تُعقد الإثنين الموافق 23/1/2012م الجلسة الأولى لبرلمان ثورة 25 يناير.. هذا المبنى التاريخي والأثري الذي احتضن الحياة النيابية في مصر منذ دستور 1923م؛ حيث يحمل هذا المبنى في قلب القاهرة قيمةً تاريخيةً ومعماريةً شامخةً، ويعد رمزًا لقيم ومبادئ كافح الشعب المصري من أجلها سنين طويلة.

 

هذا المبنى يلقي الضوء على تطور الحياة النيابية في مصر منذ قيام مصر الحديثة في عصر محمد علي باشا.

 

- مبنى مجلس الشعب.. معلم أثري وتاريخي:

كانت جلسات مجلس شورى النواب تعقد بالقلعة من سنة 1866م حتى سنة 1878م، ثم نقلت بعد ذلك إلى قاعة بالمحكمة المختلطة بميدان العتبة.

 

ثم شيَّد الخديوي إسماعيل عام 1878م المبنى الذي كان يشغله ديوان نظارة الأشغال العمومية وارتبطت به الحياة النيابية المصرية، وفي سنة 1881م أجريت تعديلات كبيرة بالطابق الأرضي لإعداد قاعة نظارة الأشغال لاجتماعات مجلس شورى النواب، وهي القاعة التي ما تزال قائمة وتعقد بها اجتماعات وجلسات مجلس الشورى حاليًّا، في حين شغلت وزارة الأشغال والموارد المائية الطابقين الأول والثاني من هذا المبنى، وبعد صدور دستور 1923م تقرر قيام مجلسين: مجلس للنواب وآخر للشيوخ، وقد رؤي إقامة مبنى جديد خاص بمجلس النواب يتسع لأعضائه في ذلك الوقت، والإبقاء على القاعة الأخرى وتخصص لأعضاء مجلس الشيوخ.

 

وفي 29/9/1991م تسلمت الأمانة العامة لمجلس الشعب الطابقين الأول والثاني اللذين كانت تشغلها وزارة الأشغال والموارد المائية وضمتهما إلى مبانيها حتى يمكن للمجلس أن يتوسع في مقره لمواجهة التطور الكبير الذي طرأ على الحياة النيابية التشريعية، وما طرأ على الممارسة البرلمانية في الحقبة الأخيرة.

 

يشغل مجلس الشعب ثلاثة مبان، شيدت في فترات تاريخية متعاقبة على مساحة قدرها 11.5 فدانًا تقريبا أي 48 ألفًا وثلاثمائة متر مربع، فضلاً عن عدة مبان إضافية للخدمات المعاونة والصيانة والمخازن، ومسجد المجلس، وتتخلل تلك المباني عدة حدائق ومساحات خضراء.

 

ويعد مبنى مجلس الشعب الحالي من المعالم التاريخية المهمة التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بتاريخ مصر الحديث؛ حيث إنه قد صُمم وبني خصيصًا كمقر للبرلمان عام 1923م، وعقدت به الجلسة الافتتاحية الأولى التي ضمت مجلسي الشيوخ والنواب يوم السبت 15 مارس 1924م، ومنذ ذلك التاريخ شهد المبنى أحداثًا مهمة بالغة الخطورة في حياة مصر السياسية، ومسيرة العمل الوطني بها، وأضحى رمزًا لكلِّ المفاهيم الدستورية والديمقراطية التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من تراث مصر السياسي، كما أنه شاهد حي على وقائع أكثر من 70 عامًا من الحياة السياسية والنيابية في مصر.

 

والمبنى لا شك أنه يعتبر رمزًا قوميًّا من أعظم الرموز التي يعتز بها الوطن ويفخر بها المواطنون، فهذا المبنى قد احتضن إرادة الشعب، وفي رحابه اجتمع نواب الأمة منذ فجر الحياة النيابية، وتحت قبته ارتفعت أصوات حماة الديمقراطية وحراس الدستور، ومن ساحته المقدسة خرجت التشريعات التي نظمت الحياة المصرية في ظل سيادة القانون.

