وظّف حسن البنا التاريخ لخدمة فكرته ودعوته، فالتاريخ معلم الساسة والحكام، والإشارات التاريخية التي أوردها تخدم المعنى الذي يريده وتبسطه، حين كان يأتي بإشارة تاريخية معينة في موضع معين؛ لتعميق الفكرة وإبرازها للمتلقي.

 

موقف الإخوان من السياسة الداخلية

شرح البنا موقف الجماعة من السياسة الداخلية فقال: "أيها الإخوان كان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتكلمون في نظم الحكم، ويجاهدون في مناصرة الحق، ويحتملون عبء سياسة الأمة، ويظهرون على الصفة التي وصفوا أنفسهم بها (رهبان بالليل فرسان بالنهار) حتى كانت أم المؤمنين عائشة الصدِّيقة تخطب الناس في دقائق السياسة، وتصور لهم مواقف الحكومات في بيان رائع وحجة قوية، ومن هنا كانت الكتيبة التي شقت عصا الطاعة على الحجاج وحاربته وأنكرت عليه بقيادة ابن الأشعث تسمى كتيبة الفقهاء، إذ كان فيها سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، وأضرابهما من فقهاء التابعين، وجلة علمائهم".

 

ثم بيَّن الدرس المستفاد في توجيه النصح للملوك "ومن هنا رأينا من مواقف الأئمة رضوان الله عليهم في مناصحة الملوك ومواجهة الأمراء والحكام بالحق".

 

العلاقة بين الحاكم والمحكوم "العقد الاجتماعي"

وفي مقالته (مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي) بعد أن أوضح أن الإسلام قرر الضمان الاجتماعي لكل مواطن، وتأمين راحته ومعيشته كائنًا من كان، ما دام مؤديًا لواجبه أو عاجزًا عن هذا الأداء بسبب قهري لا يستطيع أن يتغلب عليه، أكد ذلك بما ذكره التاريخ أن "عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ على يهودي يتكفف الناس، فزجره واستفسر عما حمله على السؤال، فلما تحقَّق من عجزه رجع على نفسه باللائمة وقال له: (ما أنصفناك يا هذا، أخذنا منك الجزية قويًّا وأهملناك ضعيفًا، افرضوا له من بيت المال ما يكفيه)، وهو بهذا قد فسر نظرية العقد الاجتماعي أفضل وأعدل تفسير، بل هو وضع أساسه ، فما هو إلا تعاقد بين الأمة والحاكم على رعاية المصالح العامة، فإذا أحسن فله أجره، وإن أساء فعليه عقابه.

 الصورة غير متاحة

 د. كامل عبد الفتاح

 

ثم أوضح أن النظام السياسي عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، وأوضح مسئولية الحاكم: فالحاكم مسئول بين يدي الله وبين الناس، وهو أجير لهم وعامل لديهم، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، وأبو بكر- رضي الله عنه- عندما ولي الأمر صعد المنبر ثم قال لجماعة المسلمين حين ولي عليهم: (كنت أحترف لعيالي فأكتسب قوتهم، وأنا الآن أحترف لكم، فافرضوا لي من بيت مالكم)، ففرض له أبو عبيدة قوت رجل من المسلمين ليس بأعلاهم ولا بأوكسهم، وكسوة الشتاء وكسوة الصيف، وراحلة يركبها ويحج عليها، وقُوّمت هذه الفريضة بألفي درهم.. ولما قال أبو بكر: لا يكفيني، زادها له خمسمائة وقُضي الأمر".

 

ورسم أبو بكر رضي الله عنه العلاقة بين الحاكم والمحكوم بقوله: (فإن رأيتموني على حقٍّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني أو قوموني)، وقال عمر بن الخطاب: (من رأى فيّ اعوجاجًا فليقومه).

 

ثم عقب الإمام البنا بقوله: "إذ إن النصوص وحدها لا تنهض بأمة كاملة كما لا ينفع القانون إذا لم يطبقه قاضٍ عادل نزيه"، ليدل على أهمية أن تختار الأمة الحاكم المؤمن، القوي، العادل.

 

وليس للوالي من مال الأمة إلا ما يكفيه، وأعلن مسئولية الدولة عن حماية هذا النظام، وعن حسن التصرف في المال العام، تأخذه بحقه وترفه بحقه، وتعدل في جبايته، وحرم عمر استغلال النفوذ بقانون يحاسب المسئولين.. من أين لك هذا؟ فحظر الإسلام استخدام السلطة والنفوذ، ولعن الراشي والمرتشي والرائش، وحرم الهدية على الحكام والأمراء، فقد كان عمر يقاسم عمّاله ما يزيد عن ثرواتهم، ويقول لأحدهم: (من أين لك هذا؟ إنكم تجمعون النار وتورثون العار).

