةَ والقوةَ لاستقبال ما يأتي به القدَر، وهو على أي حال ﴿نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيْبٌ﴾ (الصف: من الآية 13).

 

مواقف وذكريات مع الإمام الهضيبي

يروي الأستاذ أبو النصر في السطور التالية بعضًا من الذكريات والمواقف التي عاشها مع فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي، فيقول:

- "بعد استشهاد الإمام البنا أخذ الإخوان يبحثون عمن يخلُف الإمام حسن البنا ويتولَّى منصب المرشد العام، ولمَّا كنت أقيم في الصعيد (في منفلوط محافظة أسيوط) فلا أعرف تفاصيل الأحداث التي انتهت إلى اختيار الأستاذ الهضيبي- رحمه الله-، ولكن جاءني أحد الإخوان وقال لي: نحن نأخذ بيعةً من الإخوان للأستاذ الهضيبي مرشدًا وخلفًا للإمام حسن البنا، ولم تكن لي أية صلة بالأستاذ الهضيبي قبل اختيار الإخوان له مرشدًا عامًّا، ولكني عرفت أنه كان على اتصالٍ وثيقٍ بالإمام الشهيد حسن البنا، فقد كان الإمام الشهيد حسن البنا على صلةٍ بشخصياتٍ كبيرةٍ، ولم يكن أغلبنا يعرف هذه الشخصيات، وكان الإمام الشهيد حسن البنا لا يذكر أسماء هذه الشخصيات الكبيرة، خاصةً التي تتولَّى مراكز حساسة في الدولة لحكمةٍ يراها، وكان الأستاذ الهضيبي أحد هذه الشخصيات غير المعروفة لدى الإخوان.

 

عندما عُرض عليَّ أمر اختيار الأستاذ الهضيبي توقفت قليلاً وقلت:

"إنني لا أعرفه حتى أبايعه.. لا بد أن أعرفه أولاً ثم أبايعه، وفعلاً تمت المعرفة، وتمَّت البيعة مني له، وإن كنت واحدًا من أواخر الإخوان الذين بايعوا الأستاذ الهضيبي، وقد علم الأستاذ الهضيبي بموقفي هذا، ووافق على ضرورة التعرف والتثبت من حقيقة الشخص الذي سيبايَع حتى تكون البيعة صحيحة".

 

- "أعتقد أن اختيار الأستاذ الهضيبي مرشدًا للإخوان في هذه الفترة كان من تدبير الله وحكمته ورحمته، فقد اختار الله الإمام حسن البنا ليضع الأساس ويربِّي جيلاً من الإخوان يُقيم صرح الجماعة على أكتافه، ثم اختار الله الأستاذ الهضيبي لهذه الفترة العصيبة لصلابته وثباته وحكمته واتزانه ونزاهته، ولو قدِّر أن يختار الإخوان شخصيةً أخرى لكانت الجماعة قد انتهت وعفا عليها الزمن.

 

لقد كان الأستاذ الهضيبي رجلاً مؤمنًا غاية الإيمان، فلم يتزحزح عن الموقف الإسلامي قيد أنملة، وهذه أكبر نعمة أنعمها الله على الإخوان المسلمين أن مرشدهم قويٌّ وحازم وصُلب أمام الأحداث، لا يتضعضع ولا يلين ولا يضعُف، رحمه الله وتقبله في الصالحين.

 

- "عندما حدث الاعتقال الأول في يناير عام 1954م اعتقل نصف أعضاء مكتب الإرشاد مع الأستاذ الهضيبي، وبقي النصف الآخر لم يعتقَل، وكنت واحدًا منهم.. وكذلك لم يعتقَل الشهيد عبد القادر عودة، وسعى الشهيد عبد القادر عودة في الاتصال بجمال عبد الناصر للتعرف على أسباب الاعتقال، وحدَّد جمال عبد الناصر موعدًا للشهيد عبد القادر، وقال له: "أحضر معك أبو النصر".

 

صاحبت الشهيد عبد القادر عودة في ذهابه للقاء جمال عبد الناصر باعتبار أنني "بلدياته"، وخرجنا من لقاء عبد الناصر ونحن على يقين من نقمة جمال عبد الناصر على الأستاذ الهضيبي ورغبته الشديدة في تغييره.. قلت لجمال عبد الناصر: "تغيير المرشد أمرٌ مستحيلٌ؛ لأن المرشد ليس مرشدًا للإخوان المسلمين في مصر وحدها، ولكنه مرشد الإخوان المسلمين في العالم كله، وإذا تأكدنا أن مرشدَنا ليس أهلاً ليكون مرشدًا لنا فسوف نحل مشكلاتنا بأيدينا نحن، ولكننا على يقينٍ من أن الأستاذ الهضيبي رجلٌ طاهرٌ وعظيمٌ، وشخصية ليست بالسهولة التي تستطيع أن تغيِّرها؛ لأنه ليس رئيس مصلحة حكومية تستطيع أن تغيره بقرار تصدره".

