تحدثنا في الحلقة السابقة عن بعض المقومات الأساسية التي تقوم عليها، وتنطلق منها، دعوة الإخوان المسلمين كما وردت في رسائل الإمام الشهيد حسن البنا- يرحمه الله- وتحدثنا عن البناء العقدي والإيماني، والبناء الأخلاقي والسلوكي، واختتمنا حديثنا عن البناء التنظيمي.
واليوم نستكمل حديثنا عن المقومات ونتحدث عن البناء الفكري.

 

البناء الفكري

إنَّ من مقومات بناء الجماعة وأساس عملها وانطلاقها البناء الفكري، وهو يُشكِّل حجر الزاوية من البناء، وعليه يقوم غيره من المقومات؛ ولذا فقد حَرَصَ الإمام البنا على جعل ركن الفهم هو أول أركان البيعة؛ لأن وحدة الفهم تؤدي إلى وحدة التصور، التي تؤدي إلى وحدة العمل، وإذا كانت هذه الدعوة تنشد نهضة الأمة، وبناء حضارتها فإن ذلك يتطلب العمل الكثير الموحد للجهود حتى يمكن أن تحقق ما تريد من أهداف وغايات منشودة.

 

إن أساس البناء الفكري لجماعة الإخوان المسلمين ينطلق من ركن الفهم، ولقد عرَّفه البنا بقوله: "إنما أُريد بالفهم أن تُوقن بأن فكرتنا إسلامية صميمة، وأن تفهم الإسلام كما نفهمه، في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز..".

 الصورة غير متاحة

 د. محيي حامد

 

وبذلك يُكوِّن الإمام البنا قد حدد المرجعية الكلية لنهضة الأمة، وهي الإسلام، وقد حدد لهذه المرجعية أُطرًا أو أصولاً نفهم فيها الإسلام كأرضيةٍ مشتركةٍ في الفهم والتصور والعمل لهذا الدين العظيم، وقد جعل الإمام البنا هذه الأصول أرضيةَ الانطلاق الإسلامي نحو النهضة، وعندما نتأمل هذه الأصول العشرين نجد أنها شملت جوانب متعددة منها ما يخص فهم العقيدة، وأخرى تخص فهم أصول الفقه، وأخرى تخص أصول في فهم الفقه، بالإضافة إلى بعضِ الأصول العامة، ويندرج تحت كل جانبٍ عدد من الأصول التي تجمع المسلمين وتُوحِّد جهودهم في العمل للإسلام، ومن هذه الأصول ما يُشكِّل كما أُطلق عليها دستور الوحدة الثقافية للأمة الإسلامية، وعندما نتناول بعضًا منها تشعر بأهمية هذه الأصول في البناء الفكري لهذه الجماعة.

 

الأصل الأول: "الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فهو دولة، ووطن أو حكومة وأُمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواء بسواء".

 

وهذا أصل من شمول الإسلام ويُشكِّل العصبَ الفكري للعمل الإسلامي فلا اجتزاء أو انتقاص، بل شمول وتكامل بدءًا من العقيدة والعبادة وانتهاءً بالدولة والحكومة.

 

الأصل الثاني: "والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرُّف أحكام الإسلام، ويفهم القرآن طبقًا لقواعد اللغة العربية من غير تكلفٍ ولا تعسف، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات"، وهذا أصل في المرجعية وتحديد آلية التعامل معها وفهمها الفهم الصحيح.

 

الأصل الثامن: "والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببًا للتفرق في الدين ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره، ولا مانعَ من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف فيظل الحب في الله، والتعاون على الوصول إلى الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب"، وهذا أصل في وحدة المسلمين وعدم اختلافهم أو تفرقهم في الدين، وهو من الأمورِ التي تحفظ لهذه الأمور قوتها وتماسكها في إطارٍ من الحب والتعاون.

