أكتب هذا المقال ولا تزال مياه البحر الأبيض المتوسط تصطبغ بلون الدم الأحمر القاني، دماء زكية نقية طاهرة، أبت أن تعيش إلا على أنفاس الحرية، هي دماء فصيلتها موجب- إيجابية- حرية، في عملية تبرع بالدم عاجلة يحتاجها جسد أمة مثخن بالجراح.

 

كان لا بد من هذه العملية العاجلة كي يفيق الجسد من غيبوبته وتعود له وظائفه الحيوية مرة أخرى من جديد، فقد تعلمنا أن شجرة الحرية لا ترويها إلا الدماء، ولا تورق إلا بالتضحيات.

 

إن الكيان الصهيوني أثبت بفعلته النكراء هذه أنه يتحلى بأكبر قدرٍ من الغباء السياسي المنقطع النظير، فالتعرض لأسطول الحرية بهذا الشكل الهمجي الأرعن، يدل على سطحية بالغة في التفكير، ربما يكون سببه أن الكيان الصهيوني يعتبر أن حياة الإنسان هي هدف في حدِّ ذاتها، وأنه لا يوجد قيمة ولا هدف أسمى من الحياة- أي حياة-، فظّنت أنها عندما تقتل بعض أفراد القافلة، سيصاب الجميع بحالةٍ من الهلع والخوف، وبالتالي يخشى الجميع من تكرار الفعلة!.

 

لكن ما لا يعلمه الكيان الصهيوني ولا يفهمه قادتها أن حياة الإنسان لدى أصحاب الدعوات والرسالات والمبادئ، ما هي إلا وسيلة وليست غاية لذاتها، أو بمعنى آخر أن قيمة الحياة تتضاءل وتنزوي إذا كان ذلك في سبيل الله ثم في سبيل القيم والمبادئ السامية؛ لذلك أقول لقادة الكيان الصهيوني أنكم بغبائكم وبلاهتكم قد قدمتم أكبر دعم للقضية الفلسطينية، وحوّلتم بغبائكم القضية من قضية إقليمية إلى قضية دولية شعبية بكل ما تعنيه الكلمة، ليس هذا فحسب بل أصبح هناك ثأر ومخزون كراهية كبير لدى العديد من شعوب العالم على الشهداء والضحايا الذين سقطوا.

 

إن ما حدث يوصل عدة رسائل وواجبات إلى كل مَن يهمه الأمر:

أولاً: إن السكوت على ما يحدث من حصار إجرامي على قطاع غزة لن يمرَّ مرور الكرام وأن هناك الكثيرين من أحرار العالم الذين لم ولن يقبلوا بهذا الضيم، وستظل قوافل فك الحصار تتوالى وستظل جبهات المعارضة للحصار تتشكل حتى ينكسر الحصار بإذن الله.

 

ثانيًا: إن الكيان الصهيوني غير عابئ نهائيًّا بأي قوانين دولية أو أعراف، بل غير مهتم بغضب أو سخط أي دولة في العالم، وأنه يتصرف بغطرسة بالغة وبلطجة بدرجة مسجل خطر، فلم يهتم كثيرًا بغضب حكومات الضحايا الذين سقطوا.

 

ثالثًا: إن كسر الحصار لن يتم بالكلام ولا بالخطب الرنانة، ولكن بالمواقف العملية على الأرض، فلولا أن هؤلاء الأبطال تحركوا، لظل الحصار شيئًا اعتياديًّا وخبرًا تقليديًّا في حياة الناس، أعلم جيدًا أنه ليس بالضرورة أن أسطول الحرية هو مَن سيحرر غزة ولكنه بالتأكيد خطوة مهمة ومعتبرة على الطريق.

 

رابعًا: يجب أن نُدرك كذلك أن وجود دولة حاضنة لهذه التحركات الاحتجاجية هو أمر بالغ الأهمية، فالدور التركي كان حيويًّا للغاية في تسيير القافلة وتذليل العقبات أمامها، لذلك يجب أن نعمل بكل جدية على دعم هذا الجهد وتثمينه وإعطائه حقه من الحفاوة والتقدير، خاصة بعد أن خذل العرب قضيتهم ونفضوا أيديهم عنها وكانوا جزءًا من المشكلة وليس جزءًا من الحل.

 

خامسًا: يجب أن نأخذ حذرنا جيدًا فربما نجد أن الكيان الصهيوني قد قام بهذه العملية رغم إدراكه لتداعياتها للتغطية على كارثة أكبر تتم أثناءها، لذا لا بد أن نظل يقظين منتبهين حتى لا يتم استغفالنا دون أن ندري، لذلك لا بد أن تكون أعيننا مفتوحة عن آخرها، وخاصة نحو القدس.

 

سادسًا: أثبتت التجربة أن التحرك الشعبي الدولي أكثر تأثيرًا من التحركات المحلية، وأن التعاون بين المنظمات والجمعيات الأهلية على مستوى العالم يخدم القضية أكثر، لذلك لا بد من زيادة التعاون والترابط بين هذه المؤسسات لدعم قضايانا المختلفة.

 

سابعًا: لا بد من تحرك عربي وإسلامي شعبي يستغل الحدث في التوعية بالقضية وإبراز الدور الصهيوني القذر الذي لا يراعى أي اعتبارات لحياة البشر أو لحقوق الإنسان الأساسية.

 

ثامنًا: لا بد من الاحتفاء بشهداء أسطول الحرية وإبراز تضحياتهم حتى يكونوا نبراسًا لغيرهم، وحتى لا تضيع دماؤهم هباء، فيكونوا شعلة نور تضيء ظلام أوضاعنا المقفرة.

 

تاسعًا: لا بد من تحرك نقابات المحامين العربية ومنظمات حقوق الإنسان لمحاكمة قادة إسرائيل كمجرمي حرب على هذه الفعلة، فقطاع غزة المفروض أنه لا سلطة (نظريًّا) للاحتلال عليه؛ لأن الاحتلال قال إنه انسحب منه، وبالتالي فأسطول الحرية دخل إلى المياه الإقليمية الفلسطينية، والتي من المفروض قانونيًّا أنه لا يملك أي صلاحيات أو مسوغات قانونية للتواجد فيها أو اعتراض أي سفن مارَّة بها، فتصبح جريمته هذه جريمة حرب بامتياز يستحق العقاب عليها.

 

عاشرًا: للقادة العرب أقول لهم باختصار عار عليكم وأي عار، ولرجال ونساء أسطول الحرية الأحياء والشهداء فألف سلامة وتحية، فلقد رفعتم رءوسنا، وأحرجتم زعماءنا، وفتحتم لشعوبنا نافذة أمل في حاجةٍ إلى الكثير من العمل.