الحمدُ للهِ الذي نِعمُه لا تُحْصَى، وشكرُه لا يُؤَدَّى، وليِّ النَّعَم كلَّها دونَ مَنْ سواه، ولا فلاحَ إلا لمَن هداه، ولا نجاةَ إلا لمن عَصَمه من اتباع هواه، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ علَى سيِّدِنا محمدٍ عبدِه الَّذي ارتَضَاه، ورسولِهِ الِّذي اختارَه واصطفَاه، وخصَّه بِخَتْمِ النبوَّة وحَبَاه، وأَبَانَه بأعْلَى منازلِ الفضْلِ على كُلِّ آدميٍّ سِواه، وعلى آلِه وصحبِه الطَّيِّبين الهُداة.
 وبعد أيها الكرامُ السادة، فقد غابَ صديقي النَّبيهُ عن مجلسِنا على غيرِ العادة، فقلت: أذهبُ الليلةَ إليْه، فأَسْأَلُ عنْه وأطمِئنُّ عليْه. 
فأتيتُه في المساء، بعد أن أدَّيْنا صلاةَ العِشاء، فرأيتُه وهو مكتئبٌ حزين، كاسفُ البالِ مُقَطَّبُ الجَبِين.
 فقلتُ: أَيَا صاحبي! ما الذي دهاك؟، وعن مجلسِ الأصحابِ والأحبابِ صرفَك وزَوَاك؟.
قال: ليس لي أصحابُ ولا أحبَّاء، وحقُّ ما قال بعضُ البلغاء:
ما ودَّك مَنْ أهمل وُدَّك     ولا أحبَّك مَنْ أبغضَ حُبَّك
وقد قيل: عِلَّةُ الْمُعَادَاة، تكونُ في قِلَّة الْمُبَالاة.
وكلُّ أخٍ عند الهُوَينَى مُلاطِفٌ ولكنَّمَا الإخوانُ عندَ الشَّدَائد
قلتُ: هذا كلامٌ خطير، فما الَّذي أدَّى لكلِّ هذا التغيير؟.
 قال: أَوَ مَا سمعتَ قبل يوميْن أخانا عدنان، حين ساءَنِي واستهزَأَ بي بينَ الإخْوان، وليستْ هذهِ المرةَ الأُولى، فلَهُ في السُّخْرِيةِ منِّي يدٌ طُولَى، وكم حدَّثتُ نفْسِي بالصبرِ على هذا الفِعْل، ولكني قد فاضَ بي الكَيْل، ومع أني أرُدُّ عنْ كلَّ إخواني السُّخْفَ والجَهْل، فلم أجدْ من أحدٍ منهم الردَّ والوفاء، فتيقَّنتُ ما قالَ بعضُ الشعراء:
ما كِدْتُ أَفْحَصُ عنْ أخٍي ثِقَةٍ     حتَّى ذَمَمْتُ عواقبَ الفحْصِ
ولهذا فقدْ قرَّرتُ تركَ مجالسِ الإخوان، والانفرادَ بنفْسِي عن أبناءِ الزَّمَان.
قُلْ للَّذِينَ صَحِبْنَاهُمْ فَلَمْ نَـرَهُمْ       يرْضَوْن لِمَنْ صَحِبُوا بِغَيْرِ الدُّونِ
سَلامَةُ الـدِّينِ والدُّنْيَا فِرَاقُكُم          وفِرَاقُكُمْ رَاحَةُ الدُّنْيَا معَ الدِّينِ
 قلتُ: أَخْطَأْتَ يا ابنَ الكرام، وجانبْتَ الصوابَ في الفعلِ وفي الكلام، فقد قال الحكيمُ ونِعْمَ ما قال، الرجلُ بلا صديقٍ كاليمينِ بلا شِمال.
وكُنْتُ إذَا الصَّدِيقُ أرادَ غَيْظِي     وَأَشْرَقَنِي عَلَى حَنَقِ برِيقِي
صَفَحْتُ ذُنُوبَهُ وَعَفَوْتُ عنْهُ       مخافَةَ أنْ أَعِيشَ بِلَا صَدِيقِ
 إنَّ الأخَ يا صديقِي إنسانٌ هو أنتَ إلَّا أنَّه غيرُك، فلا تكنْ في شكٍّ من الإخوانِ ولا يَلْتَبِسْ عليكَ أمرُك، ولَعَمْرِي إنَّ إخوانَ الصِّدْقِ لمن أنْفَسِ الذَّخائِر، وأفضلِ العُدَدِ للزَّمانِ أيها الذِّكِيُّ الماهِر، وقد جاءَ في معنى الحديثِ الشريف، أيها الصَّدِيقُ النَّبِيهُ اللَّطِيف:
للهِ في الأرْضِ أَجْنادٌ مُجَنَّدَةٌ أَرْوَاحُها بينَهَا بِالصِّدْقِ تعْتَرِفُ
فَمَا تَنَاكَرَ مِنْها فَهْوَ مُخْتَلِفٌ ومَا تَعَارَفَ مِنْهَا فَهْوَ مُؤْتَلِفُ
 وفي الحكمةِ قيل، أيُّها الصَّديقُ النبيل: مَنْ استصلَحَ عدوَّه زادَ في عُدَدِه، ومن استفسَدَ صديقَه نقَص من عُدَدِه. 
