أحاول منذ فترة أن أنقل للقارئ العزيز رؤيتي حول الجدار الفولاذي، ولكني أرى كثيرًا من المفاهيم التي تظهر لتغمي على القارئ أو على المراقب غير المتخصص كثيرًا من الأمور، حتى إننا نرى أن كثيرًا من المصطلحات تطرح على الرأي العام كأنها مسلَّمات، ولكن أقول إنها حق يراد بها باطل، ولعليّ لا أكون مخطئًا إن قلت إن هذا هو ديدن الإعلام المصري في الفترة الأخيرة وكأنه يستلهم مشهدًا تمثيليًّا قديمًا ومشهورًا هو أننا نرى أحد الممثلين يضع بين إصبعيه علبة تحتوي على خاتم، ثم يمسك برقبة رجل آخر ويوسعه ضربًا على قفاه ويقول: له ماذا في هذه العلبة؟ فيقول المسكين وهو يتألم: إنه خاتم، فيوسعه ضربًا مرة أخرى إن في هذه العلبة فيلاً حتى يضطر تحت وطأة الضرب المبرح أن يقول إنه فيل في هذه العلبة الصغيرة ويمشي وهو يهزي ويقول فيل.... فيل... فيل.

 

هذا هو بالضبط ما نرى الحكومة ورجالها ومفكريها يتحدثون في بداية الأمر أنه لا يوجد جدار فولاذي حتى أن أحدهم أخذ يقسم بحياة أمه وأولاده أنه لا يوجد شيء من هذا في الوقت التي تنقل فيه المواقع الإلكترونية والفضائيات صور العمل الذي يجري على قدم وساق على الحدود بين مصر وغزة ثم بعد ذلك دونما أن يعلنوا ماذا يقومون به نجدهم يبررون هذا الشيء المجهول والذي أعلنته الدنيا يبررون ما يفعلون فيقولون إننا:

 

(1) نبني جدارًا لحماية الأمن القومي.

 

(2) إن أهل غزة يريدون احتلال سيناء ليقيموا عليها إمارة غزة المزعومة!

 

(3) إن الأنفاق يمر بها المخدرات والمتفجرات التي يستخدمها الإرهابيون في زعزعة الأمن المصري.

 

(4) إننا أكثر من ضحى من أجل القضية الفلسطينية والوقت الآن أصبح مواتيًا لأنفسنا.

 

(5) إن الحصار على غزة ليس سببه مصر وإنما الفلسطينيون وهم مختلفون مع بعضهم ويقاتل بعضهم بعضًا.

 

(6) وأخيرًا..... يقول قائل بلدي وأنا حر فيها.

 

وغيرها الكثير من الشبهات غير المقنعة التي تضيق هذه الورقات عنها والتي تلبس الحق بالباطل فإذا نظرنا إلى فحوى هذه الكلمات فنجد أنها تحوم حول مجموعة من المصطلحات (الأمن القومي- اتفاقية المعابر- السيادة الوطنية- الخلاف "الفلسطيني- الفلسطيني"- اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل).

 

فإنا أردنا أن نوضح وجه اللبس في استخدام هذه المصطلحات فإننا نقول:

 

أولاً: إنهم يتحدثون عن الأمن القومي المصري، وهي عبارة غريبة أن نسمعها من هؤلاء فالخبراء ينظرون إلينا كمصريين أننا بدأنا من أواسط عهد السادات في حالة من حالات الانكفاء على الذات وترك المحيط الجغرافي والاكتفاء بالداخل بحجة أن الخارج يعيننا عن تطوير وتنمية الداخل بمعنى آخر (إحنا مالنا ومال الناس اللي في إفريقيا وآسيا)، مما ترك المجال حرًّا لإسرائيل لكي تتحرك في أفريقيا وآسيا كما تشاء وخصوصًا في منطقتي الحزام الإفريقي (أي الدول الإفريقية المحيطة بالعالم العربي)، ومنطقة حوض النيل حتى أننا نجد أن إسرائيل في عام 2007 بمشروعات تقدرها مجلة (آفاق إفريقية) بحوالي 17 مليار دولار، ونذكر منها على سبيل المثال مشروعًا لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية في نيجيريا ومشروع استزراع واستصلاح 20 ألف فدان في كوت ديفوار ومشروع إنشاء منطقة طبية لطب المناطق الحارة في أنجولا وغيرها الكثير مما أتاح المجال لإسرائيل أن يصل حجم التوريدات من المعدات العسكرية على هذه المنطقة في عام 2007م إلى حوالي 23 مليار دولار حسب التقرير الإستراتيجي الفلسطيني.

