الأمن القومي بين الماضي والحاضر

عندما انتهى العصر الملكي وتبعه جلاء قوات الاحتلال الأجنبي عن أرض مصر، بقيام ثورة 52، شكَّل ذلك بدايةً قويةً لتحديد الأمن القومي وأبعاده، كان الكثير من قادة الثورة قد أمضوا فترةً في أسر الإخوان وتشكيلاتهم وتأثروا برؤيتهم، وكان لهذا أثره في الرؤية الإستراتيجية لهذا الأمر لتشمل البعد الإفريقي، ومداخل البحر الأحمر وأمن المنطقة العربية وتأمين الجبهة الشرقية والخطر الصهيوني المتصاعد، وكان للمؤسسات القومية المهمة التي تشكلت لتحديد الرؤية والتقدير لوضع خطوات عملية من امتلاك صناعة مستقلة للسلاح تمثل ذلك في إنشاء المصانع الحربية والاهتمام بتصنيع طائرة حربية مصرية مائة في المائة، وقد قطعت مراحل كبيرة في ذلك ثم لأسباب شكلية تم بيع التصميمات للهند وأغلق هذا الملف.

 

ومثال آخر هو التصميم لدخول المجال النووي بكل أبعاده، وكانت نواته شركة المراجل ثم توقف هذا المشروع المهم.

 

لكن مع هذه الرؤية الجيدة للأمن القومي في مجالها الخارجي صاحب ذلك أن ممارسة القيادة السياسية للدور المطلوب لم يكن بالأسلوب المناسب الذي يحقق الهدف؛ مما أدخله في صراعات عدة على المستوى الإفريقي أو العربي، واستفاد منه الحليف الروسي لتحقيق أهدافه، فقد كان أسلوب الممارسة يعتمد أساسًا على إبراز الحاكم وكسبه للأوراق للتحرك بها على الساحة الدولية أكثر من الاهتمام الفعلي بتحقيق المستهدفات المطلوبة وبعد مرحلة عبد الناصر بدأ يتضاءل الاهتمام الفعلي بالأمن القومي ليصبح استقرار الكرسي والنظام له الأولوية على أمن الوطن.

 

لقد كانت هناك ثوابت من عشرات السنين لأبعاد الأمن القومي، لكن تم تجاوز ذلك وفقدت الدولة الرؤية الإستراتيجية، وقد وُجهت له ضربةً قويةً بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد وما تلا ذلك من التبعية للسياسة الأمريكية والانقلاب على مشروع المقاومة ضد العدو الصهيوني.

 

كما أنه في ظل الاستبداد السياسي، وعدم احترام مؤسسات الدولة واستقلالها، بل أصبح بعضها أداة في يد النظام وفـي ظل مؤثرات أخرى داخلية وخـارجية وشخصية.. أصبح لا يمكن لمؤسسة واحدة أو لحاكم أن ينفرد بتقرير أولويات وأبعاد الأمن القومي أو يقوم هو باحتكار المراجعة وتعديل المسار وفق رؤيته ومصلحته الشخصية، لا بد أن تتعاون الأمة بكل مؤسساتها القومية وطوائف النخبة السياسية الوطنية والأكاديميين المتخصصين، لوضع الإستراتيجية ورسم الرؤية المطلوبة لأبعاد الأمن القومي وأولوياته والمخاطر التي تتهدده، خاصةً أنهم لا يبدءون من فراغ أو تخفى عنهم الثوابت في الممارسة السابقة.

 

الأهداف المطلوب العمل عليها

من أجل واقع حقيقي للاهتمام بالأمن القومي لا بد من وضع هذه الأهداف والعمل على تحقيقها:

1- وجود رؤية إستراتيجية صحيحة متكاملة في هذا المجال، تتوافق عليها وتعمل في ضوئها أغلب مؤسسات وقوى المجتمع.

 

2- إعادة ترتيب الأولويات والأوزان النسبية في المجتمع ومؤسساته وفق هذه الرؤية.

 

3- الوصول إلى التوازن الإستراتيجي (وسد الفجوة) مع الأعداء الخارجيين والمهددات المختلفة.

 

4- الارتقاء بالدور الإستراتيجي المصري عربيًّا وإفريقيًّا وإسلاميًّا ودوليًّا.

 

5- تحقيق تماسك المجتمع ومنظومة الحقوق الأساسية له، وتأمين احتياجاته ومواجهته للمتغيرات والأزمات.

