إعداد: طارق عبد الرحمن

 

منهجنا في عرض التراث

اخترنا في عرض تراث الإمام الشهيد منهجًا أقرب إلى التحقيق والتوثيق منه إلى الدراسة والتحليل، فقد كان كل ما يشغلنا أن يخرج ذلك التراثُ الثمين إلى النور في صورةٍ موثوقٍ من مصادرها، فنتحقَّق من نسبتها إلى إمامنا الشهيد.. لذلك فقد كنا نراجع في ذلك الكثير، ولا نقبل للنشر إلا ما هو بتوقيعِ الإمام البنا نفسه، أو ما أشارت المصادر الموثَّقة إلى أنه بقلمه، وأكدت الشواهد والأحداث ذلك، كأن تخصِّص المجلة بابًا معيَّنًا أو عنوانًا بعينه يحرِّره الإمام الشهيد، وشهد بذلك تلاميذه المعاصرون.

 

ومن الأمور التي كانت جديدةً علينا واكتشفناها في بعض المقالات والأبواب توقيع الإمام الشهيد بكنية له، مثل: أبو وفاء، وأبو علي، والحسن، ولم نعتمد تلك المقالات إلا بعد أن تأكَّدنا من نسبَتِها إليه، إما عن طريق نص المجلة على ذلك، أو عن طريق تحليل المحتوى، وضمِّ الشواهد والأحداث بعضها إلى بعض، وتأكيد ذلك بقرائن قوية، فضلاً عن الرجوع إلى العارفين من تلاميذه.

 

ونرجِّح أن الإمام الشهيد كان يفعل ذلك حتى لا يظهر اسمُه على كثير من مقالات المجلة، خاصةً في بعض فروع العلم، مثل: تاريخ الأدب، والنقد الأدبي، والحق أنه لو تفرَّغ لهذه العلوم لفاق كثيرًا من رجالِها، ولكن بالرغم من أنه عالمٌ جهبذٌ في كثير من فروع العلم إلا أن همَّه الأكبر هو تسخير هذه العلوم في استعادة الشخصية الإسلامية التي افتقدناها تربيةً وتكوينًا.

 

لقد اقتصر عملُنا في تحقيق نصِّ مقالات التراث على:

1- تخريج الآيات والأحاديث الواردة فيها، حتى وإن كان الإمام الشهيد قد قام بتخريج بعضها، وفي تلك الحالات نعتمد على تخريجه أو نستكمل تخريج الإمام.

2- تعريف بالشخصيات الواردة في النص، خاصةً غير المشهورة والمجهولة لدى القارئ غير المتخصص.

3- نسبة النصوص التي اقتبسها الإمام البنا من السابقين إلى مصادرها المنقولة عنها قدر الاستطاعة.

4- تحقيق التواريخ والأحداث الواردة في النص، والتعليق عليها في الهامش عند الضرورة.

5- التعريف ببعض المصطلحات العلمية المتخصصة.

6- توضيح معاني بعض الكلمات اللغوية التي نشعر فيها بصعوبة على القارئ غير المتخصِّص؛ نظرًا لنُدرة استخدامها في عصرنا الحاضر.

7- إضافة بعض العناوين الرئيسية والجانبية لتوضيح المعنى المقصود في المقالات التي لم يضع لها الإمام البنا عنوانًا واكتفى بعنوان الباب.

 

منهج الإمام البنا

اعتمد الإمام البنا في كتاباته الفكرية والسياسية والاجتماعية منهجًا محدَّدًا يمكن توضيحه على النحو التالي:

1- الاهتمام بتحديد الداء وتشخيصه ووصف علاجه.

2- التماس الحلول من الكتاب والسنة أولاً، مع عدم الممانعة في الاستفادة من تجارب الآخرين.

3- اعتماد التدرُّج في العلاج واعتبار آخر الدواء الكيّ.

4- استكمال ما بناه وبدأه غيرُه من المُصلِحين والاعتراف بفضلهم.

5- البحث عن المشترَك بينه وبين المخالفين ودعوتهم للعمل من خلاله.

6- البُعد عن الخصومة الشخصية، واعتبار أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للودِّ قضيةً.

7- تقديم المعارف والعلوم والخبرات؛ باعتبارها منهجًا عمليًّا وليست ترفًا فكريًّا.

8- أنه لا يمكن تطبيق هذه البرامج إلا من خلال جماعة.