 

وإذا انتقلنا إلى دول حوض النيل نجد أن التعاون أكبر وأهم فإننا نرى إسرائيل تقوم بالتعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري والتقني مع هذه الدول حتى أننا نجد أن مركز الأمن القومي الإسرائيلي يعلن أنه ينشئ محطة لمكافحة الإرهاب في منطقة إثيوبيا والصومال وإريتريا أطلق عليها موقع (جوش أفريكا) مثلث برمودا الإفريقي حتى أننا نرى أن رئيس إريتريا عندما مرض بالملاريا فإن طائرة إسرائيلية خاصة حملته إلى "إسرائيل" كي يتم علاجه فيها وأن هناك تعاونًا إستراتيجيًّا بين إثيوبيا وإسرائيل وأن موانئ إريتريا على البحر الأحمر كلها يقوم بصيانتها وتدريب العاملين فيها هم الخبراء الإسرائيليون بل والأدهى من ذلك أن السفن الإسرائيلية لها حرية الدخول والخروج للموانئ الإريترية والإثيوبية وقتما تشاء وأن بعض الخبراء تحدث عن أن الطائرات التي ضربت القوافل في السودان في فبراير 2008م خرجت من أحد المطارات الإثيوبية فإذا دخلنا إلى العمق في حوض النيل فإننا نرى أن ملك التوتسي في أنجولا يعتبر صديقًا شخصيًّا للرئيس شمعون بيريس فإذا ذهبنا إلى أخص خصائص عمق الأمن القومي المصري وهي السودان فإننا نرى أن التعاون بين الحركة الشعبية في جنوب السودان وإسرائيل يعود إلى نهاية الستينيات وبداية السبعينيات وأن جيش جنوب السودان يقوم على تدريبه وتعليمه الخبرات العسكرية والاستخباراتية جيش من الخبراء اليهود وأنه أثناء المفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية كان يقوم بالمعاونة الفنية والرؤى الفنية يقوم عليها ثلاثة من الخبراء اليهود وإذا انتقلنا إلى دارفور فإننا نجد أن حركة العدل والمساواة قد فتحت لها مقرًّا في إسرائيل وأن 13 من قيادات الحركة قد تلقوا تدريبًا فنيًّا في إسرائيل بل، والأدهى من ذلك أن إسرائيل استخبرت في عامي 2007، 2008م حوالي 6000 مهاجر من دارفور... أفلا يضر ذلك بالأمن القومي المصري!!!

 

أما في أوغندا فإن إسرائيل استزرعت حوالي 7000 فدان أما في الصومال فحدث ولا حرج فإننا نرى أولاً أن ميناء مصوع على البحر الأحمر في جمهورية أرض الصومال أصبح ميناءً إسرائيليًّا خالصًا ومحصلة ذلك كله أننا نرى:

 

أولاً: أن دول حوض النيل تشجعت على أن تطالب بتقليل الحصة المصرية- السودانية في مياه النيل لتلبي بذلك الحاجة المتزايدة للمياه في هذه البلاد نتيجة للتوسع "الإسرائيلي" بالاستزراع في هذه البلاد وللقيود التي تقيمها إسرائيل على هذه البلاد.

 

ثانيًا: أننا نجد أن هناك تباعدًا متزايدًا في الموقف والرؤى المشتركة بين هذه الدول ومصر وتقاربًا واضحًا بين هذه الدول وإسرائيل حتى أننا نرى ذلك واضحًا في كثير من المجالات حتى في مجال الرياضة.