 

6- تحقيق مستوى جيد من التنمية الأساسية بما يُوفِّر له في حاضره ومستقبله ما يحتاجه من قوى بشرية متخصصة وصناعات إنتاجية وإستراتيجية واقتصاد قومي مستقل.

 

المحاور والأبعاد المطلوب تحديدها

أ) المحور الإستراتيجي، ويشمل:

1- الفجوة بيننا وبين العدو الصهيوني (ميزان القوى).

2- تحديد المخاطر والأعداء الخارجيين للوطن.

3- القدرة على مواجهة المهددات وتأمين الوطن (مساراتها وكيفية تحقيقها).

4- كيفية بناء الثقة ومواجهة الهزيمة النفسية وعقدة العجز.

5- تطوير الرؤية ووضع الخطوات بما يحقق: الكفاءة والتدريب- الاستقلالية والتصنيع.

6- الاستفادة من عوامل التوازن الأخرى لتحقيق التوازن الإستراتيجي مع الأعداء.

 

ب) المحور الخارجي:

بعد تحديد الرؤية الإستراتيجية، يتم تحديد الأبعاد والقضايا الخاصة به؛ مثل:

1) تحديد الوزن النسبي للمهددات أو الإيجابيات وآثارها القريبة والبعيدة وذلك في كل الدوائر الخارجية (العربي- الإفريقي- الإسلامي- الدولي).

2) القضايا الخاصة المؤثرة على الأمن مثل:

1- حوض النيل والدور المصري في إفريقيا.

2- الصراع في القرن الإفريقي ومن البحر الأحمر.

3- المشروع الصهيوني - الأمريكي في المنطقة وآثاره على كل محاور الأمن القومي.

4- التواجد العسكري الأمريكي المباشر ومنظومة الأمن العربي.

5- مخططات التجزئة والتفتيت العرقي والطائفي والمذهبي.

 

ج) المحور المجتمعي الداخلي، ويشمل:

1- قضية الهوية والاختراق الثقافى.

2- الوحدة الوطنية وتماسك المجتمع.
3- الاستبداد السياسي وضيق قنوات التعبير وأثرها على ا

لأمن القومي.

4- تأمين مصادر الدخل القومي ومواجهة عجز الموازنة.

5- الاحتكار ومخاطر الاستثمار الأجنبي الضار أو المشبوه ( فهناك استثمار نافع يمثل إضافة للاقتصاد، وهناك استثمار للاستهلاك ولتحقيق أهداف أخرى أو واجهة لبعض القوى المعادية ).

6- المهددات الأخلاقية مثل: المخدرات- العنوسة- تماسك الأسرة- العنف.

7- توفر الآلية المناسبة والقدرة على مواجهة الكوارث والأزمات.

8- القضايا الاقتصادية المهمة المؤثرة مثل ( الفجوة الغذائية- قضايا الطاقة- جودة التعليم- الصناعات الإستراتيجية).

 

مهددات الأمن القومي المصري

في هذه المرحلة نستطيع أن نوجز ونشير إلى المهددات المهمة منها:

1- المهددات العسكرية:

أ) اختلال الميزان العسكري بين مصر والكيان الصهيوني.

ب) ضعف وتراجع الانتاج الحربي، حيث تراجع إلى 600 مليون جنيه من أصل قدرة إنتاجية تبلغ 3 مليارات جنيه، وتوجه معظمها للأنشطة المدنية.

جـ) الوجود العسكري المباشر لأمريكا في قلب العالم العربي.

 

2- مهددات خارجية أخرى:

أ) أمن الجوار، مثل اضطراب الوضع في السودان، ومحاولات التواجد الأجنبي على أرضه، وانفصال الجنوب عن الشمال.

ب) أمن المياه وإذا لم تستطع المفاوضات الحالية تأمين حصة مصر وقطع الطريق على الكيان الصهيوني، فستكون مصر معرضة لأزمة كبيرة، ولا تملك مصر وسائل وأوراق ضغط في هذا الميدان ( المستجدات في هذا الأمر : جفاف بعض منابع النيل في إثيوبيا- بناء سد مروى بشمال السودان عند الشلال الرابع في نهر النيل، البدء في إنشاء سدود أخرى في إثيوبيا وكينيا وجنوب السودان.. ) .

