منذ صغرها كانت تلهو بدميتها.. على الأرض بحجرتها، تفضي لها ما تخيلته من حاجتها، وتتفنن في خدمتها، وكأنها في الحقيقة ابنتها، إنها تزرع بها ومعها أمومتها، وارتدت من ملابسها ما أظهر براءتها، وتخيَّرت كلماتٍ أفصحت عن رقتها.. معجزة.

 

وكبرت مع الأيام وكبرت معها حلاوتها، فحلمت إبَّان طفولتها بفتى وسيمٍ يدخل دنياها، وينتشلها من وحدتها، ويؤنس غربتها، حتى قبل أن تظهر لها أنوثتها، وقبل أن تبدأ مراهقتها.. معجزة.

 

عندما غلبتها مظاهر أنوثتها.. دقَّ قلبها لمَن ظنَّت أنه حبيب عمرها.. أحبته حُبَّ المراهقة، وكتمت في صدرها حبها، لم تُبح لأحدٍ بدفين سرها، فقد منعها حياؤها، وتمنَّت أن يطرق عليها بابها خاطبًا لها من أبيها وأهلها، لم يكن يومًا الاختيار لها، بل الرفض أو القبول من نصيبها، سكتت وسكنت على النيران التي ماجت بفؤادها.. معجزة.

 

ظلت شهورًا وأعوامًا تدعو ربها، في يومها كما في ليلها.. أن يأتيها مَن في بالها.. العريس المنتظر الذي داعب خيالها.. ربما جاء عاجلاً أو آجلاً لها.. فستحتسب عند الله تأخُّر ميعاد رزقها.. وستزيد من دعائها ورجائها.. معجزة.

 

جاءها عريسٌ تلو آخر ممن لا يناسبونها.. فاستقبلتهم بما هم أهله من رفضها... فلما أتاها من كانت ترجوه زوجًا لها.. انفرجت أساريرها، واستخارت ربها، وأطاعت أبيها وأمها، وأدخلت السرور على أهلها وأقربائها، وقبلته بعدما دقَّ ورقَّ له قلبها، وقدَّم لها حليها وذهبها فشبكها.. وسرعان ما كان كتبُ كتابها، وارتدت بجواره ما كانت تحلم به طويلاً.. طرحتها وفستانها، وأصبح واقعًا ما كان يومًا حلمًا في خيالها.. إنها الآن ليلة زفافها.. معجزة.

 

صارت زوجةً سعيدةً بزوجها، تخدمه بيدها وقلبها وعينها، لا تطلب إلا رضاه ودعاؤه لها.. معجزة.

 

وبعد قليلٍ تكوَّن بداخلها جنينها، ومكث يرتع في أحشائها.. تسعة شهور من عمرها.. يأخذ غذاءه من دمائها، ويُلقي بفضلاته في جوفها.. كم أكلت له وليس لها.. واستراحت من أجله وليس لنفسها.. ولم تأخذ دواءً رغم مرضها؛ خوفًا من أن يضره وهو شفاؤها.. وكم أذهبها إلى طبيبها، راجيةً أن تراه متعافيًا بعينها، وهو يتفنن في إيلامها.. بركلاتٍ يظهرها أنينها، وعندما حان وقت وضعها.. أسمعتَ الكون صراخها.. فخرج الوليد مربوطًا بها، بحبلٍ موصولٍ بجسدها، وقُطع الحبل وانتهت آلامها، بنوعٍ جديدٍ من آلامها.. فالتقم الصغير ثديها، وانساب اللبن من رُوحها؛ لتغذيه وتغذي نفسها.. لقد أمست من اليوم أمًّا مثل أمها.. معجزة.

 

معجزة؛ لأنها رغم آلام حملها، كررت آلامها، وعددت حملها، وهنًا على وهن، ووضعت بطلقٍ بعد طلق، وأرضعت عامًا بعد عام، لتكون أنت الأب.. يحمل نتاجها الثمين اسمك.. ويستمر بهم لقبك.

 

معجزة؛ لأنها التي طهت طعامك وأراحت منامك، واعتنت بأولادك، واهتمت بثيابك، وأسكنت جنانك، وصانت مالك، وكانت حلالك.

 

معجزة؛ لأن خالقها جلَّ وعلا صممها لتكون تحت الطلب "Stand by".. صممها لتلبي نداء صغيرها فورًا إذا أراد منها مساعدةً في استذكار دروسه.. صممها لتغير جدول أعمالها حينما تلحظ ابنتها وقد ارتفعت درجة حرارتها لتمكث بجوارها تخفف عنها آلامها.. صممها لتهب بتجهيز الطعام لزوجها حينما يدخل بيته بعد عناء عمل تاركةً ما بيدها.. صممها لتنهض مسرعةً لتنجد وليدها من صراخه طالبًا رضعته.. صممها لتسرع دون تأخير لتنظيف صغيرتها حينما ابتلت ثيابها.. صممها كي لا تتأخر برهةً عن تلبية أي نداء يطلب منها العون والمساعدة سواء من قريب أو غريب.. حقًّا لأنها تحت الطلب فهي معجزة.