أوَ ما دَرَيْتَ أنَّ مَنْ قطعَ الإخوانَ دفَعهم لِيَقْطَعُوه، ومَنْ ضيَّعَهم كان أحَرْى أنْ يُضَيِّعُوه، وعزَّ عليْه أنْ يُعَوِّضَهم وسَهُل عليهِم أنْ يُعَوِّضُوه. 
يَمْضِي أَخُوكَ فَلَا تَلْقَى لَهُ خَلَفا        والمالُ بَعْدَ ذَهَابِ المالِ مُكْتَسبُ
 والأخُ بينَ إخوانِه يا زيْنَ الأصدِقاء، كالسَّمَك السابِحِ في لطيفِ الماء، فإنْ غادَرَه ضاقَ به واسِعُ الفَضاء.
 قال صديقِي- فَرَّج اللهُ عنه الضِّيق-: لكنَّنِي يا شيخَنَا قد صاحَبْتُ أكثرَ مِنْ صدِيق، فما رأيتُ أكثرَهم غَفَرَ لي ذَنْبًا، ولا ستَر لي عَيْبًا، ولا حفِظَ لي غَيْبًا، ولا أَقَالَ لي عَثْرَة، ولا بَذَلَ لي نُصْرَة، لقد خَبُثَتْ منَ القَوْمِ السَّرائِر، وخالَفَتْ في غالبِ الأحوالِ الظَّوَاهِر، حتى فَنِيَ يا شيخَنَا مِيراثُ النُّبُوَّة، وفُقِدتْ من الناسِ الْمُرُوءةُ والفُتُوّة.
صَدِيقُكَ لَا يُثْنِي علَيْكَ بِطَائِلٍ   فمَاذَا تَرَى فيكَ العَدُوُّ يقولُ
قلت: اسمعْ أيُّها الصَّدِيقُ الطِّيِبُ الأَثِير: لا تَزْهَدْ في صديقِك لخُلُقٍ أو خُلُقين تُنْكِرُهما لَطَالَمَا رَضِيتَ مِنْ أخلاقِه الكَثير، فإنَّ اليسيرَ من الأخطاءِ مغفُور، والذَّنْبَ في خِضَمِّ الحسناتِ مغمُور.
لا يُؤْيِسَنَّكَ مِنْ صَدِيقٍ نَبْوَةٌ       يَنْبُو الفَتَى وهو الجَوادُ الخِضْرِمُ
فإِذَا نَبَا فاسْتَبْقِهِ وَتَأَنَّهُ            حَتَّى تَفِيءَ بهِ وطَبْعُك أَكْرَمُ
 فلا يُزهِدَنَّك من صديقٍ حَمِدْتَ سِيرتَه، وارتضَيْتَ وتِيرَتَه، وعرفْتَ أدبَه وفضْلَه، وخَبَرْتَ عقلَه ونُبْلَه، عيبٌ تحيطُ به كثرةُ فضائلِه، أو ذنبٌ صغيرٌ تستغفِرُ له قُوَّةُ وسائِلِه، فإنَّك لنْ تجدَ أبدًا ما بقِيتَ مُهَذَّبًا لا يكونُ فيه عَيْب، أو معصومًا محفوظًا لا يقعُ منه ذنْب.
أَتَطْلُبُ صًاحِبًا لَا عَيْبَ فِيهِ    وأيُّ النَّاسِ مَنْ لَيْسَ لهُ عُيُوبُ
إنَّ من حقِّ الإخوانِ أنْ تغْفِرَ زلَّتَهم، وأنْ تستُرَ يا صديقِي هَفْوَتَهم؛ لأنَّ مَنْ رَامَ بريئًا من الزَّلَّات، وطلبَ سليمًا من الهفَوَات، رَامَ أمرًا مُعْوِزًا، واقترحَ وصْفًا مُعْجِزًا؛ فلا صديقَ بلا هفْوَة، ولا جوادَ بلا كَبْوَة، ولا صَارِمَ بلا نَبْوَة.
ومَنْ ذَا الَّذي تُرضِي سَجَايَاهُ كُلُّها     كَفَى اِلمرءَ نُبْلًا أنْ تُعَدَّ مَعَايِبُه
إذا كنتَ في كُلِّ الأمُورِ مُعَاتِبًا     صديقَكَ لمْ تَلْقَ الَّذِي لا تُعَاتِبُه
فعِشْ واحدًا أوْ صِلْ أخاكَ      فإنَّه مُقَارِفُ ذنْبٍ مَرَّةً ومُجَانِبُه
قال صديقِي أتَّم اللهُ سعادتَه: فإني أرَى نفسِي لا تنْسَى إِساءَتَه، وإن كانتْ لا تُضْمِرُ أبدًا عداوَتَه، فكيفَ أُرْضِيها وأُصَفَّيها، ومن الضِّيقِ أُخلَّصُها وأُنَقَّيها؟.
