لم تصرفه أعمال الجهاد عن ترقية الشئون الحضارية للدولة، انتصر للمذهب السني وقاد المسلمين لدخول بيت المقدس دون إراقة دماء.

 عامل الصليبيين بعد استسلامهم معاملة طيبة، وقاد المسلمين لدخول بيت المقدس دون إراقة دماء وذلك على العكس مما ارتكبه الصليبيون عند استيلائهم على المدينة سنة (492هـ = 1099م) من الفتك بأهلها المسلمين العُزَّل وقتل الألوف منهم، كما اشتهر بسماحته وجنوحه إلى السلم؛ حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، لكن صورة الفارس المحارب له قد طغت على الجوانب الأخرى من شخصيته، فأخفت بعضًا من ملامحها المشرقة وقسماتها المضيئة.

 - إنه البطل المجاهد صلاح الدين الذي نقلب هذه السطور من سيرته، عبر المحاور التالية:

 

-----------

• نسبه ونشأته:
هو أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي الملقب بالملك الناصر صلاح الدين، وُلد "صلاح الدين" سنة 532هـ بقلعة تكريت لما كان أبوه وعمه بها، واتفق أهل التاريخ على أن أباه وأهله من (دوين) وهي بلدة في آخر أذربيجان، وأنهم أكراد روادية، والروادية بطن من الهذبانية، وهي قبيلة كبيرة من الأكراد.

 

ولم يزل "صلاح الدين" تحت كنف أبيه حتى ترعرع، ولما ملك "نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي" دمشق لازم "نجم الدين أيوب" خدمته وكذلك ولده "صلاح الدين"، وكانت مخايل السعادة لائحة عليه والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة، و"نور الدين" يرى له ويؤثره، ومنه تعلم "صلاح الدين" طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد.

 

• في مصر:
شهدت السنوات الأخيرة من عمر الدولة الفاطمية في مصر صراعًا محمومًا بين "شاور" و"ضرغام" على منصب الوزارة، ولم ينجح أي منهما في حسم الصراع لمصلحته، والانفراد بالمنصب الكبير، فاستعان كل منهما بقوة خارجية تعينه على تحقيق هدفه؛ فاستعان "ضرغام" بالصليبيين، واستعان الآخر بـ"نور الدين محمود" سلطان حلب، فلبَّى الفريقان الدعوة، وبدأ سباق بينهما لاستغلال هذا الصراع كلٌّ لصالحه، والاستيلاء على مصر ذات الأهمية البالغة لهما في بسط نفوذهما وسلطانهما في تلك المنطقة.

 

وانتهى الصراع بالقضاء على الوزيرين المتنافسين سنة (564هـ = 1168م)، وتولى "أسد الدين شيركوه" قائد حملة "نور الدين" منصب الوزارة للخليفة العاضد الفاطمي، ثم لم يلبث أن تُوفي "شيركوه" فخلفه في الوزارة ابن أخيه "صلاح الدين" الذي كان في الثانية والثلاثين من عمره.

 

يقول "ابن شداد": قال لي السلطان "صلاح الدين": كنت أكره الناس للخروج في هذه الدفعة وما خرجت مع عمي باختياري وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ (البقرة:216)، وذكر المؤرخون أن "أسد الدين" لما مات استقرت الأمور بعده للسلطان "صلاح الدين يوسف بن أيوب"، فبذل الأموال وملك قلوب الرجال وهانت عنده الدنيا فملكها وشكر نعمة الله تعالى عليه، وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص بقميص الجد والاجتهاد؛ استعدادًا لمواجهات مستمرة مع الصليبيين.