 

الأصل العشرون: "لا نُكفِّر مسلمًا أقرَّ بالشهادتين وعمل بمقتضاها وأدَّى الفرائضَ برأي أو معصية، إلا أن أقرَّ بكلمة الكفر، أو أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو كذَّب صريحَ القرآن، أو فسَّره على وجهٍ لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحالٍ، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر".

 

وهذا أصلٌ في محظوراتِ التكفير والغلو والتطرف الذي يؤدي إلى هلاكِ هذه الأمة وتضييع ثرواتها وخيراتها في جهودِ شبابنا فيما لا طائلَ منه.

 

إن هذه الأصول قد حرص الدعاة والعلماء والمفكرون على شرحها وتوضيحها وتربية الأمة عليها، وهذا يدل على توفيق الله- عزَّ وجل- لإمامنا الشهيد وبصيرته الواعية التي أدركت حاجةَ هذه الأمة لمثل هذه الأصول حتى تتمكَّن من الانطلاقةِ نحو تحقيقِ نهضتها وحضارتها المأمولة في وقتنا الحالي والمستقبلي.

 

ولقد كان من توجيهات الإمام البنا لإخوانه بهذا الشأن قوله- رحمه الله- في رسالة المؤتمر السادس: "واذكروا جيدًا أيها الإخوان أن الله منَّ عليكم ففهمتم الإسلام فهمًا نقيًّا صافيًا، سهلاً شاملاً، كافيًا، يساير العصور ويفي بحاجاتِ الأمم، ويُجلب السعادة، مستمدًا من كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- وسيرة السلف الصالحين استمدادًا منطقيًّا منصفًا بقلبِ المؤمن الصادق، وعقل الرياضي الدقيق، وعرفتموه على وجهه عقيدةً وعبادةً، ووطنًا وجنسًا، وحكومةً وأمةً، ومصحفًا وسيفًا، وخلافةً من الله للمسلمين في أمم الأرض جميعًا..".
بهذا يتكون البناء الفكري لهذه الدعوة انطلاقًا من الفهم الصحيح للإسلام وفقًا للأصول العشرين التي حددها الإمام البنا، والتي تُشكِّل الأرضيةَ المشتركةَ للانطلاقةِ للعمل الإسلامي من أجل تحقيق نهضة هذه الأمة، وإعادة كيانها ووحدتها في جميع مجالاتِ الحياة.

 

مسارات وخطوات

إنَّ مساراتِ العمل وخطوات التنفيذ تُعتبر من المعالم الرئيسية لدعوة الإخوان المسلمين، ومكملاً أساسيًّا لمنهجها في التغيير من تحديدٍ للغاية والمهمة والأهداف التي نسعى لتحقيقها؛ وذلك بتحديد مسارات، وخطوات يجب أن نسير فيها ونعمل من خلالها حتى يكون الوصول إلى تحقيقِ الغاية والأهداف التي من أجلها قامت دعوة الإخوان، ورغم وضوح الغاية والأهداف، ربما يُخطئ البعض في كيفيةِ الوصول إليه، ومن هنا نُدرك أهمية تحديد تلك المسارات، والخطوات اللازمة لتحقيق الغاية والأهداف المنشودة.

 

لقد حدد الإمام البنا- رحمه الله- مساراتِ العمل وخطوات التنفيذ في ثلاث هي:
التعريف، والتكوين، والتنفيذ، ويندرج تحت كلٍّ منها تفصيلاً لها، وفي هذا يقول الإمام البنا- رحمه الله- في رسالةِ المؤتمر الخامس: "وأما التدرج والاعتماد على التربية ووضوح الخطوات في طريق الإخوان المسلمين، فذلك أنهم اعتقدوا أن كل دعوة لا بد لها من مراحل..
مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة، وإيصالها إلى الجماهير من طبقاتِ الشعب، ثم بعد ذلك..