 

والمبنى من الناحية المعمارية فهو في حدِّ ذاته قيمةً فنيةً ومعماريةً عامة، ويعتبر طرازًا فنيًّا جمع بين الأساليب المعمارية الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وبين التأثيرات الإسلامية في العمارة والفنون؛ ما تعين معه الحفاظ عليه وعلى معالمه وطابعه الفني.

 

 الصورة غير متاحة

 القاعة من الداخل

ويتكون التصميم المعماري للمبنى من قاعة رئيسية كبرى مستديرة الشكل، والتي يجلس فيها النواب، يبلغ قطرها 22 مترًا، وارتفاعها 30 مترًا تعلوها قبة يتوسطها فانوس مستدير مغطى بالزجاج، وهذا الجزء تعلوه "شخشيخة" عليها قبة صغيرة منخفضة والشخشيخة بها أربعة شبابيك، وعلى القبة من الخارج أشرطة بارزة تمثل وحدات زخرفيةً بارزة متكررة، أما مركز الدائرة من الداخل فتحيط به زخارف نباتية تمثل الطراز الذي ساد في عشرينيات القرن الماضي.

 

والقاعة تتكون من طابقين بكل منهما شرفة، أما صدر القاعة فنجد في وسطها شعار الجمهورية ثم منصة الرئاسة، وعلى يمين ويسار القاعة قاعات وحجرات أخرى للوزراء وللنواب وغيرهم؛ حيث يلحق بالقاعة عدة أجنحة منها البهو الفرعوني واستراحة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ويسمح للزائرين بدخول مجلس الأمة بتذاكر خاصة أثناء الاجتماع فيه، ولهؤلاء شرفات مرتفعة يشاهدون فيها ما يجري في القاعة الكبرى.

 

وقد دخل ضمن مبنى البرلمان في السنوات الأخيرة مبنى تاريخي آخر كانت تشغله وزارة الري والأشغال العامة، وهو مبنى يحمل نفس الطراز المعماري لمبنى البرلمان، وتجري أعمال الصيانة والترميم له بشكل دائم؛ للحفاظ على هذه القيمة المعمارية والتاريخية المهمة.

 

ونظرًا لما أصاب قبته من شروخ طولية وعرضية وما تعرضت له الزخارف من طمس، فقد كان قرار اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية بهيئة الآثار المصرية آنذاك (وزارة الدولة لشئون الآثار حاليًّا) بتسجيل المبنى ضمن عداد الآثار الإسلامية؛ للحفاظ عليه، ولترميمه طبقًا للمادة الثانية من القانون رقم 117 لسنة 1983م الخاص بحماية الآثار، وبناءً على ذلك صدر قرار السيد رئيس الوزراء رقم 1237 لسنة 1986م بتسجيل مبنى مجلس الشعب وملحقاته ضمن عداد الآثار، وقد تمَّ اختيار قاعتين بمبنى مجلس الشعب لإعدادهما كمتحف لتاريخ الحياة النيابية في مصر.

 

أما عن تطور الحياة النيابية في مصر فيمكن أن نجملها في السطور التالية:

- الحياة النيابية في عهد محمد علي باشا:

عندما تولى محمد علي باشا حكم مصر سنة 1805م لم يعتبر ما كان عليه نظام الحكومة في عصر المماليك، واتخذ من الأنظمة التي وضعها نابليون بونابرت للبلاد رائدًا له، فأنشأ ديوانًا خديويًّا في نوفمبر سنة 1824م، والذي تكون من نظار الدواوين ورؤساء المصالح واثنين من الأعيان في كل مديرية ينتخبها الأهالي، وجعل مقره القلعة، يمكن القول بأنه كان يمثل البدايات الأولى لتطور الحياة النيابية في مصر، وكان يرأسه الوالي وينوب عنه في غيابه الكتخدا، وكان عمله الفصل في الأمور التي ليست خاصة بالقاضي الشرعي أو التي لا تحتاج الأمر فيها إلى عرضها على القاضي أو على مجلس آخر.

