بات بحكم المؤكد أن أحزاب الإسلام السياسي في مختلف الدول العربية تسير بخطىً واثقة نحو تقلد زمام الأمور في عدد من الدول العربية التي شهدت انتخابات نزيهة بعيدة عن عمليات التزوير التي كانت سمة بارزة من سمات الحكومات الاستبدادية التي أُسقطت بفعل ثورات الربيع العربي.

 

واليوم بعد الانتهاء من فرز أصوات الناخبين في كل من تونس والمغرب ومصر وبيان الشعبية الكبيرة التي تتمتع بها هذه الأحزاب الإسلامية على مختلف مسمياتها (المشهد ذاته من المتوقع أن يتكرر في كل من الأردن وليبيا واليمن وسوريا والجزائر في حال أجريت انتخابات حقيقية)، كان لزامًا على هذه الأحزاب أن تكون على قدر المسئولية وأن تكون عند حسن ظن الناخبين بها.

 

على الحركات الإسلامية أولاً أن تسعى إلى شراكة حقيقية مع مختلف الكتل والأحزاب الليبرالية والعلمانية وحتى اليسارية منها في إدارة الدولة (وأظنها تسعى لذلك)، وأن تعمل على تشكيل حكومات ائتلافية تقود البلاد من مرحلة الحكم المطلق الذي كان سائدًا أيام الأنظمة الشمولية البائدة إلى مرحلة القيادة الجماعية للدولة.

 

ومن هذا المنطلق، فإن على الحركات الإسلامية أن تتجاوز بعض التابوهات الأيديولوجية التي ربت أبناءها عليها وقننتها في مواثيقها الداخلية من خلال النظرة الدونية للحركات والأحزاب الأخرى حتى وإن كانت يسارية تخالفها الرأي والمعتقد، لأن إدارة الدولة والخروج بها من عنق الزجاجة بحاجة إلى إشراك جميع الطاقات، والخبرات والتي قد تفتقد بعضها الحركة الإسلامية.

 

على حركات الإسلام السياسي أن تدرك أن إدارة شئون الدولة تختلف بالمطلق عن طريقة إدارة المؤسسات والجمعيات الخيرية، والإغاثية وهي الجوانب التي تخصصت بها الحركات الإسلامية وأبدعت خلال العقود الماضية، وأن الأشخاص الذين نجحوا في إدارة هذه المؤسسات قد لا يصلحون بالضرورة لإدارة الوزارات في الدولة التي تأخذ طابعًا إداريًّا تشعبيًّا أكثر تعقيدًا من مجرد الإشراف على جمعية خيرية.

 

ومن هنا فإن على الحركات الإسلامية أن توجه أبناءها والجيل الناشئ منهم على وجه التحديد نحو التخصصات التي غفلت عنها في السابق، وخاصة في مجالات الفن والاقتصاد والقانون والسياسة وعلم الاجتماع، لأنها وكما تقول الحركات الإسلامية نفسها إنها تحمل مشروعًا حضاريًّا نهضويًّا شاملاً.كما يجب على الحركات الإسلامية (وأظنها مدركة لهذه النقطة) ألا تُقحم نفسها في القضايا التي تمس الحريات العامة وألا تلتف كثيرًا في المرحلة الأولى من حكمها إلى قضايا الحجاب والاختلاط والمعاملات المالية والأقليات الدينية، كما لا يجب على حركات الإسلام السياسي الوسطي (وخاصة جماعة الإخوان المسلمين) ألا تنجر بفعل ضغط الأحزاب الإسلامية (المتشددة أو السلفية) إلى مصادرة الحريات وتطبيق حدود الشريعة وإقامة الخلافة الإسلامية.

 

على أهمية هذه الأمور وحساسيتها إلا أنها لا تشكل أولوية للشارع العربي الذي يتطلع إلى غدٍ أفضل بعيدٍ عن البطالة والفساد وهدر المال العام وتبديد الثروات وهي الأمور التي تُعتبر المقياس الحقيقي في نجاح الحركات الإسلامية أو فشلها.