 

مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج، وكثيرًا ما تسير هذه المراحل جنبًا إلى جنب؛ نظرًا لوحدةِ الدعوة وقوة الارتباط بينها جميعًا، فالداعي يدعو، وهو في الوقت نفسه يتخير ويُربي، وهو في الوقت عينه يعمل وينفذ كذلك".

 

ونستخلص من هذه الكلمات النقاط التالية:

أولاً: إن التدرج في الخطوات من أصول، وفقه العمل في دعوة الإخوان المسلمين، وفي ذلك يقول الإمام البنا- رحمه الله- في رسالة "هل نحن قوم عمليون": "ذلك واضح جلي في الخطوات التي سلكتها دعوة الإسلام الأولى فقد وضع الله لها منهجًا محدودًا يسير بالمسلمين الأولين- رضوان الله عليهم- إليه من دعوة في السر، ثم إعلان بهذه الدعوة ونضال في سبيلها لا يمل، ثم هجرة إلى حيث القلوب الخصبة والنفوس المستعدة، فإخاء بين هذه النفوس، وتمكين عُرى الإيمان في قلوبها ثم نضال جدي، وانتصاف من الباطل للحق.

 

إن هذه النهضات يرسم منهاجها الحق تبارك وتعالى وبهدي الرسول ومن ورائه قومه، ويرشدهم إلى خطواتِ المنهج خطوةً خطوةً في وقتها المناسب، ويؤيدهم في كل ذلك بنصره فتكون النهضة موفقة لا محالة.."، ثم يحدد بعد ذلك أسباب الفشل وعدم التوفيق فيقول: "فإنني ألاحظ خلق التسرع المركوز في طباعنا، وسرعة التأثر، وهياج العواطف الذي يبدو فينا واضحًا.. وغيرهما من أسبابٍ اجتماعية، وغير اجتماعية جعلت نهضتنا ثورات عاطفية تشتد بقوة المؤثر الوقتي، وشدته ثم تحمل، وتزول كأن لم يكن شيء.."، ومن هنا نُدرك أهمية تحديد الخطوات والمسارات التي نعمل من خلالها، وكذلك أهمية التدرج في تنفيذها.

 

ثانيًا: الاعتماد على التربية والتكوين، وفي ذلك يقول الإمام- رحمه الله-: "أيها الإخوان المسلمون، وبخاصة المتحمسين المتعجلين منكم: اسمعوها مني كلمةً عاليةً داويةً من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع.. إن طريقكم هذا مرسومة خطواته، موضوعة حدوده، ولستُ مخالفًا هذه الحدود التي اقتنعتُ كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقًا طويلة، ولكن ليس هناك غيرها، إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمَن أراد أن يستعجل ثمرةً قبل نضجها أو يقطف زهرةً قبل أوانها فلستُ معه في ذلك بحال، وخيرٌ له أن ينصرفَ عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة، وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه إحدى الحسنيين، إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة".

 

ثالثًا: ضرورة المراحل الثلاثة للدعوة: فمرحلة الدعاية والتعريف هي أساس لنشر الفكرة، والإقناع بها، ومرحلة التكوين، وتخير الأنصار لا غنى عنها في بناء صف مؤمن متماسك، ومرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج هي المردود الحقيقي والناتج الطبيعي للمراحل السابقة.

 

رابعًا: ضرورة التوازن بين المراحل الثلاث، فلا يغلب جانب على آخر، فإذا ضعف التعريف قلَّ الأنصار، وإذا ضعفت التربية، والتكوين قل العمل والإنتاج، وإذا غلب التنفيذ على التكوين ضعف البناء وقلَّ تماسكه، وإذا غلب التعريف على التكوين ضعف بناء الأفراد وتكوينهم، وإذا غلب التكوين على التعريف انحسرت الدعوة، وقلَّ أثرها في نفوس الجماهير، والمحبين لها، ومن هنا لزم السير المتوازن بين مراحل الدعوة الثلاث، وعدم تغليب مرحلة على أخرى حتى يتحقق التكامل والانسجام المطلوب في بناءِ الدعوة.

