في حي مصر الجديدة القابع شرق القاهرة، هذا الحي الهادئ تقطنه سيدة فاضلة، تجاوزت السبعين من عمرها تكابد الأمراض، وتغالب الأحزان على فراق مؤلم للغالي العزيز عليها بعد حادث، الله أعلم بحقيقته، عندما تدخل بيتها تجد فيه السكينة والطمأنينة، تجد نفسك أمام امرأة أعادت للأذهان سيرة الصحابيات في صبرهن وجهادهن، وحبهن للعمل لدين الله، فقد رحل زوجها وتركها تكابد الحياة، فارقها وقلبها يعتصر ألمًا وحزنًا على فراق هذا المجاهد الغالي، فما قصتها؟!

 

البداية

في محافظة المنوفية نشأ الأبوان وربيا أولادهما: سعد ومحمد وسمير والبنات، على حب الالتزام، وكان سعد الذي وُلد في عام 1921م رجلاً بمعنى الكلمة، فمنذ نعومة أظافره تربى على حب الاعتماد على ذاته؛ فبعد حصوله على دبلوم الصنائع التحق بالعمل مع والده في معمل تكرير البترول بالسويس، وبعد وفاة والده اختارته إدارة المصنع ليكون صرَّافًا للمصنع.

 

تزوج من إحدى الفتيات والتي أنجبت له بنتين هما فاطمة ومنى، غير أن زوجته سرعان ما لحقت بالرفيق الأعلى بعد دخوله المعتقل بثلاث سنوات، غير أن الله عوَّضه بزوجة صالحة وهي السيدة زينب الكاشف، والتي كانت إحدى أخوات الإسكندرية؛ حيث اعتقلت في 6 سبتمبر 1965م، وظلت فيه حتى 6 مارس 1966م، وظل معها حتى صدمته عربة عام 1993م أودت بحياته.

 

بين دعوة الإخوان

ظل سعد سرور كامل يعمل في مصنع تكرير البترول بالسويس؛ حيث تعرَّف فيه على بعض الإخوان، وعرف عنهم حسن الخلق، وسرعان ما التحق بشعبة الأربعين عام 1942م، وأصبح من رجالها المميزين، وقد اعتمد عليه الأستاذ الطاهر منير كثيرًا لتميُّزه وتقديره للمسئولية حتى أصبح سكرتيرًا للشعبة قبل أن ينتقل للعمل في مسطرد.

 

انضم سعد سرور إلى النظام الخاص ونشط فيه حتى دخلت الجماعة في طور المحن عام 1954م، فدخلها هو أيضًا وناله ما نال كثير من الإخوان؛ حيث اعتقل في 27 أكتوبر 1954م، أثناء ذهابه لعمله في الصباح الباكر، وسيق إلى السجن الحربي؛ حيث ذاق العذاب الشديد الذي يعرفه الداني والقاصي، وقُدِّم لمحاكمة ظالمة تجرَّد قضاتها من كل معنى إنساني، فقد كانوا بحق نعم الخصم والحكم، وكيف لا وهم الذين أذاقوا الشعب كله معنى الذل والهوان من أجل سلطانهم الفردي؟! وكيف لا وهم الذين قتلوا واغتصبوا وسجنوا إخوانًا وغير إخوان من أجل رغبة ذويهم في حب الانتقام؟!

 

إن هذه الحقبة تشهد على انهيار المجتمع المصري في ظل جبروت الحاكم وعصابته، فنهبت الأموال وهربت للخارج باسم الثورة، واغتصبت النساء تحت التهديد باسم العمل الوطني لمخابرات صلاح نصر، من أراد أن يؤرخ عن هذه الحقبة التي أعدمت وثائقها، فأصبح نادرًا أن تجد وثيقة إلا ما كان يخدم السلطان ويثني على هذه الحقبة، غير أن كثيرًا من شهود العيان الذين عاشوا وتربوا وسط هذه الحقبة ما زال عندهم من الأخبار الكثير.

 

حكمت المحكمة عليه بخمسة عشر عامًا، يقضيها بدون تهمة إلا أنه عمل من أجل ايجاد ديمقراطية وحكم إسلامي لهذا الوطن مع كثير من شرفاء البلد، غير أنه وجد أن عبد الناصر قد أشَّر على ملفه- كما حدث مع كثير من الإخوان الذين لم يؤيدوا- أن يتم اعتقاله بعد قضاء المدة فلم يخرج من غياهب السجون إلا أوائل عام 1972م.