 

المقدمة

إن الناظر إلى تراث الإمام الشهيد حسن البنا يجد أنه تحدَّث في أمور الدين والدنيا معًا؛ لذلك عرَض رؤيتَه في الإصلاح السياسي الداخلي، وألقَى الضوءَ على جانبٍ مهمٍّ من جوانب الحياة المصرية، فبيَّن الطريق لمواجهة الاحتلال الانجليزي والاستبداد السياسي، ودعا إلى الوحدة وترك التناحر الحزبي، واهتم بمعالجة الأوضاع السياسية من منظور إسلامي، ونادَى بتطبيق الشريعة الإسلامية، كما بيَّن علاقة الدين بالسياسة، كما ناشد الحكام والرؤساء والوزراء بضرورة الإصلاح السياسي وإطلاق الحريات.

 

العناصر

1- بيان من الإخوان إلى شعب وادي النيل

2- المذكرة المصرية

أولاً: بيان من الإخوان إلى شعب وادي النيل

يوضح الإمام البنا هدفَ الإخوان وماذا يريدون؟ فيقول: "هَدَفَ الإخوان المسلمون منذ نشأتهم إلى أن يجدِّدوا لهذه الأمة شبابَها، ويبعثوا إليها مجدَها، ويخلقوا روحًا جديدًا في الجيل الجديد على أسس الإسلام".

 

ثم يبيِّن الإمام بعد ذلك ويوضِّح لنا أن الإسلام دينٌ شاملٌ كاملٌ لكلِّ نواحي الحياة فيقول: "والإسلام كما عرفوه وآمنوا به نظامٌ شاملٌ لمختلف نواحي المجتمع، وبرنامج كامل يبني الأمة على أقوم الدعائم وأرقَى المبادئ وأروع المُثُل، كما يكفل لجميع العناصر والأديان حياةً هانئةً، تحت ظلال العدالة والإخاء والمساواة، فهو كافل الحريات، وحامي الأقليات، ومحقِّق الإنصاف بين مختلف الطبقات، ولقد كان من البدهي أن يَطبَعَ الإسلام تابعيه على الحرية التامة، والعزَّة المطلقة، فلا يرتضون ذلاًّ في الأرض ولا هوانًا.. ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: من الآية 8).

 

ثم تحدَّث الإمام بعد ذلك عن واجب الإخوان تجاه الأمة، فقال: "لهذا كان لزامًا عليهم- لكي يحقِّقوا للأمة ما يرتجون لها من عزة وكرامة- أن يعملوا جاهدين على تحريرها من نِير الأجنبي، واستخلاصها من براثن الاستعمار الغاشم، مستوحين ذلك من روح الحق، ونزاهة القصد ونهج السبيل".

 

وبعد أن انتهت الحرب كان للإخوان دورٌ كبيرٌ في المجتمع.. يشرح الإمام البنا هذا الدور فيقول: "فلما أن وضعت الحرب أوزارها هبَّ الإخوانُ يُفقِّهون الأمة في حقوقها، وينبِّهون الشعب إلى مطالبه المشروعة، ويستنهضون العزائم للعمل على نَيْل هذه الحقوق، فأصدروا البيانات، وعقَدوا المؤتمرات، وطلعوا على الأمة في كل مطلب من مطالبها بمختلف الدراسات".

 

كما وجَّه الإخوانُ دعوتَهم للأحزاب أن تنسى ما بينها من خلافات، وأن تقوم بدورها، كما وجَّهوا دعوتهم أيضًا لأولي الأمر، فيقول الإمام البنا: "ونادوا بإلحاح أن تنسَى الأحزابُ ما بينها من اختلافاتٍ ومهاتراتٍ، فتتجمع الأمة صفًّا واحدًا، فلا يجد الأجنبي منفذًا من بين هذه الخلافات للمماطلة والمراوغة والتسويف، وأهابوا بأولي الأمر أن يعملوا من جانبهم، وبحكم أوضاعهم الرسمية، على تحقيق أهداف الوطن ونَيل حقوقه المغتصبة".

 

ثانيًا: المذكرة المصرية

بعد هذا المجهود الذي بذله الإخوان يقول الإمام البنا: "ومرَّت الأيام والشهور والإخوان يستحثون الخُطى، ويستثيرون الهِمَم، حتى طلعت الصحف ذات يوم بأن الهيئة السياسية قد اجتمعت، وأن المطالب قد تحدَّدت، وأن الحكومة المصرية قد أَرسَلَت مذكِّرَتَها إلى الحكومة الانجليزية، تطلب تحقيق هدفَي الجلاء ووحدة وادي النيل".