 

ثالثًا: البحر الأحمر والذي كنا نتحدث عنه أنه بحيرة عربية فإذا بنا نجد إسرائيل توجد على سواحل البحر الأحمر من جنوب السودان مرورًا بإريتريا وإثيوبيا حتى الصومال والأدهى من ذلك أن الجزر الكثيرة الموجودة في البحر الأحمر نجد أن إسرائيل تسيطر أو تتعاون فيها على حوالي 70% منها وأن الباقي تسيطر عليه أمريكا حتى أن جزيرة باب المندب والتي احتلتها مصر في حرب 1973م تسيطر عليها الآن أمريكا وإسرائيل بحجة منع تسلل الإرهابيين وتسليحهم عن طريق البحر وكذلك منع القرصنة المزعومة (ولا نظن أن أيدي إسرائيل بعيدة عنها مما يدلل على أن البحر الأحمر أصبح محتلاً بالأساطيل الإسرائيلية والأمريكية ودول حلف الناتو بعد الاتفاق الإستراتيجي الذي تم بين حلف الناتو وإسرائيل في شهر نوفمبر عام 2008 مما أدى إلى تراجع واضح للملاحة في قناة السويس فإذا خرجنا من إفريقيا والبحر الأحمر وذهبنا إلى البحر المتوسط أن قبالة السواحل المصرية- الإسرائيلية الفلسطينية أساطيل لثلاث دول هي ألمانيا (لأول مرة) وفرنسا ثم الأسطول الخامس الأمريكي بحجة حماية الأمن الصهيوني وإمعان الحصار على غزة.

 

أفلا يضر ذلك بالأمن القومي المصري!!!؟؟؟؟

فإذا أردنا أن نتحدث عن السادة الوطنية فإننا نجد أن هناك الكثير من الخلل ولكنا نضرب المثال بحالة قريبة وواضحة وهو أننا في نهاية عام 2008 وقبل عملية الرصاص المصبوب بوقت قليل رأينا كونداليزا رايس وتسيبي ليفني توقعان اتفاقًا استراتيجيًّا يتعلق بالحدود المصرية- الإسرائيلية- الفلسطينية وكذلك الحدود المائية فإذا بنا نرى وزير الخارجية المصري يتحدث بأن هذا الاتفاق غير ملزم للحكومة المصرية لأنها ليست طرفًا فيه مما جعل الكثير من الخبراء يثني على هذا الفعل ويقول إن هذا عمل من أعمال السيادة الوطنية ولكننا فوجئنا بغير ذلك بداية بعملية الرصاص المصبوب حتى الجدار الفولاذي الأخير مما جعل عاموس جلبوع يقول إن مصر كانت أثناء عملية الرصاص المصبوب من أكبر المعاونين لنا حتى أنها لم تعاتبنا على إصابة وقتل عدد من جنودها على الحدود المصرية الفلسطينية والإسرائيلية، ثم بعد عملية الرصاص المصبوب تتحدث المواقع الاستراتيجية تتحدث عن أن القوات المصرية والأمريكية تقوم بدوريات مشتركة بين مصر وغزة ثم بعد ذلك تحدثت جريدة (لوموند) الفرنسية عن أن فرنسا تقوم بتركيب معدات مراقبة على الحدود المصرية الفلسطينية وأنها، أي فرنسا، أطلقت قمر تجسس صناعيًّا اسمه (هيليوس- 2- بي) يلتقط إشارات هذه المعدات ثم بعد ذلك رأينا التعاون الفرنسي- الأمريكي-الإسرائيلي- المصري في إنشاء هذا الجدار الظالم الذي لا يمنع التسلل فقط ولكن يضر بالبيئة المائية والزراعية في منطقة سيناء وغزة على حد سواء.

