في هذه الآونة ترسل وزارة الداخلية وأجهزة الأمن رسالة إلى المعتقلين ظلما، إقرارا صيغته: "أنك لا تنتمي إلى جماعة الإخوان، وأنك مستعد للمصالحة مع الحكومة ووزارة الداخلية, ثم اذهب واحزم أمتعتك فهنيئا لك الإفراج".


إنها الطريقة نفسها التي كانت تفعلها الأجهزة الأمنية مع المعتقلين في عصر الانتكاسات والهزائم فترة الخمسينيات والستينيات، وهكذا الأجهزة الأمنية والمخابراتية العربية تفعل نفس أفعالها، وتتبع ذات الوسائل التي كانت تتبعها منذ قرن من الزمان، في تصرفات كثيرة ومواقف متنوعة، وهو غباء وحماقة تتجاهل فيه ما حدث من تغير وتطور، وتحول شامل في كل شيء، وكذلك يفعلون!

يظن الانقلابيون أنهم سيجدون أصداء لورقتهم تُرضي غرورهم، وتشبع كبرهم، وتشفي صدورهم، وتذهب غيظ قلبوهم، أو أنهم سيقابلون بطوابير تتكالب على الإمضاء على هذا الإقرار، وقد يعتقدون أنهم حين يرمون حبالهم وعصيهم، سيسحرون أعين الناس ويسترهبوهم، ويخيل إليهم من سحرهم أنهى تسعى!

كانت هذه الفكرة أيام الانتكاسات والانكسارات، ولم يكن قد حدث قبلها مجازر بهذه البشاعة، ولا تضحيات غالية بهذا الحجم، ولا ثورة شعبية بهذا التنوع، ولا وعي كبير بهذه الدرجة، ولا تطور إعلامي بهذا الشكل، ولا تغير محلي وإقليمي ودولي على هذا المستوى.

يظنون بهذه الورقة البائسة أنهم سيُحْدثون فتنة في صفوف الثوار المعتقلين الشرفاء، الذين ذاقوا طعم الحرية، وكسروا حاجز الخوف، وأحسوا بقيمتهم ورؤيتهم المشرفة لذواتهم، أو أنهم سيجعلون شبابنا الطاهر يندم على ما فعل، أو يراجع نفسه في مساره، أو تنكسر إرادته على ما يمارسونه ضدهم من قمع وبطش وتعذيب ومهانة، أو يتراجع خطوة للوراء عن قضيته، أو يتردد في نصرة المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يجدون أمام هذا الطغيان والقهر والعدوان حيلة، ولا يهتدون سبيلا!

بعد الاعتقالات بالجملة، والانتهاكات الصارخة، والقتل الجماعي، وحرق الجثث وتفحمها، واغتصاب الشباب والفتيات، وتفزيع الآمنين وترويعهم، والفصل التعسفي للآلاف من وظائفهم، ومطاردة الآلاف داخل مصر وخارجها، وترك آلاف العاهات المستدامة، وعشرات الآلاف من الثكالى واليتامى والموجوعين والمفجوعين، وحرق وطن كامل، وتأخر قلب الأمة النابض عن حضارة الإنسانية .. 

بعد هذا كله وغيره كثير يظن هؤلاء الواهمون أنهم سيفلحون بمحاولتهم الحمقاء، وأنهم سيحدثون الفتنة بين صفوف المعتقلين، ويَفُتُّون في عَضُد الصف الثوري، ويزرعون الندم والأسف واليأس والتراجع في قلوب المجاهدين والصامدين من أبناء مصر الثوار.

ولم يدرك هؤلاء أن الأجيال المعاصرة شبتْ عن الطوق، وكسرت حاجز الخوف، ولم تعد تبالي بحياتها في سبيل الله، أو موتها في سبيل الله، فالأمر عندهم واحد، وهذا ما يفزِّع المجرمين والسفاحين الذين لا يملكون عشر معشار ما يملكه هؤلاء الأبطال من الاستعداد للتضحية بالمال والنفس، والغالي والنفيس، فهؤلاء الأبطال أصبحوا اليوم كالجبل الأشم الشامخ، وهؤلاء يحاولون أن يوهنوه أو يضعفوه، وما هم بفاعلين ولا مفلحين:

كناطح صخرة يوما ليوهنها ...فلم يُضِرْهَا وأوهى قرنَه الوعلُ

أو قول آخر:

يا ناطحَ الجبلِ العالي ليكْلِمَه *** أَشفق على الرأسِ لا تُشْفِق على الجبلِ

أو قول الآخر:

فما يضير البحرَ أمسى زاخراً ***  أنْ رمى فيه غلامٌ بحجر

إن هؤلاء المجاهدين الأبرار - رجالا ونساء - يدفعون اليوم ضريبة، وهم على درجة من الوعي تدرك أن الانقلابيين لا يمكنهم الوصل إلى عزيمتهم وصلابتهم وصبرهم واحتسابهم، ويدركون تماما أنهم لن ينالوا من عقيدتهم ولا عزيمتهم، وما هي إلا محاولات بائسة صدرت من خيالات مريضة.