 

تلهَّف الجميع وانتظر ماذا ستفعل هذه المذكرة، ولكن حدث ما لم يكن متوقَّعًا.. يقول الإمام: "انتظر الشعب نتيجةَ ما سعت إليه الحكومة، وإذا بتصريح من وزير الخارجية المصرية (عبد الحميد بدوي باشا) تهتزُّ به أمواجُ الأثير وتتناقله الصحف، كان له أثره السيِّئ في نفوس أبناء النيل خاصةً ودول العروبة بوجهٍ عام.. فلقد صرح الوزير- كما أذيع- بأن مشاكل مصر والعالم العربي ليست مما تمخَّضت عنه الحرب، وأنها لهذا لا تدخل في اختصاص مجلس الأمن، ولقد دُهش الجميع لهذا التصريح الخطير الذي تسبَّبت عنه أزمة وزارية، والذي قال عنه أحد وزراء الحكومة الحاضرة: "إنه وضع القضية المصرية في قفص"، ومن عجب أن قابلت الحكومة هذا التصريح بالصمت التام فلم تعلن رأيها فيه، الأمر الذي يسجِّل عليها رضاءها عنه وتسليمها به، وفي يوم 31 يناير الماضي طلعت علينا صحف الصباح بالنص الرسمي للمذكرة المصرية والرد البريطاني".

 

ولكن هل كانت هذه المذكرة قوية أو كانت فرصةً لتهرُّب الإنجليز ومراوغتهم؟! يجيب علينا الإمام فيقول: "الذي يلفت الأنظار في المذكرة المصرية أنها سلكت مسلك الضعف والاستجداء في أسلوبها؛ مما يسر للانجليز التهرُّب من الاعتراف بحقوقنا التي انعقد إجماع الأمة عليها".
ولقد ضعَّف الإمام البنا هذه المذكرة بناءً على هذه النقاط فيقول:

"فأولاً:

بَنَت الحكومة مطلبها على تعديل المعاهدة التي أثبتت الظروف أنها لم تعُد صالحةً لأن تكون أساسًا للعلاقات بين الدولتَين، بل إن هذه الظروف نفسها قد فرضت بطلان هذه المعاهدة وإلغاءَها إلغاءً تامًّا لأسبابٍ، أهمها زوال عصبة الأمم من الوجود، وقيام ميثاق الأمم المتحدة الذي اشتركت مصر في توقيعه، وتغيُّر الظروف الاستثنائية التي أُبرمت فيها المعاهدة، فضلاً عما بذلته مصر من مجهود أثناء الحرب فاق ما قرَّرته المعاهدة بمراحل كثيرة، وفاق ما كان منتظرًا منها؛ مما أدَّى إلى تغيير مجرَى الحرب في جانب الحلفاء، كما اعترف بذلك قادةُ الحرب وزعماء الدول الكبرى أنفسهم.

 

ثانيًا: لم تحدِّد الحكومة في مذكرتها مطالب البلاد في قوةٍ وصراحةٍ، وكان أولى بها- وهي صاحبة الحق- أن توضح هذا الحق توضيحًا قويًّا تؤكد فيه أنها لن ترضَى عن الجلاء ووحدة وادي النيل بديلاً.

 

ثالثًا: السودان، شطر الوادي، لقد فُجِعَ أبناء النيل جميعًا لهذا الأسلوب المتخاذل الذي صاغت فيه الحكومةُ قضيةَ السودان، بل قضية وادي النيل، فلقد طلبت في ذيل مذكرتها أن تشمل المحادثات مسألةَ السودان، "مستوحيةً" مطالب السودانيين وأمانيهم، وكان أحرى بها ألا تردِّد هذه النغمة الملتوية التي يذكرها الانجليز على الدوام ليفرِّقوا بين شطرَي الوادي، ولقد أعلنا غير مرة أن مطالب السوداني وأمانيه هي بعينها مطالب المصري وأمانيه: جلاء تام.. ووحدة كاملة".

 

هذا عن المذكرة المصرية وما جاء فيها، ولكن ماذا عن الردِّ البريطاني على هذه المذكرة الضعيفة المتخاذلة؟! هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة إن شاء الله.