كنت عازفًا عن الكتابة في الصحف لما يقرب من عام لأسبابٍ عديدةٍ؛ لعل أهمها تردي الأوضاع في مصر في كافة المجالات، وأن هذا التردي لا يعلمه تفصيلاً المواطن العادي، بل يعيشه يوميًّا ويئنُّ من وطأته في كل ساعة من اليوم.

 

ثم جاءت الأحكام العسكرية الظالمة الجائرة، بل الإجرامية، على خمسة وعشرين من أشرف أبناء هذا الوطن الحبيب، وأكثرهم تفانيًا في رفعته وإخلاصًا في إخراجه مما هو فيه ويعاني منه، وهذا العدد شمل رجال أعمال وأساتذة جامعات ومهنيين، لتكون الأحكام بين ثلاث إلى عشر سنوات، مع مصادرة أموال البعض منهم الذي لديه بعض الأموال، وهنا كان لا بد أن أعودَ إلى الكتابة الصحفية بغرض التسجيل؛ لأعود بعد ذلك إلى أبحاثي وعملي الأكاديمي.

 

وهذه الأحكام لا تشكِّل اعتداءً صارخًا على حقوق المواطن الأساسية فحسب، بل هي جريمة نكراء، ارتكبها النظام في حق مواطنين شرفاء بلا جريرةٍ ارتكبوها، سوى حب مصر والعمل الجاد والدءوب لمعالجة مشكلاته المزمنة، كلٌّ في مجاله؛ الأعمال أو الجامعات، وتمثِّل مثالاً فجًّا على عدم احترام الدستور والقانون، وعدم الاكتراث بأحكام قضائية، وصلت إلى أربعة أحكام بالإفراج الفوري من سراي المحكمة وبالتطبيق العاجل للأحكام بمسودَّتها، وبعد الإفراج الشكلي يُقبَض عليهم من قِبل أجهزة أمن الدول الداخلية، أو قُل في وقت الإفراج الشكلي نفسه يقبض عليهم.

 

وللخروج من هذا المأزق أُحيل هؤلاء المواطنون المدنيون إلى المحكمة العسكرية، ثم بدأت أحداث السيناريو الأمني تتوالى قرابة سنة ونصف لتصدر هذه الأحكام الجائرة الآثمة، والتهمة كما يعلم الجميع لا أساسَ لها، سواءٌ في شِقِّها الخاص بغسل الأموال، أو شقِّها الخاص باستخدام هذه الأموال لتمويل أنشطة الجماعة؛ فبالنسبة للشقِّ الأول يعلم المبتدئ في دراسة الاقتصاد أن غسل الأموال أو تبييضها يعني استخدام أموال اكتُسبت بطرق غير مشروعة في تنفيذ أعمال مشروعة؛ لكي تكتسب هذه الأموال شرعيتها، والكل يعلم، بمن في ذلك خبراء وزارة العدل، أن مشروعات هؤلاء المواطنين تكوَّنت من أموالٍ مشروعة، ومصادرها معروفة، وبإفصاح كامل وشفافية واضحة، وكانت تخضع لكل أجهزة الإشراف والرقابة من أول إنشائها وحتى القبض على أصحابها، كما كانت ملتزمة تمامًا بدفع ما عليها من رسوم وضرائب كحق للمجتمع عليها.

 

الأكثر من ذلك كانت هذه المشروعات الناجحة بكل المعايير الاقتصادية، وبشهادة مَن تعامل معها من مستثمرين وطنيين وأجانب سببًا في فتح مئات بل ألوف البيوت، والسؤال المنطقي هنا هو: هل يُعقل أن تغلق أبواب ما يقرب من مائتي شركة ومصنع والاقتصاد المصري في أمسِّ الحاجة إلى مشروعٍ ناجحٍ واحدٍ للمساهمة في إخراجه من ركوده بل أزماته؛ من فقرٍ وبطالةٍ وتضخُّمٍ، إلى آخر قائمة الأزمات التي يعاني منها اقتصادنا، لمجرد أن أصحاب هذه المشروعات ينتمون إلى تيار إسلامي ذي ثقل واضح في الشارع المصري ويطالب بالإصلاح في شتى المجالات؟!