 

خواطر مسجون

ما كادت المحاكمات تنتهي، إلا ورأى عبد الناصر أن يزيد جرعة التعذيب النفسي على هؤلاء المساجين، فأصدر قرارًا بترحيل كثيرٍ من الإخوان إلى سجن الواحات- وهو سجن داخل الصحراء الغربية وكان على هيئة خيام تحوطه الأسلاك الشائكة، وفيه الجو شديد الحرارة نهارًا شديد البرودة ليلاً- وكان من ضمن المجموعة التي نفيت إلى الواحات بعد مذبحة طرة التي اقترفها عبد الناصر في حق العزل الموجودين فيه فقُتل واحد وعشرون وأصيب واحد وعشرون أجهزت عليهم أشاوس الداخلية أثناء انتقالهم للمستشفى.

 

غير أنه سجَّل خواطره وعما دار في شجونه نحو السجن الحربي فقال:

ملعون السجن الحربي                        واللعنة شويه عليه

جواه ياما شفت مآسي                        اسمعني حقولك إيه

من أول يوم ودُّوني                          ودخلت من البوابة

شلة عسكر قابلوني                          ما تقولش وحوش م الغابة

نبابيت وبواني ف جنبي                       مش عارف كل ده ليه

 

وفي سجن الواحات أصبح فارس الحلبة وطائره المغرد الذي يجوب هنا وهناك ليأتي بأطيب الكلم، فكانت كلماته تنزل بردًا وسلامًا على قلوب إخوانه فكان يقول:

بين الجنة وبين النار *** ليه الناس دايمًا تحتار

فكر حبة تروح الجنة *** ما تفكرش تروح النار

خللي لسانك دايمًا طاهر*** واوعى الغيبة ولحم أخوك

تحفظ غيبته تروح الجنة*** تنهش لحمه تروح النار

فكر حبه وشغل عقلك*** شوف الأحسن إيه واختار

 

كما كان يستخدم ملكته في الزجل ليضحك إخوانه، فعندما فقد الأخ عبد القادر حميد زوجين من الفنكين كان يربيهما وينجو من أعمال السجن بسبب مهارته في تحنيط الحيوانات، وقد أحبه الضباط لهذه المهارة التي تعود عليهم بالنفع، ولنترك الحديث للأستاذ علي نويتو يصف هذا الحدث فيقول: "وفي ذات مرة اصطاد الأخ عبد القادر حميدة فنكين أحياء، وصنع لهما بيتًا يؤويهما، وكنا جميعًا نذهب لهذا البيت وننظر إليهما ونطعمهما، وكانا في أدب جم ويجلسان القرفصاء، ونلقي إليهما اللحوم ونؤثرهما على أنفسنا، وفي يوم افتقدنا الاثنين ولم نجدهما، ووجدنا مكانهما خندقًا حفراه وكانا يجلسان فوقه، ولم نجدهما، إن السجن صعب حتى على الحيوان، ففجَّر هروبهما المشاعر بداخلنا، وعادةً ما تتفجر من الفنان، سواءُ كان شاعرًا أو رسَّامًا أو زجَّالاً؛ فالانفعالات تفجر المواهب، وقد انفعلنا جميعًا بهذا الحادث، وفي مطلع قصيدة زجلية قالها الأخ سعد سرور- رحمه الله- بعد أن تأثر بهذه الواقعة، فقال:

 

هاتي الدموع يا عين *** وابكي على الفنكين

بعد التعب ما طال *** طاروا في غمضة عين

 

كما أنه وصف الأستاذ سعد سرور بقوله: كان الأخ سعد سرور زجالاً رزينًا معينه القرآن والسنة، وسجل لنا كل ما حدث خطوة بخطوة زجلاً رائعًا".

 

قضى في الواحات مدة عم فيها الرخاء واستطاع الإخوان فيها أن يحولوا الصحراء الجدباء إلى أرض خضراء مما ساء بذلك الطغاة فأمر ببناء سجن في المحاريق وترحيل جميع الإخوان الموجودين في الواحات إليه فما زادهم إلا إصرارًا وتمسكًا بتعاليم دعوته.