 

ثم أنشأ محمد علي مجلسين أحدهما كان يسمى مجلس المشورة الملكي ويختار هو أعضاءه بنفسه، وكان عددهم يتراوح ما بين 30 إلى 40 عضوًا، وكانوا ينظرون في شئون البلاد العامة، وعليهم تعرض القوانين قبل سنها، ومع أن رأي هذا المجلس كان استشاريًّا محضًا تمكن به محمد علي من تخفيف عبء المسئولية الملقاة على عاتقه أمام شعبه وأمام الدول الأجنبية، ثم بعد ذلك كان مجلس المشورة الذي أنشأه محمد علي يتكون من 156 عضوًا، وجعل رئاسته لابنه إبراهيم باشا، وكان هذا المجلس ينعقد مرة واحدة في السنة لاستشارته في مسائل التعليم والإدارة والأشغال العمومية والشكاوى التي تقدم إليه، وقد أنشأ محمد علي فوق ذلك عدة دواوين أخرى.

 

- الحياة النيابية في عهد الخديوي إسماعيل:

في عهد الخديوي إسماعيل تمَّ إنشاء مجلس شورى النواب سنة 1866م ويُعد هذا المجلس هو البداية الحقيقية للمجالس النيابية في مصر، وكان مجلسًا استشاريًّا يتكون من 76 عضوًا، 75 منهم ينتخبون لمدة ثلاث سنوات، ويتولى انتخابهم عمد البلاد ومشايخها في المديريات أو جماعة الأعيان في القاهرة والإسكندرية ودمياط، ورئيس المجلس يعينه الخديوي، وكان في البداية مجلسًا استشاريًّا ثم بدأت تتولد داخله اتجاهات المعارضة الحقيقية؛ بسبب استفحال الأزمة المالية، وما ولدته من تدخل أجنبي في شئون مصر، وقد استمر مجلس شورى النواب يعقد جلساته من 25 نوفمبر 1866م حتى 26 مارس سنة 1882م.

 

- الحياة النيابية في عهد الخديوي توفيق:

أصدر الخديوي توفيق مرسومًا بإلغاء مجلس النواب وقانونه، وتقرر في أول مايو سنة 1883م إنشاء القانون النظامي أثناء الاحتلال البريطاني، وبمقتضاه شُكل:

 

1- مجالس مديريات لتقرير ضرائب فوق العادة قد تحتاج إليها الحكومة في إنفاقها على المنافع العمومية.

 

2- مجلس شورى القوانين، وكان مؤلفًا من 30 عضوًا، منهم 14 عضوًا معينون بواسطة الحكومة، والآخرون منتخبون بواسطة مجالس المديريات، وكان يؤخذ برأي المجلس في كلِّ قانون أو لائحة إدارية عمومية، وكانت الحكومة حرة في مخالفة رأي المجلس مع إخباره بالأسباب التي اضطرتها إلى العدول عنه، وبذلك كانت اختصاصات هذا المجلس بسيطة تتلخص في أن له الحق في أن يطلب من الحكومة تقديم مشروعات قوانين، ومع ذلك فليس له حق اقتراح القوانين.

 

3- الجمعية العمومية: وتتكون من 82 عضوًا، منهم 46 عضوًا منتخبون والباقون النظار (الوزراء) الستة، وأعضاء مجلس الشورى (شورى القوانين)، وتعقد جلساتهم مرة على الأقل كل سنتين، وجلساته كانت سرية، ومن اختصاصاته أنه لا يجوز ربط أموال جديدة أو رسوم على منقولات أو عقارات إلا بعد عرضه على الجمعية.

 

وفي سنة 1913م أنشئت الجمعية التشريعية وتتكون من أعضاء قانونيين، وهم النظار (الوزراء) والمنتخبون عددهم 60 عضوًا، والمعينون وعددهم 17 عضوًا، ومدة العضوية 6 سنوات، واختصاصات الجمعية تتلخص في وجوب أخذ رأيها قبل إصدار أي قانون مع عدم التقيد به.

 

وقد عقدت الجمعية التشريعية دور انعقاد واحد من 22 يناير سنة 1914م حتى 17 يونيه 1914م ، ولم تعقد الجمعية أي اجتماعات بعد ذلك، لصدور أمر بحلها في 28 أبريل سنة 1923م بعد إيقاف الحياة النيابية في مصر؛ بسبب الحرب العالمية.