 

وبين البنا أن هذا النظام تحقق بأكمل صورة في عهد الخلفاء الراشدين بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فكانوا يشعرون أتم الشعور بالتبعات الملقاة على كواهلهم كحكام مسئولين عن رعاياهم، ويظهر ذلك في كلِّ أقوالهم وتصرفاتهم، وحسبك أن تقرأ ما قاله عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- حين ولي الخلافة، وعمر بن عبد العزيز حين وليها كذلك، وجاءت سيرتهما مطابقتين لقولهما: (أيها الناس قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدكم اضطلاعًا بما ينوب من مهم أموركم، ما توليت ذلك منكم، وكفى عمر مُهِمًّا محزنًا انتظار موافقة الحساب، يأخذ حقوقكم كيف أخذها ووضعها أين أضعها، وبالسير منكم كيف أسير فربي المستعان)، فإن عمر أصبح لا يثق بقوة ولا حيلة إن لم يتداركه الله عزَّ وجلَّ برحمته وعونه وتأييده، وكان يقول: (لو أن جملاً هلك ضياعًا بشط الفرات لخشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب).

 

وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: (أما بعد، فإنه ليس بعد نبيكم- صلى الله عليه وسلم- نبي، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، إلا ما أحل الله عزَّ وجلَّ إلى يوم القيامة، وما حرم الله حرام إلى يوم القيامة، ألا لست بقاض ولكنني منفذ، ألا إني لست بخيركم ولكني رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً)، وقَدِمَت إليه مراكب الخلافة بعد دفن سليمان بن عبد الملك فأمر بتأخيرها، وركب بغلته وعاد إلى منزله، فدخل عليه مولاه مزاحم فقال: يا أمير المؤمنين لعلك مهتم؟‍ فقال: (بمثل هذا الأمر الذي نزل بي اهتممت، إن ليس من أمة محمد في مشرق ولا مغرب أحد إلا له قبلي حق يحق علي أداؤه إليه، غير كاتب إلي فيه ولا طالبه مني)، كما كانت إرادتها محترمة مقدرة، فما كان أبو بكر يمضي في الناس أمرًا إلا بعد أن يستشيرهم، وخصوصًا فيما لا نص فيه، وكذلك كان عمر بن الخطاب، فقد جعل الخلافة من بعده شورى في الستة الذين توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ.

 

الإيجابية عند البنا

وفي رسالة نحو النور أرسل الإمام حسن البنا رسالة إلى كلِّ صاحب سلطة فأوضح تبعة الراعي بقوله: "يا صاحب... إن الله وكل إليكم أمر هذه الأمة، وجعل مصالحها وشئونها وحاضرها ومستقبلها أمانة لديكم ووديعة عندكم، وأنتم مسئولون عن ذلك كله بين يدي الله تبارك وتعالى، ولئن كان الجيل الحاضر عدتكم، فإن الجيل الآتي من غرسكم، وما أعظمها أمانة وأكبرها تبعة أن يسأل الرجل عن أمة: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، وأكد ذلك من التاريخ قائلاً: قديمًا قال الإمام العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو عثرت بغلة بالعراق لرأيتني مسئولاً عنها بين يدي الله تبارك وتعالى لِم لَم أسوّ لها الطريق؟)، وصوّر الإمام عمر بن الخطاب عظم التبعة في جملة فقال: (لوددت أن أخرج منها كفافًا لا لي ولا علي).

 

التشريع الإسلامي

واستخدم الإمام البنا التاريخ في رفضه اعتراضات البعض على الشريعة، فأبان أن "تاريخ التشريع الإسلامي يحدثنا أن ابن عمر رضي الله عنه كان يفتي في الموسم في القضية من القضايا برأي، ثم تعرض عليه في الموسم التالي من العام القابل فيفتي برأي آخر.. فيقال له في ذلك، فيقول: ذاك على ما علمنا وهذا على ما نعلم أو كلام هذا نحوه، كما حدث أن الشافعي رضي الله عنه وضع بالعراق مذهبه القديم، فلما تمصر وضع مذهبه الجديد نزولاً على حكم البيئة، وتمشيًا مع مظاهر الحياة الجديدة من غير أن يخل ذلك بسلامة التطبيق على مقتضى القواعد الأساسية الكلية الأولى... وأصبحنا نسمع: "قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد"، ونرى تغير رأي الرجل الواحد في القضية بحسب الزمان تارة- كما فعل ابن عمر- وبحسب المكان تارة أخرى- كما فعل الشافعي- أو بحسبهما معًا كما سمعنا أن عمر رضي الله عنه أمر بعدم القطع في السرقة عام المجاعة، وجاءه رجل يشكو سرقة خدمه فأحضرهم فأقروا وذكروا أن السبب ذلك أنه لا يقوم بكفايتهم من طعام وملبس... إلخ. فتركهم عمر قائلاً: (إذا سرق خدمك مرة ثانية قطعت يدك أنت)، واعتبرها شبهة تدرأ الحد، ولاحظ الظروف والملابسات.