 

ويشرح الإمام البنا تصوره لكل مرحلةٍ من هذه المراحل الثلاث فيقول في رسالةِ التعاليم: "وذلك أن مراحل هذه الدعوة ثلاث:

التعريف: بنشر الفكرة العامة بين الناس، ونظام الدعوة في هذه المرحلة نظام الجمعيات الإدارية، ومهمتها العمل للخير العام ووسيلتها الوعظ والإرشاد تارةً، وإقامة المنشآت النافعة تارةً أخرى، وإلى غير ذلك من الوسائل العملية، وكل شعب الإخوان للقائمة الآن تمثل هذه المرحلة من حياة الدعوة، وينظمها القانون الأساسي وتشرحها رسائل الإخوان وجريدتهم، والدعوة في هذه المرحلة (عامة)، ويتصل بالجماعة فيها كل مَن أراد من الناس متى رغب المساهمة في أعمالها ووعد بالمحافظة على مبادئها، وليست الطاعة التامة لازمة في هذه المرحلة بقدر ما يلزم فيها احترام النظم والمبادئ العامة للجماعة.

 

التكوين: باستخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد، وضم بعضها إلى بعض، ونظام الدعوة في هذه المرحلة صوفي بحت من الناحية الروحية، عسكري من الناحية العملية، وشعار هاتين الناحيتين دائمًا (أمر وطاعة)، من غير ترددٍ ولا مراجعة ولا شك ولا حرج، وتمثل الكتائب الإخوانية هذه المرحلة من حياة الدعوة.. والدعوة فيها خاصة لا يتصل بها إلا مَن استعدَّ استعدادًا حقيقيًّا لتحمُّل أعباء جهاد طويل المدى كثير التبعات، وأول بوادر هذا الاستعداد كمال الطاعة.

 

التنفيذ: والدعوة في هذه المرحلة جهاد لا هوادةَ معه، وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية، وامتحان وابتلاء، ولا يصبر عليها إلا الصادقون، ولا يكفل النجاح في هذه المرحلة إلا كمال الطاعة كذلك".

 

ومن هذه الكلمات نستطيع أن نستخلص الآتي:

أولاً: إن مرحلة التعريف تهدف إلى نشر الفكرة، وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب.

 

ثانيًا: إن المهمة الأساسية لمرحلة التعريف هي العمل للخير العام، ووسائلها من خلال الجمعيات، والوعظ والإرشاد، إقامة المنشآت النافعة إلى غير ذلك من الوسائل العملية.

 

ثالثًا: إن الدعوة في مرحلة التعريف عامة، ويتصل بالجماعة فيها كل مَن أراد من الناس متى رغب في المساهمة في أعمالها، ووعد بالمحافظة على مبادئها.

 

رابعًا: إن مرحلة التكوين تهدف إلى استخلاص العناصر الصالحة لتحمل أعباء الجهاد في سبيل تحقيق الغاية، والأهداف التي من أجلها قامت دعوة الإخوان.

 

خامسًا: إن المهمة الأساسية لمرحلة التكوين هي بناء الفرد المسلم المتكامل في فكره وخلقه وروحه وسلوكه؛ ولذا كانت التربية الروحية أساس هذه المرحلة.

 

سادسًا: إن الدعوة في مرحلة التكوين خاصة لا يتصل بها إلا مَن استعدَّ استعدادًا حقيقيًّا لتحمل أعباء جهاد طويل المدى كثير التبعات.

 

سابعًا: إن مرحلة التنفيذ مهمتها الأساسية هو السعي الحثيث لتحقيق الأهداف المنشودة، وهذا يتطلب العمل المتواصل والصبر واحتمال المشاق.

 

ثامنًا: إن الدعوة في مرحلة التنفيذ تتميز بجهادٍ لا هوادةَ معه.