 

وعندما قدمت السيارات لشحن الإخوان إليه تفجرت قريحته فأخرجت زجلاً روّح على كل إخوانه وأخذوا ينشدونه أثناء ركوب السيارات وتوجههم إلى المحاريق فكان مما قال:

ع المحاريق ع المحاريق *** ربك بكره يفك الضيق

 والله رجعنا للزنازين *** أوعى تكون مهموم وحزين

شد العزم وقول يا معين

لف النمرة وياللا قوام *** واتقل واصبر ع الأيام

وابقى في وقت الحق جريء

 

وأخذ الظالمون يضيقون عليهم في الزنازين ولم يسمحوا لهم بالخروج منها كثيرًا حتى يكتبوا تأييدًا، فأخذ ينشد ويقول:

محلاها والله الزنزانة *** مزنوقة ولكن سايعانا

 والقعدة فيها عجبانا *** وقلوبنا سعيدة وفرحانة

النومة عل الأبراش حلوة *** وبقينا مع الله في خلوة

وكتاب الله أجمل سلوى *** وآياته تنور دنيانا

 

وقد اتصف سعد سرور بحبه الشديد لإخوانه ولدعوته، حتى إن الأستاذ عمر التلمساني يصف ذلك بقوله: "لقد شاء الله لي- وله الحمد والمنة- أن أسعد هاتيك الساعات مع صاحب هذه الأهازيج، على رنات القلب، في حلو النغم ذوب العاطفة في ذهب الأصيل، قطرات الندى تقبل الحسن النبيل، ترانيم السحر في جوف الليل الطويل، حلاوة النجوى في هدوء الصابرين، حنان الدعاء في ثنيات فؤاد الخاشعين، وآلاء الهدى تحدوا الساعين إلى الله، الطالبين هداه، الآملين في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.

 

 لئن أضنت زنازين السجون أعصاب نزلائها، فقد أحالها سعد بن سرور إلى خلوات، يذكر فيها اسم الله كثيرًا، ولئن أفزعت خطوات السجان أمن النائمين، فقد جعلها سعد نداء التهجد في وحدة الليل البهيم تتهاوى معها صخور الجدران، وتتحطمن أمامها أسوار الحديد فلا حائل بينك وبين الدعاء ولا حجاب".

 

 الصورة غير متاحة

سعد سرور وابنتاه منى وفاطمة وزوجه وأمه وأخوه في معتقل الواحات

 بهذا القلب الذي حمله بين جنباته والحب الدافق لإخوانه نسمعه ينشد ويردد هذه الأنشودة كل أخ على مدار السنين لما فيها من معانٍ حيةٍ حيث قال:

إخواني إخواني *** دول أهلي وخلاني

أفديهم بعنيه *** وحياتي ووجداني

القلب بيهواهم *** مش ممكن يسلاهم

وإن غابوا عن عيني *** بيحن لذكراهم

حبوني وحبتهم *** يا حلاوة عشرتهم

أنصرهم وأحميهم *** وأحفظهم في غيبتهم

الشوكة اللي تصيبهم *** تتعبني وتتعبهم

والعهد اللي في قلبي *** متوصل بقلوبهم

 

توفيت زوجته الأولى بعد دخوله المعتقل بثلاث سنوات فصبر واحتسب، ودعا الله أن يجزيه ويأجره خير الجزاء، كما تزوجت إحدى بناته وهو في المعتقل فأقام له إخوانه عرسًا وظل بهذه الروح وسط إخوانه حتى فرج الله عنه هذه المحنة بعد وفاة عبد الناصر فخرج أوائل عام 1972م.

 

زواج مبارك

ما كاد ينعم بالخروج حتى عاد لعمله مرة أخرى غير أنه تركه والتحق بالعمل- كبقية إخوانه- في مصانع الشريف، غير أنه عاد لعمله في شركات البترول حتى خرج على المعاش.

 