 

أما القول بأن مصر ضحت بالكثير من أجل فلسطين فهذا حق لا ينكره أحد ولكن هذا ليس من أجل عيون الفلسطينيين وحدهم ولكنه من أجل أمن مصر القومي أيضًا لأن القيادة المصرية من قبل إنشاء دولة إسرائيل المزعومة تعلم علم اليقين أن اليهود لن يكتفوا بفلسطين أبدًا وأن معتقداتهم تحدثهم (دولتك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات) "سِفر الخروج"، فإن تضحيات مصر العظيمة من أجل هذه القضية هو من أجل مصر القوية الفاعلة المحافظة على عروبتها وعلى أمنها القومي وأن بقاء غزة صامدة وقوية ومقاومة في نفس الوقت وليست مستسلمة حتمية لأمن مصر القومي وأن هذا ليس كلامي ولكن العجب العجاب أن هذا هو كلام الخبراء الذين يخرجون علينا في وسائل الإعلام المصرية ليتحدثوا عن غير ذلك في قاعات الدرس ويقولون إن بقاء غزة قوية هو حماية لمصر من إسرائيل والتي لا تخفي أطماعها وكرهها لكل ما هو إسلامي لأنها لا تحارب من أجل الجغرافيا فقط ولكنها تحارب من أجل المعتقدات وليس أدل من التعاون بين "إسرائيل" والهند في الحرب على المجاهدين في كشمير وكذلك التعاون بين إسرائيل والصين في الحرب على مجاهدي جبهة تركستان الشرقية كما أنقل عن التقرير الإستراتيجي الفلسطيني لعام 2007م وفي الختام أقول للقارئ العزيز إني لم أذكر إلا القليل من الكثير حول الاختراقات في السيادة الوطنية والأمن القومي من أجل أمور نعلمها، وأمور لا نعلمها، ولكن أتركها لوقت آخر.

 

وأقول إن حماس وغزة ليست خطرًا على أمن مصر القومي ولكني أقول إن بقاء غزة قوية وقادرة على المقاومة حتمية لأمن مصر القومي.

 

وأننا لا نساند الأنفاق لأنها باب خلفي ولكننا نقول إننا يجب علينا أن نفتح المعابر بيننا وبين غزة لأن اتفاقية المعابر لا تلزمنا بل تلزم الطرف الفلسطيني والإسرائيلي فقط ثم إننا إذا فتحنا المعابر فلن يكون هناك مجال للتهريب عبر الأنفاق ويكون كل شيء يدخل إلى غزة تحت أعيننا وحتى لا تتهم مصر الأم الكبرى للعالم العربي والإسلامي التي صدت التتار والمغول والصليبيين وأعداء هذه الأمة، مصر الشامخة من أن تتهم بحصار إخوانها في غزة، وفي الختام أثير سؤال: ما هو دورنا وواجبنا تجاه هذه المعضلة الكبرى؟

 

وبناءً على ما سبق أقول:

أولاً: أننا كسياسيين وناشطين يجب علينا أن نوضح خطورة هذا الوضع على السيادة المصرية وعلى بقاء إخواننا في غزة صامدين أمام هذا الحصار الظالم.

 

ثانيًا: أن هناك واجبًا على المثقفين والأحرار من أبناء هذه الأمة أن يصدوا هذه الهجمة وأن يوضحوا للشعب مخاطر الوضع الحالي على أمننا القومي، وعلى بقاء مصر قوية وشامخة في محيطها العربي.

 

ثالثًا: أنه يجب على أبناء مصر الشرفاء أن يساعدوا إخوانهم في غزة بكل ما يستطيعون من دعم مادي ومعنوي بالدعاء وكذلك بتشدبد المقاطعة على أعداء هذه الأمة، وأخيرًا أنادي بحملة يقوم بها الشباب على الإنترنت تقول لا للحصار الظالم، وادعوا أن يقوم الشباب وكل من يقرأ مقالي هذا أن يرسل رسالة إميل للمعنيين في الحكومة المصرية وللكتاب مثل سلامة أحمد سلامة وفهمي هويدي وإبراهيم عيسى... وغيرهم من الكتاب الشرفاء بأن ينادوا بألا تكون مصر طرفًا في الحصار على غزة، وأخيرًا هذه صرخة مدوية أرسلها في وسط الظلمات لعلها تكون نورً تضيء في دياجير الظلم والظلمات ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)﴾ (المجادلة).