(1)روَى الزُّبَيْرُ بنُ بكَّار في (الأخبار المُوَفَّقِيَّات) عن عَمِّه مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قال: 

كَانَ الْمَأْمُونُ (الخليفةُ العباسيُّ المشهور) قَدْ هَمَّ بِلَعْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَفَثَأَهُ (أي ردَّه) عَنْ ذَلِكَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ (العالمُ الصادقُ قاضي القضاة في ذلك الوقت)، قَالَ: 

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْعَامَّةَ لا تَحْتَمَلُ هَذَا، وَسِيَّمَا أَهْلُ خُرَاسَانَ، وَلا تَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ نَفْرَةٌ، وإِذَا كَانَتْ لَمْ تَدْرِ مَا عَاقِبَتُهَا. 

وَالرَّأْيُ: أَنْ تَدَعَ النَّاسَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلا تُظْهِرْ لَهُمْ أَنَّكَ تَمِيلُ إِلَى فِرْقَةٍ مِنِ الْفِرَقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ فِي السِّياسَةِ، وَأَحْرَى فِي التَّدْبِيرِ.

قَالَ: فَرَكَنَ الْمَأْمُونُ إِلَى قَوْلِهِ. 

فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَامَةُ (ابنُ أَشْرَس، النُّمَيْريُّ المعتزليُّ القَدَريُّ، وَكَانَ زعيمَ الْقَدَرِيَّة فى زمَانِ الْمَأْمُونِ والمعتصمِ والواثقِ وَقيل: إنه هُوَ الذى أغْوَى الْمَأْمُونَ بَأنْ دَعَاهُ إلى الاعتزالِ، وما ترتَّب على ذلك من فتنةِ خلْقِ القرآنِ التي عانت الأمةُ وَيْلاتِها بضعَ عشرةَ سنة) قَالَ: يَا ثُمَامَةُ، قَدْ عَلِمْتَ مَا كُنَّا دَبَّرْنَاهُ فِي مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ عَارَضَنَا رَأْيٌ أَصَلَحُ فِي تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَأَبْقَى ذِكْرًا فِي الْعَامَّةِ.

ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ خَوَّفَهُ إِيَّاهَا، وَأَخْبَرَهُ بِنُفُورِهِ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ. 

فَقَالَ ثُمَامَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْعَامَّةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهَا يَحْيَى؟!. 

وَاللَّهِ لَوْ وَجَّهَتَ إِنْسَانًا عَلَى عَاتِقِهِ سَوَادٌ (شعارُ الدولة العباسية) لَسَاقَ إِلَيْكَ بِعَصَاه عَشَرَةَ آلافٍ مِنْهَا.

وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَضِيَ اللُّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ سَوَّاهَا بِالأَنْعَامِ، حَتَّى جَعَلَهُمْ أَضَلَّ مِنْهَا سَبِيلا.

وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ مَرَرْتُ مُنْذُ أَيَّامٍ فِي شَارِعِ الْخُلْدِ وَأَنَا أُرِيدُ الدَّارَ، فَإِذَا إِنْسَانٌ قَدْ بَسَطَ كِسَاءَهُ وَأَلْقَى عَلَيْهِ أَدْوِيَةً، وَهُوَ قَائِمٌ يُنَادِي عَلَيْهَا: هَذَا الدَوَاءُ لِبَيَاضِ الْعَيْنِ وَالْغَشَاوَةِ وَضَعْفِ الْبَصَرِ، وَإِنَّ إِحْدَى عَيْنَيْهِ لَمَطْمُوسَةٌ، وَالأُخْرَى لَمُوشِكَةٌ. وَالنَّاسُ قَدِ انْثَالُوا عَلَيْهِ، وَأَجْفَلُوا إِلَيْهِ، يَسْتَوْصِفُونَهُ، فَنَزَلْتُ عَنْ دَابَّتِي، وَدَخَلْتُ فِي غِمَارِ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ، فَقُلْتُ: يَا هَذَا، عَيْنَاكَ أَحْوَجُ مِنْ هَذَهِ الأَعْيُنِ إِلَى الْعِلاجِ، وَأَنَتَ تَصِفُ هَذَا الدَّواءَ، وَتُخْبِرُ أَنَّهُ شِفَاءٌ لِوَجِعِ الأَعْيُنِ، فَلِمَ لا تَسْتَعْمِلُهُ؟ 

فَقَالَ: أَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، مَا مَرَّ بِي شَيخٌ أَجْهَلُ مِنْكَ.

قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: يَا جَاهِلُ، أَتَدْرِي أَيْنَ اشْتكَتْ عَيْنِي؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: بِمِصْرَ. 

قَالَ: فَأَقْبَلَتْ عَلَيَّ الْجَمَاعَةُ، فَقَالُوا: صَدَقَ الرَّجُلُ، أَنْتَ جَاهِلٌ، وَهَمُّوا بِي. 

فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ عَيْنَهُ اشْتكَتْ بِمِصْرَ.

قَالَ: فَمَا تَخَلَّصْتُ مِنْهُمْ إِلا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ. 

قَالَ: فَضَحِكَ الْمَأْمُونُ، وَقَالَ: مَاذَا لَقِيَت الْعَامَّةُ مِنْكَ؟ قَالَ: الَّذِي لَقِيَتْ مِنَ اللَّهِ مِنْ سُوءِ الثَّنَاءِ، وَقُبْح الذِّكْرِ أَكْثَرُ، قَالَ: أَجَلْ.

هذه قصةٌ تكشفُ بجلاءٍ صورةً من صورِ ما يجري في بلاطِ الحُكْمِ، فيما يتعلَّقُ بنظرةِ أهلِ السلطةِ لعموم الشعب، وأثرَ بِطانةِ الحاكمِ في القراراتِ الهامَّة التي يتخِذُها.

(2) أنواع البطانة القريبة من الحاكم

 اختصر النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الأمرَ في حديثه الصحيحِ الذي قال فيه: «مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلَّا لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ».

وفي حديثٍ آخرَ صحيح: «مَا مِنْ وَالٍ إِلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالًا، فَمَنْ وُقِيَ شَرَّهَا فَقَدْ وُقِيَ، وَهُوَ مِنَ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا».

وفي حديثٍ آخرَ صحيح: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً إِلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ المُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالًا، وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ».

فهما بطانتان لا ثالثةَ لهما، والحاكمُ من البطانةِ الغالبةِ عليه والمؤثرةِ في قراره

: إما بطانةٌ صالحةٌ (مثل القاضي العظيم يحيى بن أكثم) تخشى اللهَ أكثرَ من خشيتها للحاكم، وتحرصُ على انتظام وقوة الأمة، ولا تبادرُ في هَوَى الحكام، بل تهتمُّ بإحقاقِ الحقِّ وبّسْطِ العّدْلِ واحترامِ القيادةِ للشعبِ، ولا تتجاوزُ مُحْكَماتِ الشرعِ ومقتضياتِ الحِكْمة، كأسسٍ لا بُدَّ منها لاستقرارِ الأمةِ وحمايةِ نظامِ الدولة.

وإما بطانةُ سوءٍ (مثل المعتزلي الضال ثُمامة بن أشرس) لا تذكرُ اللهَ إلا قليلا، ولا تُقَصِّرُ في خداعِ الحاكمِ ومنافقتِه بالإسراعِ في أهوائه، ولا تتردَّدُ في الكذبِ والاختلاقِ لتدعيمِ رأيها، وتنظرُ إلى الشعبِ باعتبارِه مجموعةً من الرِّعاعِ بَادِي الرأيِ الذين لا حقوقَ لهم، ويسهُلُ خداعُهم، ولا ينبغي الاهتمامُ برضاهم أو سخطِهم، فعَصَا الأمنِ وصنائعُ الإعلامِ كفيلةٌ بِسَوْقِهِم إلى بيتِ الطاعةِ راغبين وراهبين ومُغَيَّبين!.

(3) أثر بطانة الخير ومعاناتهم

إن غلبتْ على الحاكم بطانتُه من أهلِ الخير فذلك من فضلِ الله عليه وعلى الناس، وفي الحديث: «مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ عَمَلًا فَأَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَزِيرًا صَالِحًا، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَّرَهُ أَعَانَهُ».

