على الدوام كنت أردد أن هناك من الرجال من استطاع أن يحفر اسمه على جدار الذاكرة، ولن تستطيع الأيام بأحداثها وقسوتها وتكالب ليلها ونهارها محو أسمائهم وعظيم فعالهم من ذاكرتنا وتاريخنا.

 

من بين أولئك الرجال الذين أحدثوا أثرًا وصنعوا مدرسةً في الجهاد والنضال يبرز اسم عبد الهادي غنيم بطل أول عملية تدمير "باص". كان الأول وبقي الأول، ومن بعده رجال ورجال ساروا على دربه، ولكنهم بقوا أبطالاً في مدرسته، فهو صاحب براءة الاختراع وصاحب البصمة الأولى.

 

عبد الهادي غنيم بطل في زمن الردَّة، وعلامة فارقة في وقت الاندحار والتراجع واختلاف المفاهيم وأزمة المصطلحات، اسمه صرخة تخرق جدار الصمت، صرخة تنطلق من أعماق قلوب جريحة، تمزق كل الحواجز وتدمر جدار الصمت، تخرج مدوية لتزلزل أرجاء المكان ألمًا وحرقةً على ما أصاب الوطن من تقسم وانقسام.

 

عبد الهادي غنيم حكاية ليست ككل الحكايات صاحب أول العمليات في انتفاضة الحجارة عام 87، اعتقل قبل 21 عامًا وبالتحديد في 6/7/1989م إثر قيامه باعتلاء باص رقم (405) والمتوجه إلى مدينة القدس، وسيطر على الحافلة وقلبها في وادٍ سحيق، وهو يكبر ويقول الله أكبر، الله أكبر، مات أكثر من 16 يهوديًّا، وأصيب العشرات وبقي عبد الهادي على قيد الحياة، فحُمل بجروحه وجسده المحطم والمهشم؛ ليذوق أصنافًا شتَّى من ألوان العذاب.

 

قبل موعد عمليته بيوم كانت زوجته الصابرة المصابرة على موعد مع أول طفل لها، فتحمَّلت ألم المخاض، وخرج إلى الدنيا (ثائر) الكل سعيد بالقادم الجديد، الكل موجود وحاضر إلا الوالد عبد الهادي هو الغائب الوحيد.. دهشة وحيرة واستغراب وازدياد لآلام مخاض ما بعد الولادة الذي أصاب الزوجة الصابرة، ولم تكن قادرة على تفسير الأمر فأخذت على نفسها عهدًا أن "تزعل" من عبد الهادي الذي غاب عنها في وقت هي أحوج الأوقات إليه.

 

كل هذه التساؤلات بددتها شمس اليوم التالي حينما تناقل القطاع، وأهالي فلسطين ومن خلفهم الأمة نبأ تدمير حافلة صهيونية سيطر عليها فارس من مخيم النصيرات من قطاع غزة، وأن الأغلب قتل إلا فارس قد خرج يتنفس ويعاني كسورًا ورضوضًا شديدةً والذي تعرض لأبشع أنواع التحقيق، وحكم عليه بالمؤبد 16 مرةً بالإضافة إلى (480) عامًا أمضى منها حتى الآن 21 عامًا.

 

عبد الهادي غنيم مقاوم فلسطيني لم يستطع أن يمتلك السلاح، ولكنه لم يعدم الوسيلة فقرر الانتقام بطريقته، فابتدع وسائل جديدة في مقاومة المحتل، فهو سمت من عشقوا الوطن وأحبوا فلسطين وهالهم سقوط عشرات الشهداء في كل يوم، فكان صاحب المدرسة الأولى في السيطرة على الحوافل العسكرية، ترك الزوجة والولد الذي قرر أن لا يراه عبد الهادي، خوفًا من أن تؤثر قسمات وجه ابنه وبراءة محياه على قراره الذي اتخذه بالثأر والانتقام، فذهب إلى عمليته من دون أن يراه ولا أن يؤذن في أذنيه.. من دون قبلة تطفئ حرارة الشوق والانتظار، فالقدس وفلسطين أغلى من الولد والتلد.

 

حكايتي الشخصية مع أبي ثائر حكاية قديمة، حينما نفذ عمليته كان عمري في ذلك الوقت 14 عامًا وكنت شبلاً صغيرًا في دولة الكويت، بعد العملية وجدت جدارية (بوستر) معلقة في مسجد (الطخيم) في منطقة (حولي) موضوع فيها صورة الثائر عبد الهادي ومن خلفه صورة المسجد الأقصى، ومكتوب تحتها عبارة (شلت يميني إن نسيتك يا أقصى)، ولا أعلم ما الذي أصابني بعد أن شاهدت تلك الصورة وقرأت هذه العبارة حلقت روحي نحو فلسطين، وبت أتخيل نفسي ذلك البطل وعشت مع الصورة لحظات لم أستطع أن أنساها ما حييت، فقررت أن آخذ تلك الصورة وهو ما تمّ وعلقتها في بيتي بالكويت ووضعتها فوق سريري، الأمر الذي استغربه والداي وسألوني عن سبب إعجابي بهذا البطل لم أجب حينها، ولكني الآن أجيب وأقول: لأن عبد الهادي صاحب أول عملية انتقامية نوعية بعد ارتقاء مئات الشهداء وبعد عام واحد من انتفاضة الحجارة، بالإضافة إلى نوعية العملية ومكان العملية (وادي أبو غوش) ومكان قدوم البطل وحجم الخسائر كل هذه أمور جعلت شابًا صغيرًا في عمري يتيَّم ببطل كعبد الهادي غنيم.

 

لم أستغرب لمَّا قرأت أنه من بين الأسماء التي يتحفظ عليها الصهاينة، ولا تريد الإفراج عنهم هو الثائر أبو ثائر، كيف لا وهو مدرسة الثأر والانتقام، وهو من أوجع المحتل وأتاهم من حيث لم يتحصنوا ويكونوا يحتسبون.

 

للبطل المنسي في زمن الردة عبد الهادي أنحني احترامًا وتقديرًا وإجلالاً وأقول له: من صورتك التي رُفعت في غرفتي قبل عقدين تعلّمت معاني البطولة والفداء، وأن الوطن أغلى من كل ما نملك، ولك اليوم أردُّ بعض هذا الجميل، فتقبّل كلماتي يا ثائرًا نحفظ له في نفوسنا الكثير من الامتنان والعرفان.

------------------

* www.ahrar.-pal.info

باحث ومتخصص في شئون الأسرى الفلسطينيين.