غير أن هذا الطائر المغرد لا بد له من أليف يكمل المسيرة معه، فوفقه الله إلى كل خير بأن يسر له الزواج من أخت فاضلة أصابها في عهد عبد الناصر ما أصاب الإخوان من الاعتقال، وتصف هي زواجها منه بقولها: "كان هناك أخ محامٍ من القاهرة يبحث عن عروسة، وقابل الأخ محمود من الإسكندرية، وسأله فأجابه: أنه عنده عروسة، لكنها كانت معتقلة، فرحب الأخ جدًّا، فأرسل له الأخ محمود صورتي، لكن الأخ المحامي حدث له انزلاق غضروفي ورقد في السرير لفترة طويلة، وأثناء مرضه زاره الحاج سعد سرور وسأله المحامي لماذا لا تتزوج؟ فقال سرور: لم أجد العروسة التي تقبل ظروفي، فقال له: هناك أخت من الإسكندرية وكانت معتقلة، وأعتقد أنها ستوافق على ظروفك، وأعطاه الصورة، وعرف منه أنها كانت له. فقال له: "وأنت؟ قال له: أنا تعبان وبعدين يا عم ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ....﴾ (الحشر: من الآية 9)، فأخذ سعد الصورة وذهب إلى الإسكندرية وقابلها وطلبها من أهلها، وفي البداية كانت هناك اعتراضات كبيرة عليه من أهلها، لكنها وافقت ووقفت ضدهم إلى أن وافقوا، وانتقلت إلى القاهرة للمعيشة معه".

 

وأخذ يعمل وسط إخوانه، فلم يكل مرة وكان محل ثقة المرشدين جميعًا فعهدوا له بميزانية الجماعة، وكان- هو وزوجته- حريصًا كل الحرص على زيارة إخوانه جميعًا كبيرًا أو صغيرًا ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، وفي أحد الأيام كان زفاف أحد الإخوان فحضره، غير أن الأمن منع حفل الزفاف في المسجد؛ لأن المسجد كان بجواره كنيسة، وكان الأستاذ مصطفى مشهور حاضرًا هذا الحفل فقال للضابط: ممكن نعمل الفرح في الكنيسة فخاف الضابط وسمح لهم بعمل الزفاف في المسجد.

 

ولقد شارك إخوانه المؤتمرات بزجله الذي أقلق النظام.

 

خاتمة أليمة

في عام 1993م، كانت تنتظره مفاجأة أليمة حيث كان على موعد مع الموت، وتصف الزوجة هذا الحادث بقولها: "لقد أخبرني ذات يوم برؤيا رآها قبل استشهاده وهي أن أباه وأمه- وكانا متوفيين- يدعوانه إلى الطعام معهما فقلت له: خيرًا إن شاء الله، وكان من عادتنا أن نأتي بمتطلبات الشهر من طعام مرة واحدة، فكنا على موعد للخروج من أجل ذلك، وكنت وقتها أعد الطعام فقال لي: إذًا أخرج لآتي بالجرنال حتى تنتهين- وكان مراقبًا من قبل أمن الدولة- وبعد أن خرج تأخر في العودة فقلقت عليه، وبعد وقت جاء من أخبرني أن سيارة صدمت زوجي ونقل إلى مستشفى هليوبوليس، فسارعت بالاتصال بالحاج أحمد عليوة وزوجته وأخبرتهم بما حدث لسعد، فسارعا وجاءا وأخذاني إلى المستشفى، فوجدته ينزف من رأسه، فنقلته إلى مكان آخر لعمل أشعة مقطعية، واتصلت بالإخوان، ثم عدت به للمستشفى مرة أخرى حيث وجدت الطبيب عبد القادر هناك، وبعدها بقليل أخبرني أن سعدًا فارق الحياة، لم أحتمل هذه اللحظات التي مرت علي كدهر، وفي المسجد تحركت جموع الإخوان في مظاهرة عظيمة لتشييع جثمان الشهيد، ودفن في مدينة نصر بالقاهرة، وفي اليوم الثاني اتصلت بالأستاذ مصطفى مشهور حتى يأتي ليأخذ الأموال التي كان يحتفظ بها سعد، والتي كانت تخص الجماعة حتى لا يظنها بناته أنها أموال أبيهم، فأتى وأخذها وأخذ أوراقه، وعشت صابرة على فراقه، محتسبة الأمر عند الله على أمل اللقاء معه في جنة الخلد".

 

المراجع

1-  حوار شخصي مع الأستاذ أحمد عليوة يوم 12 فبراير 2008م.

2-  حوار شخصي مع الحاجة زينب الكاشف يوم 29/11/2007م.

3-  سعد سرور كامل: خواطر مسجون، دار الدعوة للطبع والنشر، الجزء الأول، 1958م.

4-  محمد الصروي: الإخوان المسلمون في سجون مصر (من عام 1942م- 1975م)، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2006م.

5-  عبد الحليم خفاجي: عندما غابت الشمس، دار التوزيع والنشر الإسلامية.

6-  مجلة المجتمع الكويتية: العدد 1786، بتاريخ26/1/2008م.

--------

* باحث تاريخي- [email protected]