 قلت: سامحَكَ الله، أَوَ مَا قرأتَ قولَ الله: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾، ألم تقرأْ قولَ الحقِّ الواضحَ الأبْيَن: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾؟.
وكُنْ مَعْدِنًا للْخَيرِ واصْفَحْ عنِ الأَذَى    فإنَّك رَاءٍ مَا علمتَ وسامعُ
وأَحْبِبْ إذا أَحْبَبْتَ حُبًّا مُقارٍبًا            فإنَّكَ لا تَدْرِي متى أنتَ نازِعُ
وأَبْغِضْ إذا أبْغَضْتَ غيرَ مُبَايِنٍ         فإنَّكَ لا تَدْرِي متى أنتَ راجِعُ
 وفي الحديثِ يا ابنَ الكرام، عن بدْرِ التَّمامِ ومِسْكِ الختامِ وزَيْنِ الأَنام: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثلَاثَةِ أَيَّام، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هذَا وخَيْرُهُما الَّذِي يَبْدَأُ بالسَّلام».
اسْتُرْ أَخَاكَ وَغَطِّ عَلَى عُيُوبِه   وَاعْلَمْ بِأَنَّ الحِلْمَ عِنْدَ الغَيْظِ أَحْسَنُ مِنْ رُكُوبِه
وفي معنى هذَا جاءَ الحديثُ الشريفُ يا قُرَّةَ العَيْن: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ كُلَّ يَوْمِ خميسٍ واثنيْن، فيُغفَرُ للمُسْلِمِين جمِيعًا إلَّا رجُلَيْن، كانتْ بينَ أحَدِهِما وبيْنَ الآخَرِ شَحْنَاء، فيُقَالُ: أخِّرُوا هذيْنِ حتى يصْطَلِحَا وتذْهَبَ البَغْضَاء.
لِكُلِّ شيْءٍ فَقَدْتَهُ عِوَضٌ   وَمَا لِفَقْدِ الصَّدِيقِ مِنْ عِوَض
واسمعْ أيُّها الحبيبُ الألْمَعِي، ما قاله إمامُنا الشَّافعي:
أُحِبُّ مِنْ الْإِخْوَانِ كُلَّ مَوَاتِي وَكُلَّ غَضِيضِ الطَّرْفِ عَنْ عَثَرَاتِي
يُوَافِقُنِي فِي كُلِّ أَمْرٍ أُرِيدُهُ وَيَحْفَظُنِي حَيًّا وَبَعْدَ وَفَاتِي
فَمَنْ لِي بِهَذَا لَيْتَ أَنِّي أَصَبْته فَقَاسَمْته مَا لِي مِنْ الْحَسَنَاتِ
تَصَفَّحْت إخْوَانِي وَكَانَ أَقَلُّهُمْ عَلَى كَثْرَةِ الْإِخْوَانِ أَهْلَ ثِقَاتِي
 وفي خِتَام الكلامِ يا أَصِيلُ يا ابنَ الأصِيل، اسمعْ إلى ما يقولُ الموْلَى الجليل: ﴿فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾. قال الإمامُ عليٌّ رضيَ اللهُ عنْه يا أُولِي الألْبَاب: الصَّفْحُ الجَمِيلُ هُوَ الرِّضَا بِغَيْرِ عِتَاب.
هَبْنِي أَسَأْتُ كَمَا تَقُولُ      فَأَيْنَ عَاطِفَةُ الْأُخُوَّة
أَوْ إِنْ أَسَأْتَ كَمَا أَسَأْتُ     فَأَيْنَ َفَضْلُكَ وَالْمُرُوَّة
 قال صدِيقي الطَّيبُ الأمين: شَفَيْتَنِي شَفَاك اللهُ ربُّ العالمين، وجزاكَ عنِّي خيرًا يا زَيْنَ النَّاصِحين، وأمَّا أخِي عدنانُ، فقدْ عفَوْتُ عنه ما كان، وأنا عائدٌ بإذنِ ربِّي إلى مجالسِ الإخوان، وعائذٌ باللهِ ربِّي من نَزْغِ الشيطان، وسائِلٌ إلهي أنْ يجمَعَني مع إخوانِي في الدُّنْيا علَى الإيمَان، وفي الآخرةِ إخوانًا على سُرُرِ الجِنان.
 وفي الختامِ أزْكَى سلامِنا والصَّلَوات، على البَدْرِ الْمُنِيرِ في الظُّلُمات، سيِّدِنا محمِّدٍ سيدِ الكائناتِ، وعلى الآلِ والصحْبِ والزَّوْجات، والحمدُ لِرَبِّي قاضي الحاجات، ومُذْهِبِ الأضْغَانِ والعَدَاوَات.