حكاية الجارية واللبن.. من أجلك أنت!

فلما كانت الليلة الخامسة والتسعون بعد المائة الثالثة بعد الألف التاسعة؛ قالت فقرزاد:

بلغني أيها الملكُ الديمقراطي، الذي لا يخنعُ ولا يطاطي، أن ملكَ جزائر النائمين، أرادَ أن يتنازل عن مملكته لولده في التوِّ والحين، غير أن ولي العهدْ، بكى وولولَ ولطمَ الخدّْ، فتعجب من أمره الحاضرون، من الوزراءِ والأمراءِ والجلادين، وسأل أحدُ الجالسين، رجلاً بجانبه من رجال الملك المقربين، عن سرّ بكاء ولي العهدْ، ورفضه تولي أمور المملكةْ في اليوم أو الغدْ!
فقال: هذا حديثٌ عجيبْ، وأمرٌ غريبْ، لو كُتِبَ بالماوسْ، على برنامجِ الأوفيسْ، لكانْ عبرةً لمن اعتبرَ واقتبسْ، فإنَّ وليَّ العهدِ الميمونْ، يخشى مما سوفَ يحدُثُ ويكونْ، إذا صارتْ إليه الأمورْ، فهو يخشى غضبةَ الرعيَّةِ والجمهورْ، خاصةً بعدما تدهورت أحوالُ البلادْ، وزادت حوادثُ القتل والسرقة بينَ العبادْ.

 

فوليُّ العهدِ يجمعُ كلَّ ليلةٍ رجالَه، ويكرر عليهم سؤالَه: ماذا أقولُ إذا سألني أهلُ البلادْ، عن القتلى منَ العبادْ، في غير قتالٍ أو جهادْ؟

وماذا أقول لأهل المملكة، عن أحوال المملكة المضحكة؟

 

لقد أغرقناهم في البحار والمحيطاتْ، وأحرقناهم في المسارحِ والقطاراتْ، وجعلنا أبناءهم يتسولون العمل في بلاد الإفرنجْ، وتخطّت البطالةُ والفقرُ المُعدّل والرينجْ.

 

لقد قَتَلَ عسسُ الملكِ الكثيرَ منَ الرجالِ والنساءْ، واقتحموا بيوتهم في الصباحِ والمساءْ، ومنَ اعترضَ حُوكم محاكماتٍ ملكيةٍ عسكريةْ، وصودرت ثروته بفرماناتٍ فوريّةْ.

 

ثمّ أردف ولي العهد في أسى وألمْ: إنني لا أعرفُ ماذا أقول لمن قتلناهمْ، ولمنْ أغرقناهم وأفقرناهم، ولا أعرف ماذا يكون مصيري إذا استيقظوا من نومهم، وأرادوا الحصولَ على جزءٍ من حقهم؟!

 

فضحك الرجل الذي كان قد سأل السؤالْ، وقام في الحالْ، واستأذن من الملك ثم قال:
عندي حلٌّ سيُريحُ فخامةَ ولي العهدْ، وهو حلٌّ لم يخطر ببال الوزراء أو الجندْ.

 

فقال ولي العهد وقد تعلق قلبُه بالأملِ الجديدْ: لو صدقتَ سأتركك تحتكر جميعَ أنواعِ الحديدْ، ولايسألك أحدٌ منْ قريبٍ أو بعيدْ.

 

فقال الرجلُ: إذا سألتك الرعيةُ عن القتلِ والخرابْ، وعن الذي اقترفَ هذا وما هي الأسبابْ، فما عليك سيدي ومولايْ، إلا أن تقصَّ عليهم قصةَ أحدِ التجارْ، الذي حلَّ به بعضُ الضيوفِ والزُّوّارْ، فأرسلَ جاريتَه لتشتري له لبنًا من السوقْ، في جرَّةٍ منَ الصلصالِ المحروقْ.

 

فاشترتْ الجاريةُ اللبنْ، بسعرٍ حسنْ، وهمَّتْ بالرجوعِ إلى منزلِ سيدها، فبينما هي في طريقها، إذْ مرَّتْ عليها حِدَأَةٌ وفي مخلبها حيَّةٌ عظيمةٌ خطِرةْ، وعصرتها عصرةْ، سقطت خلالها في الجرّةِ قطرةْ، وليس عند الجاريةِ بذلك علمٌ أو خبرْ، ولم تعرفْ شيئًا من تدابيرِ القدرْ.

 

فلما وصلت منزلها، كان سيدها أولَ من استقبلها، وأخذ منها اللبنْ، ولم يسألها عن الثمنْ، بلْ شربَ منه هو وضيوفُه الرجالْ، فماتوا جميعًا في الحالْ.

 

ثمَّ قال الرجلُ: فانظر يا مولايَ لمن كان الذنبُ في هذه القضيةْ، ومنْ يستحقُّ الحدَّ ومنْ يستحق الديةْ؟!

فقال أحد الحاضرينْ: الذنبُ ذنبُ الشاربينْ، الذين لم يستوثقوا من نظافة مشربهم، فلقوا موتتهم.

وقال آخر: بل الذنب ذنب الجاريةْ، التي تركت الجرة مكشوفةً عارية.

فقال الرجل: ليس الذنبُ ذنبُ الجاريةْ، ولا ذنب الجماعةِ المسمومةِ الفانيةْ، وإنما آجالُ القوم قد فرغت مع أرزاقهمْ، ولهذا قدرت هكذا ميتتهم، ولا دخل لإنسٍ في ذلك أو جانْ، فلا تكفر بقدر الله أيها الإنسانْ.

 

فابتسم ولي العهدْ، وغمرته سعادةٌ ليس لها حدّْ، وقال: صدقتَ أيها الأريبْ، الذكيُّ الأديبْ، إنها آجالُ القومْ، وليس علينا إثمْ، فماذا يمكن أن يفعل مَلِكٌ أو سلطانْ، إذا كانت آجال الناس قد انتهت سواء بالغرقِ أو الحرقِ أو السرطانْ، نعوذ بالله من الكفر والعصيانْ.

 

ومن يومها تبوأ ذلك الرجلُ أعظمَ منزلةٍ في البلاطْ، وقربه ولي العهد وسلمه الخوازيقَ والسياطْ، يؤدّب بها المعترضين على القضاءِ والقدرْ، المتطاولين على سادةِ البشرْ، أصحابِ المُلْكِ الحالي والمُنْتَظرْ.

 

وهنا انخرطت فقرزاد في البكاء والعويل والنواح، فسكتت عن الكلام المباح.