 

إنها لا تمل الخدمات الراتبة الآنية والأعمال الروتينية الدءوبة لعشرات السنوات.. معجزة.

 

فكل يوم تعد الطعام لخمسة أفراد أو ستة هم أسرتها.. فأعدت في 25 عامًا ما يقرب من 150000 (مائة وخمسين ألف) وجبة!! أي مطعم هذا؟!! وأي طاهٍ ذلك ؟!!.. معجزة.

 

كل يوم تقوم بغسل الملابس ونشرها وطيها أو كيها لها وله ولهم لمدة 25 عامًا، فكان الحصاد أطنانًا من الملابس بين غسلٍ ونشرٍ وطي وكي.. معجزة.

 

كل يوم تُوقظ صغارها لأداء صلاة الفجر، ثم تذهب إلى مطبخها وتعد لهم وجبة الإفطار، وتسرع إليهم لتعاونهم في تجهيز وارتداء ثيابهم، وتعد لهم ما سيتناولونه من طعام بمدارسهم، وتودعهم أو توصلهم إلى مدارسهم، وتغلق عليها بابها لتبدأ وحدها في جمع ما على الأرض؛ مما خلعوا من ثيابهم، فهذا جورب وذاك قميص وتلك ملابس داخلية، وترتب الفرش، وتكنس الأرض، وتنفض التراب عن الأثاث، وتعيد ترتيب ما تركوه بالحمام من توكة شعر وخاتم وفرشاة أسنان ومشط شعر و.... و... ثم تتذكر أنها لم تتناول إفطارها فتفطر أو لا تفطر، وتغسل الملابس وتنشرها وتجمع غيرها لتكويها، ثم تتجه إلى مطبخها لتعد طعام الغذاء في ساعةٍ أو ساعتين، وقد تستريح قليلاً أو لا تستريح، ثم تتأهب لاستقبال الصغار العائدين من مدارسهم أو تذهب لتأتي بهم، وتجتهد وتجهد معهم ليغيروا ملابسهم ويغتسلوا من غبار اليوم وتضع لهم الغذاء وتخوض جولة تلو أخرى ليتناولوه.. معجزة.

 

وانتهت معركة تناول الطعام وبدأت معركة الاستذكار، وميدانها ليس جبهة واحدة ولكن في عددٍ من الجبهات تساوي أعداد البنين والبنات مضروبًا في عدد المقررات الدراسية.. وعندما يحمى الوطيس يأتي الزوج من العمل خاوي البطن متعب الجسد يبحث عن لقمة وسرير فتهب لتلبي له احتياجاته، لتأخذ هدنة من معركة الأولاد المديدة بمعركة الزوج الجديدة.. فإذا ما امتلأت بطن زوجها وسكن جسده بذلت جهدًا حتى تعيد للصغار تركيزهم في دروسهم تارة أخرى.. معجزة.

 

ومضى اليوم سريعًا في إيقاعه بطيئًا في ثقله، وصغارها يتناوشونها بطلباتهم وأهوائهم فهذا يريد مشاهدة برنامج فضائي وذاك يريد اللعب وهذه تريد شراء ملابس جديدة، فحاولت أن تريح الجميع ولو على حساب راحتها، فإنها ترى سعادتها في إسعادهم وراحتها في بسمتهم.. معجزة.
أعدت وجبة عشائهم وأطعمتهم ثم أنامتهم فسكنت أجسادهم وسكن وراءها على الفور وجدانها وجفنها.. معجزة.

 

معجزة تُضحي لترى النجاح في غيرها.. في زوجها وأولادها.. فذاك نجاحها.. معجزة تشقى لتسمع ضحكات غيرها.. معجزة تذوب ليكبر غيرها.. معجزة تبذل ولا تطلب أجرها.. معجزة تُضحي حتى يفنى عمرها.

 

معجزة لأنها ماهرة في ما لا يجيده الرجل، مبادرة فيما لا يقدر عليه الرجل، فاعلة ما لا يقوى على فعله الرجل، مؤهلة لأداء ما يعجز عن عمله الرجل.

 

إنها معجزة لأنك.. أيها الزوج الكريم.. لم ولن تستطيع أن تفعل مطلقًا مثلها.. معجزة تكتمل حياتك بها، ويستقر قلبك بجوارها، ولا يستريح بالك إلا معها.

 

إنها معجزة تدل على عظمة الخالق وحسن تدبيره لهذا الكون وحكمة توزيعه للوظائف والمهام بين شقي الإنسان؛ الرجل والمرأة.