 

أما الشق الثاني والخاص بأن هذه المشروعات تُموِّل أنشطة الجماعة الذي أكَّد مؤسسها أن إحدى ثوابت الجماعة تنظيميًّا أن مشروعات أفراد الجماعة لا بد أن تكون منفصلةً تمامًا عن أنشطة الجماعة، ولم يستطع أن يقدِّم شاهد الإثبات من الداخلية دليلاً واحدًا أو حتى قرينة على هذا الادعاء الباطل.

 

قد يحدث ذلك في الحزب الوطني؛ حيث يستشري الفساد لصالح بعض القيادات، ولكي تستفيد في النهاية أضعاف أضعاف ما تقدِّمه للحزب، لكن لا يمكن أن يكون هذا نهج الجماعة أبدًا، وهذا يذكِّرنا بكارثة شركات توظيف الأموال التي ضُربت بلا هوادة من قِبل النظام، وما زال آلاف المواطنين يعانون من هذا الحدث، وما زال مناخ الاستثمار يعاني سلبًا من آثاره.

 

إذن.. يبدو أن النظام يصرُّ على استمرار الاستبداد والفساد؛ كأداة من الأدوات بالغة السوء للاقتصاد والمجتمع، من خلال معالجة أمنية باطشة؛ ضمانًا، في تصوُّره، لاستمرار الاستيلاء الأبدي على السلطة، ولانتقالها بسلاسة عن طريق التوريث، ولعل ما حدث في انتخابات مجلس الشورى والمحليات خيرُ دليل على ذلك، بعد التعديلات الدستورية المعيبة، والتي نعتها فقهاء الدستور بـ"تعديلات الخطيئة".

 

والسؤال هنا: إذا كان النظام قد أحكم سيطرته على الحكم نتيجة أغلبية مغتصبة فلماذا يستمر في التنكيل بالقيادات الإخوانية بخاصة، والجماعة بعامة؟! والإجابة على ذلك بسيطة:

داخليًّا.. يريد أن يقلِّص ثقل الجماعة في الشارع المصري، ويرسل إنذارات متتالية لأفرادها أن هذا هو الحل الوحيد لتحجيمها؛ الحل الأمني والمحاكمات العسكرية، كما يرسل إنذارات إلى كل القوى المعارضة الناشئة بالمعنى نفسه، وهنا يخطئ النظام تمامًا؛ فالجماعة موجودة وبقوة في الشارع المصري، ولن يستطيع أي نظام أن يحجِّمها، بل العكس؛ تزداد قوةً في المحن وتعاطفًا من القوى الحية في المجتمع، ويزداد النظام فقدانًا لأية مصداقية باقية له لدى المواطن المصري.

 

وخارجيًّا.. يريد أن يشدِّد النظام لأعداء الأمة من الصهاينة والأمريكان على أنه وكيلُهم المعتمَد في المنطقة، فكما أن الكيان الصهيوني هو امتدادٌ للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، يريد النظام أن يؤكِّد وكالته للاثنين بادعاء تقليص أو تصفية الإسلاميين الإرهابيين.

 

ويعتمد النظام على حقيقة أو ثابت أصيل من ثوابت الجماعة، وهو أنها جماعة معتدلة، تنبذ العنف، وتحرِّم الإرهاب، فيستغل هذا الثابت بانتهازيةٍ لا نظير لها، و"ميكافيلية" شديدة الوضوح، ومع ذلك سنظل ثابتين على منهجنا؛ ليس خوفًا من النظام، وإنما اتساقًا مع هذا الثابت الذي ينبثق من صحيح إسلامنا، وسنظل ندعو بالحب شعبنا العظيم حتى يحدث الإصلاح المأمول والتغيير المنشود.

 

فتحيةً إلى إخوتي.. الشاطر وإخوانه.. في محبسهم، وأقول لهم: صبرًا آل الشاطر؛ فموعدكم النصر القريب في هذه الدنيا بإذن الله تعالى والفردوس الأعلى في الآخرة بمشيئة الله سبحانه (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: من الآية 21)، وحسبنا الله ونعم الوكيل.