 

النظام الاجتماعي القرآني

في رسالة بين الأمس واليوم أوضح أن الدولة الإسلامية الأولى قامت على قواعد هذا النظام الاجتماعي القرآني الفاضل وكانت تؤمن به إيمانًا عميقًا وتطبقه تطبيقًا دقيقًا وتنشره في العالمين، حتى كان الخليفة الأول رضي الله عنه يقول: (لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله)، وحتى أنه ليقاتل مانعي الزكاة ويعتبرهم مرتدين بهدمهم هذا الركن من أركان النظام ويقول: (والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم ما استمسك السيف بيدي)، وكانت الوحدة بكل معانيها ومظاهرها للمِّ شمل هذه الأمة الناشئة، فالوحدة الاجتماعية شاملة بتعميم نظام القرآن ولغة القرآن، والوحدة السياسية شاملة في ظلِّ أمير المؤمنين وتحت لواء الخلافة في العاصمة، ولم يحل دونها أن كانت الفكرة الإسلامية فكرة لا مركزية في الجيوش، وفي بيوت المال، وفي تصرفات الولاة، إذ إن الجميع يعملون بعقيدة واحدة وبتوجيه عام متحد.

 

ولقد طردت هذه المبادئ القرآنية الوثنية المخرفة في جزيرة العرب وفي بلاد الفرس فقضت عليها، وطاردت اليهودية الماكرة فحصرتها في نطاق ضيق وقضت على سلطانها الديني والسياسي قضاءً تامًّا، وصارعت المسيحية حتى انحصر ظلها في قارتي آسيا وإفريقيا وانحازت إلى أوروبا في ظلِّ الدولة الرومانية الشرقية بالقسطنطينية، وتركز بذلك السلطان الروحي والسياسي بالدولة الإسلامية في القارتين العظيمتين، وألحت بالغزو على القارة الثالثة تهاجم القسطنطينية من الشرق وتحاصرها حتى يجهدها الحصار، وتأتيها من الغرب فتقتحم الأندلس وتصل جنودها المظفرة إلى قلب فرنسا وإلى شمال وجنوب إيطاليا، وتقيم في غرب أوروبا دولة شامخة البنيان مشرقة بالعلم والعرفان، ويتم لها بعد ذلك فتح القسطنطينية نفسها وحصر المسيحية في هذا الجزء المحدود من قلب أوروبا، وتمخر الأساطيل الإسلامية عباب البحرين الأبيض والأحمر فيصير كل منهما بُحيرة إسلامية، وتقبض قوات الدولة الإسلامية بذلك على مفاتيح البحار في الشرق والغرب، وتتم لها السيادة البرية والبحرية.

 

الدعوة للإسلام الشامل

وفي حديثه في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين المنعقد في المحرم 1357هجرية تحدث عن الإسلام الشامل وقال: "أنا أعلن أيها الإخوان من فوق المنبر بكل صراحة ووضوح وقوة أن الإسلام شيء غير هذا المعنى الذي أراد خصومه والأعداء من أبنائه أن يحصروه فيه ويقيدوه به، وأن الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وسماحة وقوة، وخلق ومادة، وثقافة وقانون، وأن المسلم مطالب بحكم إسلامه أن يعني بكل شئون أمته، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.. وأعتقد أن أسلافنا رضوان الله عليهم ما فهموا للإسلام معنى غير هذا، فبه كانوا يحكمون، وله كانوا يجاهدون، وعلى قواعده كانوا يتعلمون، وفي حدوده كانوا يسيرون في كلِّ شأن من شئون الحياة الدنيا العملية قبل شئون الآخرة الروحية، ورحم الله الخليفة الأول إذ يقول: (لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله).

 

لقد كان التاريخ بالنسبة للإمام الشهيد حسن البنا التطبيق العملي والمثال الحي الذي استخدمه في ضرب الأمثال وجذب الأسماع وشد الانتباه وتثبيت العقيدة وزرع الأمل وإبعاد اليأس وإبراز القدوة، ولم يكن التاريخ مجرد قصص للتسلية وشغل أوقات الفراغ كما يظنه كثير من الناس.
والله من وراء القصد.

-----------------

* باحث في تاريخ مصر الحديث والمعاصر

[email protected]