 

- أنا سأحاكمه وأحاكم الإخوان.

- حاكم مَن تريد، لكن أن نترك الرجل ونتخلَّى عنه بدون وجه حق فلن يحدث هذا أبدًا؛ لأن الرجل نظيف ويسلك بنا المسلك الطيب، وسلوكه معكم أنتم أيضًا، وربما وصلتك معلوماتٌ غيرٌ دقيقة ولا تمثِّل الواقع، فتطلب منا أن نغيِّر المرشد، وإذا غيَّرنا المرشد تصبح الجماعة في يدك، نحن مستمسكون بالمرشد إلى أقصى مدى.

 

وقلت لعبد الناصر:

- إن أي اعتداء على المرشد لن نسكت عليه، وإذا أصيبت فيه شعرةٌ لن نسكت.. فابتسم عبد الناصر ابتسامته الصفراء المشهور بها، ثم أخذ يتحدث عن بعض الشخصيات الكبيرة في الجماعة ويجرحها، وكان يهدف من حديثه هذا إلى تشويه صورة هذه الشخصيات في أذهاننا بهدف التشكيك في الجماعة ذاتها.

- ثم قلت لعبد الناصر:

- الأفضل أن نتعاون معًا ونسير.

- لن نتعاون إلا إذا خلعتم الهضيبي.

- مستحيل أن نخلع المرشد، هل سيحُوْل المرشد بينك وبين تنفيذ مشاريعك؟! إننا يمكن أن نبحث عن صورة للتعاون، خصوصًا أن الإخوان قد أدوا واجبهم تجاه الحركة.

- هل لك اقتراحات معينة؟

 

- يمكن أن تشكَّل لجنةٌ من ثلاثة، أنت تختارهم من أعضاء مكتب الإرشاد، بشرط أن يوافق عليهم المرشد، ويكون هؤلاء الثلاثة حلقةَ الاتصال بينك وبين الجماعة، وطبعًا المشاريع التي لا تتعارض مع الإسلام سوف يوافقون عليها، وتترك الإخوان يربُّون الأجيال الصاعدة من أبناء الشعب ويبشرون بالدعوة.

 

- أوافق على هذا الاقتراح ولكن بشرط إقالة المرشد.

- لماذا إقالة المرشد؟! هذا غير ممكن.. المرشد هو التاج الذي نضعه على رؤوسنا، والرجل لم يقل فيه أحدٌ شيئًا، إنك تتهم المرشد فما هو دليلك على هذا الاتهام؟!

- إن رجال السفارة البريطانية جلسوا يضحكون ويقولون إن الهضيبي بكرة يأتي للوزارة.

- ما لنا نحن ورجال السفارة.. وقولهم إن الهضيبي سيشكِّل الوزارة؟! نحن لسنا طلاب حكم.. نحن نريد أن نربي الشعب، وأن نرجعه إلى الالتزام بالإسلام، والشعب قادر على أن يختار حكامه، والحكم ليس بغيتنا".

 

- "في ذلك الوقت علمت أن بعض قادة الجيش أرادوا القيام بحركة ضد جمال عبد الناصر، ولكنَّ الأستاذ الهضيبي قال: "نحن لا نريد أن نساهم في إقامة مجزرة نتحمل فيها المسئولية، وكل أملنا أن يحفظ الله هذا البلد"، وكان الأستاذ المرشد يؤكد دائمًا على مسامع كل المحيطين به هذه العبارة: "أنا بريء من دم جمال عبد الناصر".

 

- وعن الأستاذ الهضيبي داخل السجن يقول السيد محمد حامد أبو النصر: التقيت به في ليمان طره بعد المحاكمات، فكان مثالاً رائعًا للثبات وعدم الاكتراث بالأحداث، وكان الإخوان يترسَّمون خطاه ويقتدون به في الكلام وتعففه عن طلب أي شيء من إدارة السجن، كان كالجبل الأشمِّ شامخًا عالي النفس مرفوع الرأس.. كان بعض الإخوان يطلبون منه أن يقول كذا أو أن يطلب كذا، لكنه كان يقول: "خلينا بعدين، نحن دخلنا السجن في سبيل الله، وعلينا أن نصبر ونتحمَّل كل ما نُصاب به في سبيل الله"، فكان مثلاً عاليًا لجميع الإخوان.

------------

المراجع:

- حسن الهضيبي (حياته وآثاره) عبد الحليم الكناني.

- حسن الهضيبي- الإمام الممتحن- جابر رزق.