مع استمرار الانتخابات المصرية، استأنفت فرقة العزف الجنائزي العلمانية، الليبرالية، اليسارية، أو سمِّها ما شئت، استأنفت عزفها الذي تختلط فيه لوعة الهزيمة بحنق الخذلان من الجماهير بغضب مزمجر من أولئك الإسلاميين الذين نالوا ثقة الجماهير.

 

ويشارك في العزف الجنائزي كل الآلات بشتى ألوانها؛ بين صحافة تدبج الكذب وتروِّجه، وفضائيات تمارس التضليل، ومحللين وكتَّاب يكيلون للشعب المصري الذي طالما تغنوا بعبقريته كيلاً من التسفيه والتحقير؛ لأنه وضع ثقته في التيار الإسلامي، وأحضر لهم الكابوس الذي ظلوا يرتعبون من مجيئه على امتداد الشهور الماضية، الممل في الأمر أنها نفس المعزوفة التي أطنبت تلك الفرقة الجنائزية في عزفها عقب ظهور نتائج الاستفتاء على الإعلان الدستوري (19 مارس) التي قال الشعب فيها "نعم للتعديلات".

 

قالوا عن الشعب الذي ظلوا يدبجون المديح لعبقريته وثورته: إنه "مغيَّب ومضحوك عليه"، وإن منه- حسب تصريحات د. نوال السعداوي لـ"بي بي سي"- مَنْ ذهب ليقبض خمسين جنيهًا في يده من المرشحين الذين ما زالوا يقدِّمون الرشى للناس بالأموال وكروت الشحن والزيت والسكر.

 

لكن الغريب في الأمر أن عددًا لا بأس به من رجال الرأي الذين يدعون الحكمة والتحضر (النخبة إياها!) فقَدَ صوابه، وطاش قلمه، وأطلق العنان لخياله، وصوَّر مشاركة الإسلاميين في سباق الانتخابات كمن يخوض معركة حربية، ويشنُّ غارة عسكرية لهدم العملية الانتخابية، وتحويل البلاد إلى ساحة من الفوضى والخراب، هكذا صوَّرهم الأستاذ علي السيد في مقاله بـ"المصري اليوم" (1/12/2011م):

 

"ما هالني فعلاً تلك الممارسات الغريبة والمستهجنة لحزب "الحرية والعدالة" التي تفوق ما كان يفعله "الحزب الوطني"، الإخوان كانوا شركاء لـ"الحزب الوطني" في تجريف وتخريب الحياة السياسية في مصر، ويبدو أنهم أصيبوا بنفس أمراضه، ولم يتعلموا الدرس، ولا يعنيهم أن يكون في مصر بناء ديمقراطي سليم، المهم أن ينجحوا ويستحوذوا على أكبر عدد من مقاعد البرلمان".

 

هكذا بلا منطق ولا احترام لعقول الناس، أصبح الإخوان الذين ظلوا طوال ثلاثين عامًا خلف قضبان سجون "الحزب الوطني"، أصبحوا- بفعل ساحر- شركاءه وحلفاءه، أين الحياء؟!
ويواصل د. صلاح الغزالي في نفس الجريدة- وهي إحدى المنصات الرئيسة لفرقة العزف الجنائزي- نفس المعزوفة ولكن بطريقة أكثر فجاجة، فقد حوَّل المشهد إلى معركة حربية قائلاً:

 

"... ظاهرة خطيرة باتت تهدِّد بتقسيم مصر، وإشعال حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر، وهي ظاهرة أولئك "المتأسلمين" الذين يرتدون زي الإسلام، والإسلام من تصرفاتهم براء، بعضهم تحت اسم الإخوان المسلمين، وبعضهم تحت اسم السلفيين، وقد ظهروا جميعًا في المشهد المصري مرة واحدة بعد نجاح ثورة يناير العظيمة، إنني أطالب المجلس الأعلى للقوات المسلحة بأن يكون أمينًا على مستقبل هذا البلد، وأن يضرب بيد من حديد على كل مَنْ يحاول أن ينال من وحدة وتماسك هذا البلد، وأن ينقذ مصر من بعض أبنائها المدفوعين من بعض القوى الخارجية، الذين صوَّرت لهم أوهامهم أنهم- تحت شعار الدين- سوف يتمكنون من الاستيلاء على مصر، إن مصر في خطر، وهي أكبر كثيرًا منكم أيها المتأسلمون، فعودوا إلى رشدكم يرحمكم الله".