 

• الوحدة الإسلامية:
قال "ابن شداد": لم يزل "صلاح الدين" على قدم بسْط العدل ونشر الإحسان وإفاضة الإنعام على الناس إلى سنة 568هـ، فعند ذلك خرج بالعسكر يريد بلاد الكرك والشوبك، وإنما بدأ بها؛ لأنها كانت أقرب إليه وكانت في الطريق تمنع من يقصد الديار المصرية، ثم انتهز فرصة استنجاد أحد أمراء دمشق به، فسار إلى دمشق، وتمكن من السيطرة عليها دون قتال سنة (570هـ = 1174م)، ثم على حمص وحماة وبعلبك، ثم أعلن استقلاله عن "نور الدين محمود" وتبعيته للخلافة العباسية التي منحته لقب سلطان، وأصبح حاكمًا على مصر، ثم عاود حملته على الشام سنة (578هـ = 1182م)، ونجح في ضم حلب وبعض المدن الشامية، وأصبح شمال الشام كله تحت سيطرته، وتعهَّد حاكم الموصل بإرسال مساعدات حربية إذا طلب منه ذلك. واستغرق هذا العمل الشاق من أجل توحيد الجبهة الإسلامية أكثر من عشر سنوات، وهي الفترة من سنة (570هـ = 1174م) إلى سنة (582هـ = 1186م)، وهي فترة لم يتفرغ فيها تمامًا لحرب الصليبيين.

 

• الحروب الصليبية:
في سنة 572هـ استقرت الأمور بمصر والشام للدولة الأيوبية، واطمأن الناصر "صلاح الدين" إلى جبهته الداخلية، ووثق تمامًا في قوتها وتماسكها، فانتقل إلى الخطوة الأخرى، وانصرف بكل قوته وطاقته إلى قتال الصليبيين، وخاض معهم سلسلة من المعارك كُلِّلت بالنصر، ثم توَّج انتصاراته الرائعة عليهم في معركة حطين المباركة يوم السبت 14 ربيع الآخر سنة 583هـ في وسط نهار الجمعة، وكان "صلاح الدين" كثيرًا ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة؛ تبركًا بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر سنة (583هـ = 1187م)، وكانت معركة هائلة أُسر فيها ملك بيت المقدس و"أرناط" حاكم حصن الكرك، وغيرهما من كبار قادة الصليبيين.
وترتب على هذا النصر العظيم، أن تهاوت المدن والقلاع الصليبية، وتساقطت في يد "صلاح الدين"؛ فاستسلمت قلعة طبرية، وسقطت عكا، وقيسارية، ونابلس، وأرسوف، ويافا وبيروت وغيرها، وأصبح الطريق ممهدًا لأن يُفتح بيت المقدس، فحاصر المدينة المقدسة، حتى استسلمت وطلبت الصلح، ودخل "صلاح الدين" المدينة السليبة في (27 من رجب 583هـ = 2 من أكتوبر 1187م)، وكان يومًا مشهودًا في التاريخ الإسلامي.

 

ارتجت أوروبا لاسترداد المسلمين لمدينتهم المقدسة، وتعالت صيحات قادتهم للأخذ بالثأر والانتقام من المسلمين، فأرسلت حملة من أقوى حملاتهم الصليبية وأكثرها عددًا وعتادًا، وقد تألفت من ثلاثة جيوش ألمانية وفرنسية وإنجليزية، نجح جيشان منها في الوصول إلى موقع الأحداث، في حين غرق ملك ألمانيا في أثناء عبوره نهرًا بآسيا الصغرى، وتمزق شمل جيشه.


استطاع الجيش الفرنسي بقيادة "فيليب أغسطس" من أخذ مدينة عكا من المسلمين، واستولى نظيره الإنجليزي بقيادة "ريتشارد قلب الأسد" من الاستيلاء على ساحل فلسطين من "صور" إلى "حيفا"؛ تمهيدًا لاستعادة بيت المقدس، لكنه فشل في ذلك، واضطر إلى طلب الصلح، فعُقد صلح بين الطرفين، عُرف بصلح الرملة في (22 من شعبان 588هـ = 2 من سبتمبر 1192م)، ولحق "ريتشارد" بملك فرنسا عائدًا إلى بلاده.