وهذا ما فعله المأمونُ الذي جنَّب الأمةَ فتنةً عظيمةً حين استجابَ لنصيحةِ يحيى بنِ أكثمَ الذي نفَّذ أمرَ اللهِ ورسوله لأهلِ العلم بقولِ الحقِّ وصِدْقِ نصيحةِ الوُلاة، فقد عدَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أسباب رضا الله: «وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وُلَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمْرَكُمْ».

ولا شكَّ أنَّ هذا النوعَ من الناصحين المخلصين الأُمَناءِ لا يجدُ قبولًا سهلًا وتجاوبًا مُريحًا من الحكامِ عامةً ومن المستبدين خاصةً، لأنهم يستثقِلون مَنْ يُذَكِّرُهم بالحقِّ ولا يسيرُ في أهوائِهم، بل إنه يلقى حربًا ضَرُوسًا من بطانةِ السوءِ والنِّفاقِ التي تريدُ إبعادَه عن موقع التأثيرِ ليصفوَ لها الجوُّ، فضلًا عن الجهودِ الضخمةِ من أعداءِ الأمةِ لإبعادِ هذا الصنفِ عن موقعِ التأثيرِ من أجلِ إضعافِ الأمةِ والحاكم. 

وفي هذا يقول خالدُ بنُ صفوان (أحد الفصحاء المقربين من الخلفاء في الدولتين الأموية والعباسية): «مَنْ صَحِبَ السُّلْطانَ بالصِّحَّةِ والنَّصيحَةِ كان أكثرَ عَدُوًّا ممَّن صحِبه بالغِشِّ والخيانةِ؛ لأنه يجتمعُ على الناصحِ: عدوُّ السلطانِ، وصديقُه، بالعداوةِ والحسَدِ، فصديقُ السلطانِ يُنافسُه في مرتبتِه، وعدوُّه يبغضُه لنصيحتِه».

فإذا أراد اللهُ بحاكمٍ خيرًا قرَّب منه مثلَ هذه البطانةِ الصالحةِ، فسدَّدتْ رأيَه، وسَدَّتْ خَللَه، وضبطت انحرافَه، وحبَّبَتْه إلى الشعبِ، وقرَّبَتْه من الأمةِ، فأطاعه الناسُ حُبًّا وطوْعًا لا تملُّقًا ونفاقًا، وهذا أعظمُ سبب لانتظام الأحوال واستقرار النظام.

ومن ذلك: نصيحةُ رجاء بن حَيْوَةَ لسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ حِينَ حَضَرَهُ المَوْت، فقَالَ لِرَجَاءَ: «مَنْ تَرَى لِهَذَا الأَمْرِ؟

فَقَالَ رَجَاء: اتَّقِ الله؛ فَإِنَّكَ قَادِمٌ عَلَى اللهِ جَلَّ جَلاَلهُ وَسَائِلُكَ عَن هَذَا الأَمْرِ وَمَا صَنَعْتَ فِيه. 

قَالَ سُلَيْمَان: فَمَنْ تَرَى؟

قال: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز. 

قَال: كَيْفَ أَصْنَعُ بِعَهْدِ عَبْدِ المَلِكِ إِلىَ الْوَلِيدِ وَإِلَيَّ في ابْنيْ عَاتِكَةَ (يقصد أخويه يزيد وهشام) أَيُّهُمَا بَقِيَ؟ 

قال: تَجْعَلُهُ مِنْ بَعْدِه.

قَالَ أَصَبْت، جِئْني بِصَحِيفَة. 

فَكَتَبَ عَهْدَ عُمَرَ رَحِمَهُ اللهُ وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ مِنْ بَعْد.

وقد كانت استجابةُ سليمان لرجاء أعظمَ حسناتِه وأعظمَ هديةٍ قدمها للأمة، فأي خير كبير أصاب الأمة بنصيحة رجاء رحمه الله!.

فماذا لو غلبت بطانة السوء على الحاكم؟ تابع المقال التالي بإذن الله.