 

جـ) التواجد غير العربي في مدخل البحر الأحمر، بما يهدد قناة السويس بالإضافة لآثاره الأخرى (المستجدات: جزر مدخل البحر الأحمر والتواجد الأجنبي والصهيوني غير المباشر فيها- اضطرابات جنوب اليمن- قراصنة الصومال والتواجد البحري الأجنبي هناك) .

 

د) تصاعد الصراع والضغط على المقاومة الفلسطينية، وتراجع دعمها بل وحصارها وإضعافها، وهي التي تشكل خط دفاع إستراتيجي من جهة الشرق ضد العدو الصهيوني.

 

3- المهددات الاقتصادية:

أ) سيطرة رأس المال الأجنبي الضار أو المشبوه على مفاصل أساسية في الاقتصاد المصري.

ب) ضعف الانتاج الصناعي وتراجع مؤشراته، وكذلك الزراعي.

جـ) اعتماد الدخل القومي المصري في غالبيته على المؤثرات الخارجية (السياحة- قناة السويس- العمالة بالخارج .. ) وبالتالي فإن أي مؤثر خارجي يستطيع أن يضرب ويؤثر على الدخل القومي، ويصبح من الأهمية بمكان الحاجة إلى بناء قاعدة اقتصادية مستقرة لا تتأثر بالعوامل الخارجية كثيرًا .

د) تزايد الدين الداخلي بدرجة كبيرة تخطت123% من الناتج القومي وبهذا تخطت خط الخطورة في هذا الشأن.

هـ) أزمة الغذاء وارتفاع أسعاره متأثرًا بالارتفاع العالمي (خاصة القمح والأعلاف) مع ضعف الإنتاج الوطني في هذه المجالات : ( الدواجن- البيض- اللحوم- الألبان- الجبن .. الخ ) متأثرًا بأحداث متتالية لم يكن هناك قدر كاف للسيطرة عليها أو التعامل السليم معها.

و) تراجع معدل التنمية البشرية في مصر: حيث ترتيب مصر الـ 120 من بين 177 دولة.

ز) المنظومة الاحتكارية لفئة محدودة من رجال الأعمال للاقتصاد المصري والمضاربة وأسلوب الاحتكار وتأثيرهم على القرار السياسي.

 

4- المهددات المجتمعية:

أ) ازدياد البطالة التي وصل معدلها إلى 12 % وتزايد معدلات الفقر لدرجة غياب شريحة الطبقة المتوسطة تقريبًا ليزداد عدد من هم تحت خط الفقر الذي وصل إلى 34 مليون ( حيث يقل دخلهم اليومي عن 2 دولار في اليوم ).

ب) ضعف مستوى التعليم وجودته، والذي أصبح على وشك الانهيار.

جـ) تدهور المستوى الأخلاقي بالمجتمع، متمثلاً في:

- زيادة في معدل الجرائم الاجتماعية.

- تفكك الأسر وزيادة في أطفال الشوارع.

- عدم احترام القانون.

- الميل للعنف.

- انتشار الرشوة والفساد.

- التدخين وانتشار المخدرات.

- الزواج السري- الدعارة.. إلخ.

د) التأثير السلبي والخطير من الإعلام العالمي على المفاهيم والسلوكيات، والاختراق الثقافي للأجيال الناشئة.

 

5- اهتزاز استقرار المجتمع وبروز مطالب فئوية:

أ) النوبة- قبائل سيناء.

ب) الاحتقان الطائفي ويساعد عليه المناخ السائد والانتهازية والتصرفات الحمقاء من أطراف مختلفة، والاستقواء بالخارج وأسلوب الدولة غير المناسب.

 

6- ضعف مرتكزات الشأن المعنوي لدى المواطنين:

ويتمثل ذلك في:

أ) ضعف شعور الانتماء للوطن، واتجاه المصريين إلى الهجرة للمجهول.

ب) تقليل مساحة الحريات السياسية، واستمرار التلاعب بالانتخابات أو تزويرها، مما أدى إلى عدم تفاعل الغالبية وإضعاف القوى الوطنية وانتشار الاستبداد السياسي (أصبح من المتفق عليه علميًّا أن هذه الأمور تؤثر بشدة على الأمن القومي بمفهومه الشامل) .
جـ) عدم محاسبة أصحاب الفساد وخاصة الكبار واستمرارهم في أماكنهم وأعمالهم بل وانتشار الفساد إلى مستويات كبيرة ومهمة في المجتمع.