 

فلا يمكن مثلاً تسجيل أن من نجاحات الحركة الإسلامية في دولة عربية ما، أنها نجحت بزيادة أعداد المحجبات في الجامعات ومنعت الاختلاط وأغلقت حانات الخمور، بل إن الإنجاز الواضح الذي سيسجل لها هو قدرتها على توفير فرص العمل لآلاف الخريجين من الجامعات وزيادة دخل الفرد السنوي وتقليل نسبة الفقر والحد من هجرة العقول ودعم الأبحاث العلمية.

 

في المقابل، على الناخب العربي الذي اختار هذه الأحزاب الإسلامية، وأعطاها ثقته أن يمنحها بعض الوقت وألا يستعجل قطف الثمار، فالتركة التي ورثتها هذه الأحزاب ثقيلة متراكمة طوال أكثر من نصف قرن من الاستبداد والفساد، كما أن التحديات التي يمكن أن تواجهها كثيرة، إن من بعض الأطراف الداخلية أو الجهات الخارجية، فلا يعقل أن يحدث التغيير المنشود بكبسة زر أو بمجرد وصول الأحزاب الإسلامية إلى الحكم.

 

إن الحركة الإسلامية وبلا شك تمتلك العديد من نقاط القوة كنظافة اليد والشرعية القانونية التي اكتسبتها نتيجة الانتخابات وقوة الإدارة والتنظيم والاحتكاك الجماهيري ومعرفة احتياجات الشارع العربي، كما أنها تعاني في المقابل من بعض نقاط الضعف كالوعي الكامل بمبادئ العلاقات الدولية وطرق إدارة الدولة والخبرة السياسية الكافية والقدرة على المناورة والمرونة.

 

وبالتالي فإن فرص نجاح أو فشل الحركات الإسلامية بتحقيق نموذجٍ ناجحٍ يبدو أنها متساوية، وعلى هذه الحركات أن تعي أن الناخب الذي اختارها من بين مختلف الأحزاب يراقب أداءها عن كثب، وأن هذا التفويض الممنوح لها ليس تفويضًا أبديًّا بل هو مؤقت إلى موعد الانتخابات القادمة، وستكون صناديق الاقتراع هي الفيصل في تجديد هذا التفويض أو سحبه بناءً على ما لمسه هذا الناخب من تغيير.

 

إن أمام الحركات الإسلامية اليوم نموذجين إسلاميين: النموذج التركي وما حققه من إنجازات لا تخفى على أحد وجعلت من الدولة التركية واحدة من أقوى الدول سياسيًّا واقتصاديًّا على مستوى العالم، إن هذه القفزة ما كان لها أن تتحقق لو بقي رئيس الوزراء التركي أردوغان حبيسًا لأفكاره الأيديولوجية ومركزًا كل جهده نحو قضية منع الحجاب في الجامعات أو بعض القضايا الهامشية الأخرى، وعلى الطرف الآخر تبدو التجربة السودانية الإسلامية (وإن اختلفت الظروف والمسببات) لا تعطي النموذج الإسلامي الصحيح الذي يمكن أن يحتذى به.

 

إن الحُجة التي كانت تسوقها الحركات الإسلامية في السابق من أن الأنظمة القمعية لا تسمح لهم بالمشاركة السياسية، قد زالت، وحان وقت الاختبار الحقيقي لها، فهل تستطيع الحركات الإسلامية أن تحوّل شعاراتها إلى واقعٍ حقيقي يلمس أثره عموم الشعب؟، وهل ستكون هذه الحركات على قدر تطلعات وآمال الناخب العربي؟ وهل ستتغير ملامح الدول التي فازت بها الحركات الإسلامية ويكون لها حضور في مجالات التنمية والتطور؟، هذا هو التحدي الحقيقي أمام هذه الأحزاب لمرحلة ما بعد الانتصار.

 

--------------

* كاتب صحفي وناشط حقوقي في مؤسسة التضامن الدولي لحقوق الإنسان.