 

وكان ممن سلم من مقدميهم الملك "جفري" وأخوه والبرنس "أرناط" صاحب الكرك والشوبك و"ابن الهنفري" وابن صاحبة طبرية ومقدم الديوية وصاحب جبيل ومقدم الأسبتار.
قال "ابن شداد": ولقد حُكي لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصًا واحدًا معه نيف وثلاثون أسيرًا قد ربطهم بوتد خيمة لما وقع عليهم من الخذلان.

 

وأما "أرناط" فإن "صلاح الدين" كان قد نذر أنه إن ظفر به قتله، وذلك لأنه كان قد عبر به عند الشوبك قوم من مصر في حال الصلح فغدر بهم وقتلهم، فناشدوه الصلح الذي بينه وبين المسلمين فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي- صلى الله عليه وسلم-، وبلغ السلطان فحملته حميته ودينه على أن يهدر دمه.

 

• تحرير القدس
ورحل "صلاح الدين" طالبًا عكا فكان نزوله عليها يوم الأربعاء وقاتل الصليبيين بها بكرة يوم الخميس مستهل جمادى الأولى سنة 583هـ فأخذها واستنقذ من كان بها من أسارى المسلمين وكانوا أكثر من أربعة آلاف نفس، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع؛ لأنها كانت مظنة التجار وتفرقت العساكر في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة، فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة.

 

قال "ابن شداد": لما تسلم "صلاح الدين" عسقلان والأماكن المحيطة بالقدس شمر عن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك، فسار نحوه معتمدًا على الله تعالى مفوضًا أمره إليه، وكان نزوله عليه في يوم الأحد الخامس عشر من رجب سنة 583هـ، ولمَّا رأى أعداء الله الصليبيون ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع له عنهم وظهرت لهم إمارات فتح المدينة وظهور المسلمين عليهم، وكان قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم وحماتهم من القتل والأسر وعلى حصونهم من التخريب والهدم، وتحققوا أنهم صائرون إلى ما صار أولئك إليه فاستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان واستقرت الأمور بالمراسلة من الطائفتين، وكان تسلمه في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم، فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب كيف يسّر الله تعالى عوده إلى المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم، وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى، وكان فتحه عظيمًا شهده من أهل العلم خلق كثير؛ وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسره الله تعالى على يده من فتوح الساحل وقصْده القدس، قصده العلماء من مصر والشام بحيث لم يتخلف أحد منهم، وارتفعت الأصوات بالضجيج بالدعاء والتهليل والتكبير، وصُليت فيه الجمعة يوم فتحه وخطب القاضي "محيي الدين محمد بن علي" المعروف بـ"ابن الزكي".

 

وأنشد "الرشيد النابلسي" الشاعر المشهور، السلطان "صلاح الدين" قصيدته التي أولها:
هذا الذي كانت الآمال تنتظر          فليوفِ لله أقوام بما نذروا

 وهي طويلة تزيد على مائة بيت يمدحه ويهنيه بالفتح.


 يقول "بهاء الدين بن شداد" في السيرة الصلاحية: نُكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان شكلاً عظيمًا، ونصر الله الإسلام على يده نصرًا عزيزًا، وكان الإفرنج قد استولوا على القدس سنة 492هـ ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم "صلاح الدين"، وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرين دينارًا وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، وعن كل صغير ذكر أو أنثى دينارًا واحدًا فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أُخذ أسيرًا وأُفرج عمن كان بالقدس من أسرى المسلمين وكانوا خلقًا عظيمًا.

 

• الحضارة في عهده:
يظن الكثير من الناس أن أعمال الجهاد شغلت "صلاح الدين" عن الانصراف إلى شئون الدولة الأخرى الحضارية، ولعل صورة الفارس المحارب "صلاح الدين" قد طغت على الجوانب الأخرى من شخصيته، فأخفت بعضًا من ملامحها المشرقة وقسماتها المضيئة.