 

سبحان الله! مصر في خطر؛ لأنها تمارس انتخابات حرة كبقية خلق الله المحترمين!! والإخوان والسلف يشعلون فتنة؛ لأنهم تجرَّؤوا ومارسوا حقهم الدستوري في الترشُّح والانتخاب، وارتكبوا- ومعهم الشعب- جريمة عندما صفع صندوق الانتخابات أولئك المدَّعين الكَذَبة من سماسرة العلمانية على "قفاهم" باختيار الإسلاميين في المرتبة الأولى، وبدلاً من أن يفيق هؤلاء لحقيقة شعبيتهم، طالبوا الإسلاميين بالعودة إلى رشدهم؛ أي التوبة عن تعاطي السياسة؛ لأنهم كشفوا حقيقة هؤلاء العلمانيين المُرَّة، حقيقتهم الصفر المكعب عند الشعب!

 

لم يتوقف الأمر عند تحريض المجلس الأعلى للقوات المسلحة للقضاء على الإسلاميين، وإنما تعدى إلى مطالبة المهندس "نجيب ساويرس"- راعي العلمانية المتطرفة في مصر- الولايات المتحدة بغزو مصر؛ لقطع الطريق على حكم الإسلاميين لمصر، ثم ردَّ على نفسه بأسى: "المشكلة أن الغرب يتفرَّج ولا يفعل شيئًا".

 

صديق الصهاينة والأمريكيين الذي سبَّ الدين على الهواء مباشرةً من قبل، وسخر من النقاب واللحية، واصل تحدِّيه وتعدِّيه على مشاعر المسلمين عبر قناة "CBC" المملوكة لأحد فلول "الحزب الوطني" بقوله: "دولة محكومة بالدين- وتحديدًا الدين الإسلامي- كمسيحي سأشعر بعدم الارتياح لذلك".

 

"ساويرس" يسرح ويمرح ويسبُّ ويتهم ويستعدي، بينما النيابة تحقِّق معه ومع شركته "موبينيل للاتصالات" المتورطة في التجسس على مصر لصالح الصهاينة، عبر إنشاء محطات التقوية الخاصة بشبكة الاتصالات بالقرب من الحدود مع فلسطين المحتلة؛ مما سهَّل عمل شبكة التجسس التي تم ضبطها في متابعة الاتصالات الدولية، والتجسس على شبكات المحمول المصرية، واختراق الأمن القومي بشكل واضح، وعلاقات وشراكات "ساويرس" مع الصهاينة معروفة، أقول: إذا كان "نجيب" يفعل كل ذلك وهو متورط بهذا الشكل، فماذا كان يفعل لو كان فوق الشبهات؟!

 

وبعد، ألم تطالع فرقة العزف الجنائزي تعليقات الصحافة والإعلام الأجنبي؟ ألم يقرؤوا تعليق "روبرت فيسك" بصحيفة "الإندبندنت" البريطانية عندما قال: "الانتخابات المصرية تجعل أي دولة أوروبية تشعر بالخزي، لم يكن هناك ضباط شرطة لتخويف أو ترهيب الرجال والنساء الذين وصلوا إلى اللجان الانتخابية لاختيار مرشحيهم، ولم يكن هناك أي شخص لإلقاء الأوراق الانتخابية في نهر النيل، أو أشخاص مضللون لاستخراج بصمات برلمانية أخرى، كما جرت عليه العادة في الماضي".

 

لقد أصيب القوم بهستيريا ويدَّعون أنهم عقلاء، وبدوا أشبه ببلطجية وقطَّاع طرق، وهم الذين صدَّعونا بالحكمة والتحضُّر والاحتكام لصندوق الانتخاب!.

 

أعتقد أنهم تابوا عن كل ما مثَّلوا به علينا به طوال السنوات الماضية، فقد أصبحت الكلمات التي كانوا يتاجرون بها علينا: "ديمقراطية"، "انتخاب"، "الشعب"، "صندوق" من أبغض الكلمات على قلوبهم ومسامعهم، ولِمَ لا وقد "تحولت المجتمعات العربية إلى غبار بشري، وسيادة البؤس واليأس، وقد استقوت التيارات الدينية بدواعي البؤس واليأس"، في رأي عبد الحليم قنديل؟!

 

-----------------------

 (*) كاتب مصري- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية- [email protected]