 

- الحياة النيابية في ظل دستور 1923م:

بعد إعلان الدستور في أبريل سنة 1923م في ظل تعدد الأحزاب أصبح التشريع من اختصاص البرلمان مع إعطاء الملك حق الاعتراض، كما خُوِّل للبرلمان حق الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وكان البرلمان يتكون من مجلسين:

 

1- مجلس النواب: وكان عدد أعضائه 214 عضوًا زيد بعد ذلك إلى 232 ثم إلى 264 ثم 319 عضوًا بسبب زيادة السكان، وعقد أول اجتماع له في 15 مارس سنة 1924م وآخر اجتماع في 25 فبراير سنة 1952م.

 

2- مجلس الشيوخ: وكان عدد أعضائه 120 عضوًا منهم 72 منتخبًا و48 عضوًا معينًا، ثم زيد إلى 147 عضوًا منهم 88 منتخبًا و59 معينًا، ثم زيد بعد ذلك إلى 180 عضوًا منهم 108 منتخبين و72 معينًا، وعقد أول اجتماع له في 15 مارس سنة 1924م وآخر اجتماع له في 25 فبراير سنة 1952م.

 

- الحياة النيابية في ظل ثورة 23 يوليو 1952م:

قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952م كتعبير عن آمال وتطلعات الشعب المصري، فقد أنهت الثورة الاحتلال الإنجليزي لمصر، وأرغمت الملك فاروق على التنازل عن العرش، ثم أعلنت سقوط الدستور وحل الأحزاب، وأعقب ذلك فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات دون حياة برلمانية، كما أعلنت الجمهورية كنظام بديل للحكم عن النظام الملكي، وأُعلن دستور 1956م وشُكل أول مجلس نيابي في 22 يوليو سنة 1957م ومجلس الأمة مكون من 350 عضوًا، واستمر إلى 4 مارس سنة 1958م.

 

وبعد قيام الوحدة المصرية السورية ألغى هذا الدستور وحل مكانه دستور مؤقت، وشكل مجلس أمة مشترك من 400 عضو مصري و200 عضو سوري، وعقد أولى جلساته في 21 يوليو 1960م، واستمر حتى 22 يونيه سنة 1961م.

 

وتلا ذلك الدستور المؤقت في مارس 1964م وقيام مجلس أمة منتخب من 350 عضوًا منتخبًا، بالإضافة إلى عشرة نواب يعينهم رئيس الجمهورية، ثم وضع الدستور الدائم في 11 سبتمبر سنة 1971م، وجرت انتخابات مجلس الشعب في أعقاب إعلانه، وفي سنة 1976م جرت انتخابات جديدة في ظلِّ نظام المنابر السياسية، والتي تحولت إلى أحزاب سياسية.

 

وفي 27 مايو سنة 1984م أجريت الانتخابات بعد تعديل قانون مجلس الشعب، وأصبح عدد أعضاء المجلس 448 عضوًا منتخبًا وعشرة أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية، كما أخذ بنظام القوائم الحزبية، ثم أجريت الانتخابات كل خمس سنوات حتى انتخابات سنة 2010م والتي كانت وصمة عار في جبين الحياة النيابية في مصر؛ حيث شهدت عملية تزوير فاضحة كانت سببًا في اندلاع ثورة الغضب في 25 يناير 2011م، وعلى إثرها ألغى دستور 1971م، وأعلن الإعلان الدستوري الذي استفتي عليه الشعب وبموجبه أجريت الانتخابات التشريعية التي جمعت بين نظام القوائم النسبية والنظام الفردي على ثلاث مراحل، ونحن بصدد انعقاد جلسته الافتتاحية في 23 يناير 2011م.

 

المراجع:

1- عمر الإسكندري، سليم حسن، تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر، مكتبة مدبولي 1990م، ص 143.

2- محمد صبري، تاريخ مصر من محمد علي إلى العصر الحديث، ط1، مكتبة مدبولي، القاهرة 1991م، ص 149.

3- عبد الرحمن زكي، موسوعة القاهرة، الطبعة الثامنة، مكتبة الأنجلو 1987م.

4- المستر جورج يانج، تاريخ مصر من عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل، تعريب علي أحمد شكري، سلسلة صفحات من تاريخ مصر(رقم 5) مكتبة مدبولي، القاهرة 1990م.

5- وزارة الثقافة، هيئة الآثار المصرية، مبنى مجلس الشعب، القاهرة 1986م.

----------------------

* مدير عام البحوث الأثرية بمكتب وزير الآثار