 

وأول عمل يلقانا من أعمال "صلاح الدين" هو دعمه للمذهب السني؛ بإنشائه مدرستين لتدريس فقه أهل السنة، هما المدرسة الناصرية لتدريس الفقه الشافعي، والمدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي، وسُميت بذلك؛ لأنها كانت توزع على أساتذتها ومعيديها وتلاميذها قمحًا، كانت تغله أرض موقوفة عليها، وفي الوقت نفسه قصر تولي مناصب القضاء على أصحاب المذهب الشافعي، فكان ذلك سببًا في انتشار المذهب في مصر وما يتبعها من أقاليم، ونجح مع القاضي الفاضل في ازدهار ديوان الإنشاء في مصر، وهذا الديوان يشبه في وظيفته وزارة الخارجية.

 

وعُني "صلاح الدين" ببناء الأسوار والاستحكامات والقلاع، ومن أشهر هذه الآثار "قلعة الجبل"؛ لتكون مقرًّا لحكومته، ومعقلاً لجيشه، وحصنًا منيعًا يمكِّنه من الدفاع عن القاهرة، غير أن "صلاح الدين" لم يتمكن من إتمام تشييدها في عهده، وظلت القلعة مقرًا لدواوين الحكم في مصر حتى وقت قريب، وأحاط "صلاح الدين" الفسطاط والعسكر وأطلال القلاع والقاهرة، أحاطها جميعًا بسور طوله 15كم، وعرضه ثلاثة أمتار، وتتخلله الأبراج، ولا تزال بقاياه قائمة حتى اليوم في جهات متفرقة.

 

واستقرت النظم الإدارية؛ فكان السلطان يرأس الحكومة المركزية في العاصمة، يليه نائب السلطان؛ وهو المنصب الذي استحدثه "صلاح الدين" لينوب عنه في أثناء غيابه يليه الوزير، وكان يقوم بتنفيذ سياسات الدولة، ويلي ذلك الدواوين، مثل: "ديوان النظر" الذي يشرف على الشئون المالية، و"ديوان الإنشاء" ويختص بالمراسلات والأعمال الكتابية، و"ديوان الجيش" ويختص بالإشراف على شئون الجيش، و"ديوان الأسطول" الذي عُني به "صلاح الدين" عناية فائقة لمواجهة الصليبيين، الذين كانوا يستخدمون البحر في هجومهم على البلاد الإسلامية، وأفرد له ميزانية خاصة، وعهد به إلى أخيه العادل، وقد اشترك الأسطول في عدة معارك بحرية في سواحل مصر والشام، منها صدِّه لحملة "أرناط" على مكة والمدينة.

 

واشتهر "صلاح الدين" بسماحته وجنوحه إلى السلم؛ حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، فقد عامل الصليبيين بعد استسلام المدينة المقدسة معاملة طيبة، وأبدى تسامحًا ظاهرًا في تحصيل الفداء من أهلها، وكان دخول المسلمين بيت المقدس دون إراقة دماء وارتكاب آثام صفحة مشرقة ناصعة، تُناقض تمامًا ما ارتكبه الفرنج الصليبيون عند استيلائهم على المدينة سنة (492هـ = 1099م) من الفتك بأهلها المسلمين العُزَّل وقتل الألوف منهم.

 

• وفاته:
في أثناء مفاوضات صلح الرملة التي جرت بين المسلمين والصليبيين مرض السلطان "صلاح الدين"، ولزم فراشه، ثم لقي ربَّه في (27 من صفر 589هـ = 4 من مارس 1193م)، وكان يوم وفاته يومًا لم يُصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين، وأنشد "ابن شداد" في آخر السيرة بيت "أبي تمام الطائي" وهو:
ثم انقضت تلك السنون      وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام


ولما تُوفِّي لم يخلف مالاً ولا عقارًا، ولم يوجد في خزائنه شيء من الذهب والفضة سوى دينار واحد، وسبعة وأربعين درهمًا، فكان ذلك دليلاً واضحًا على زهده وعفة نفسه وطهارة يده.