 

7- تدهور إستراتيجية الأمن القومي ال

عربي:

أ) فأصبحت أمريكا جزءًا رئيسيًّا من معادلة الأمن القومي العربي، كما أن هناك دورًا متزايدًا للكيان الصهيوني في المنطقة (اقتصادي- سياسي) وتأثير ذلك على النزاعات الطائفية وأمن المنطقة.

ب) الصراع الشيعي- السني بالمنطقة والذي ينذر بتهديدات وتطورات خطيرة وتلعب فيه أطراف خارجية لمصلحتها (أمريكا والكيان الصهيوني فهما المستفيد الحقيقي من تطورات وتداعيات هذا الصراع).

جـ) طرح روابط وتجمعات جديدة تتعارض مع الأمن العربي، وتدخل فيه أطراف أخرى لها أجندة خاصة، وتمهد لإدخال الكيان الصهيوني في الإستراتيجية الخاصة بالمنطقة مثال الاتحاد الأورومتوسطي.

هـ) التهديد بتفتيت الدول، وإذكاء الصراعات فيما بينها، وعدم استقرار نظم الحكم فيها أو آليات انتقال السلطة، فانفرط عقد الأمن العربي وأصبحت دوله في حالة دفاع أو تراجع دون رؤية واحدة تعمل عليها بل تنتظر ما تسفر عنه الأحداث، أو تتعامل وفق مصلحتها الشخصية مع كل حدث تواجهه وأصبحت أكثر قابلية للضغط الخارجي.

 

8- إضعاف دور مصر الريادي في المنطقة، وإزاحته لمصالح عناصر أخرى:

لمصر تاريخ وثقل سياسي وشعبي، ودور مهم داخل المنطقة العربية وإضعاف هذا الدور أو أنها تحاول ممارسته بطريقة غير صحيحة أو متأثرة بالتوجيه الخارجي، يؤدي إلى انفراط عقد الأمة العربية .

 

9- ضعف آلية إدارة الأزمات وخاصة في مواجهة الكوارث، ويدخل معها أيضًا تصاعد نزيف حوادث الطرق من إصابات ووفيات.

 

10- تدهور أمن المعلومات:

ليس فقط في الجانب العسكري، وإنما في كل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية المهمة، ويشمل ذلك اكتمال ودقة المعلومات في مختلف المجالات الداخلية، وكذلك المعلومات المتعلقة بأي أزمة في الشأن الخارجي، وما هو متعلق بالقوى المختلفة المؤثرة في المنطقة.

 

والأكثر خطورة في هذا المجال وصول هذه المعلومات بكل تفاصيلها للقوى الخارجية الأخرى وعلى رأسها أمريكا والعدو الصهيوني.

 

خاتمة:

إننا ندق ناقوس الخطر، ونناشد كل القوى الوطنية ومؤسسات المجتمع القومية أن تلتفت إلى هذه المهددات وهذا التدهور الشديد في أمننا القومي، وأن عليها أن تلتقي وأن تتعاون وتتساند لمواجهة هذه التهديدات وصياغة رؤية إستراتيجية ثابتة.

 

وهذا الأمر له مكانه في دعوتنا، وقد أولاه الإمام الشهيد كما بينا اهتمامًا كبيرًا، وموقف الإخوان من العدو الصهيونى، ورفضهم لكامب ديفيد ومشروعهم المستمر لمواجهة هذا الخطر يصب مباشرة في دعم الأمن القومي المصري والعربي، كما أن برنامجهم الإصلاحي في المجتمع من مواجهة التدهور الأخلاقي والاختراق الثقافي، والدور الإغاثي والتكافلي يشكل دعمًا قويًّا لهذا الأمن القومي، وكذلك موقفهم الثابت من رفض أي فوضى أو تخريب في مقدرات الأمة، وإن الحرب التي يتم شنها عليهم من منطلق التنافس الحزبي أو الخوف على الكرسي أو إرضاء لقوى خارجية هو محاولة لإقصاء فصيل أساسي داعم للأمن القومي، والذي هو بحاجة إلى تضافر كل الجهود وتعاون كل القوى الوطنية لدفع المخاطر التي يتعرض لها.

—-------------------
* عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين
**سبق نشره في " إخوان أون لاين" بتاريخ 12 سبتمبر 2011