***

أما رسالتي لأبنائي وإخواني وتيجان رأسي وشرف أمتي من المعتقلين الذين تُعرض عليهم هذه الورقة اليوم، فأقول لهم - وقد علمونا الكثير وحققوا الكثير - وكلي ثقة في عزيمتهم وصلابة إرادتهم، ونور بصيرتهم: إننا لا نعمل لمصر وحدها، وإنما نعمل لهذه الأمة من أقصاها إلى أقصاها؛ فقيام مصر هو نهضة للأمة جميعا، وانكسارُها – كما هو حاصل الآن – ينكسرُ به العرب ويتمزق به المسلمون.

أقول لكم: إذا كان الأخذ بالرخصة كان مفهوما أيام المخازي والانكسارات والحصارات الإعلامية والسياسية، فالأمة اليوم في طريقها للصعود والتألق، وامتلاك إرادتها، واستعادة عافيتها، واسترداد حريتها، والمارد المرعب للمجرمين والقاتلين في طريقه للظهور على أيديكم بتضحياتكم وصمودكم .. هذا وقت الأخذ بالعزيمة لأن الزمان قد تغير، وكذلك المكان والأحوال والعوائد .. ثم ليتهم يرضَوْن منكم بـ "المصالحة" كما أسموها .. إنهم لن يرضوا منكم بعد ذلك إلا أن تكونوا مخبرين معهم وسمَّاعين لهم.

إن رفض هذه الورقة والسخرية من أصحابها ومواجهتهم بثقة ويقين واستخفاف هو نصرة لأنفسكم أولا، وهو وفاء لدماء الشهداء، ونصرة للمعتقلين من حولكم، في مصر وخارج مصر، وإعلاء لكلمة الحق في العالم، ودحر للظلم والظالمين، وإضعاف لشوكتهم محليا وإقليميا ودوليا، وسيسطره التاريخ لكم بكل عزة وفخار.

إذا جاءكم من يعرض عليكم هذه الورقة، فردوها إليه، واقلبوها عليه، وقولوا له: "يجب عليك أنت أن تتبرأ من مساندة نظام مجرم، وأن تعلن توبتك من انتمائك إليهم أو مشاركتك لهم أو إسهامك معهم، قبل أن يأتي يوم تُعلَّق فيه على أعواد المشانق في ميادين الثورة، وساعتها لن تأخذنا فيكم رأفة ولا رحمة، ووالله إنه لقريب بإذن الله، وفي الآخرة عذاب شديد".

جاء في القرآن الكريم: "إنما المؤمنون إخوة"، "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض".

وجاء في السنة المشرفة: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه".

هذه النصوص الشريفة وغيرها - بلغت حد التواتر – توجب علينا الوفاء لها، والائتمار بأمرها، والسعي لتحقيقها، وقد دفعنا الكثير، وقدمنا الكثير، من دماء وأرواح وأعراض وأموال، وهي في جنب الله متواضعة، وفي حق أمتنا قليلة .. 

أمتنا تستحق منا الكثير، تستحق منا أن نصمد وأن نبقى وأن نصبر، لنصرة المستضعفين في كل مكان، وإزالة الصهاينة وأذيالهم من قلب الأمة، وتحرير أرضنا وإرادتنا ومقدساتنا، وامتلاكنا حريتنا وقرارنا، وإنما النصر صبر ساعة، وقد اقتربت الساعة، ويراها الكثيرون في الأفق قريبة بعون الله ثم بتضحياتنا وصبرنا وإصرارنا جميعا، ليس بيننا وبينها إلا أن نبسط لها أيدنا لنصافحها ونَسعد بها، ونُسعد بها أمتنا والعالم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ". سورة آل عمران: 200.

----------- 

متخصص في مقاصد الشريعة الإسلامية

عضو المكتب التنفيذي لجبهة علماء ضد الانقلاب