بعد القبض على قيادة التنظيم ومئات من الإخوان في أنحاء مصر بعد حادث المنشية، توجهت قوات كبيرة من رجال المباحث إلى منزل فضيلة المرشد العام، وتم القبض عليه وأودع السجن الحربي، وقُبض معه على أولاده جميعًا: أحمد أسامة (مهندس)، محمد المأمون (مستشار بمحكمة الاستئناف)، إسماعيل (محام) وابن عمه محمد سليمان الهضيبي، وأولاد شقيقه أمين الهضيبي وأيضًا نجيب الهضيبي، وابنته السيدة خالدة الهضيبي، وأحضروهم إلى السجن الحربي وقد عزلوا الأستاذ المرشد في مكان على حدة بعيدًا عن وجود أحد من الإخوان.

 

وفي مساء 29 من أكتوبر 1954م أطفئت الأنوار في السجن، وفُتحت بوابة سجن (4) ودخل جمع من الضباط وارتفعت أصوات.. ونودي على جميع المعتقلين أن ينزلوا إلى ساحة السجن، وحين اصطف الجميع في صمت ورهبة دوى صوت يقول: (أدينا جبنا الراجل بتاعكم) فرد عليه الأستاذ المرشد قائلاً: (أسد علينا وفي الحروب نعامة)، فهاج هذا الضابط وأمر فخلعوا عن الأستاذ المرشد ملابسه المدنية وألبسوه بدلة السجن، وأودعوه زنزانة بجوار حجرة التعذيب لتحطيم أعصابه زيادة في التنكيل.

 

وقد عمدت إدارة السجن إلى إرهاق المعتقلين، بفرض طوابير عنيفة طوال اليوم عدا فترة قصيرة وقت الظهيرة، وخُص الأستاذ الهضيبي فوق ذلك بمطاردة النوم من عينيه، فكان كلما هدأ من الليل أيقظته لسعات السياط على ظهور الإخوان وأقلقته صرخاتهم، وقد تعمد القوم أن يكون ميدان التعذيب خلف نافذة الزنزانة التي يرقد فيها الأستاذ حتى يذهب والإخوان إلى المحكمة مرهقين مكدودين فلا يصمدون أمام صولة الباطل.

 

يقول الأستاذ الهضيبي: لم أكن أنام خلال اليوم فضلاً عن الطوابير المرهقة سوى ساعة أو بعض الساعة حين يذهب الجلادون ليستريحوا، وأحسست بقوة عجيبة أثناء المحاكمة.

 

لم يبق رحمه الله في السجن في محنة 1954م فترة طويلة، فقد حُكم عليه بالإعدام، ثم خُفف الحكم إلى المؤبد، ورُحِّل من السجن الحربي إلى سجن مصر، وقد استقبله الإخوان استقبالاً مهيبًا؛ حيث انتظروه على أبواب الزنازين، وأخذوا يدعون له، ويشدون من أزره.

 

ولم يبق في السجن طويلاً؛ إذ في عام 1957م قررت لجنة من أطباء مسيحيين أن حالة المرشد تنذر بالهلاك؛ حيث أصيب بالذبحة، ثم أفرج عنه إفراجًا صحيًّا، وذهبوا به إلى منزله، فقام بسجن نفسه في بيته؛ إذ عاش بمشاعر المسجون، يشارك الإخوان المسجونين مشاعرهم.

 

وبعد فترة- قرابة العام- تحسنت صحته فأرسل خطابًا لجمال عبد الناصر يخبره أن صحته قد تحسنت، وأنه على استعداد للعودة إلى السجن مع باقي زملائه من الإخوان أعضاء مكتب الإرشاد لقضاء باقي العقوبة بين إخوانه المسجونين، لكن عبد الناصر خاف من بقائه بين الإخوان في السجون حتى لا يشد أزرهم، ويكون عونًا لهم على الثبات، فرفض هذا الطلب وأصد أوامره بتحديد إقامته في منزله مدى الحياة.

 

 إلى السجن من جديد:

بعدما احتوت سجون عبد الناصر جماعة الإخوان عن بكرة أبيها بعد أكتوبر 1954م، انفرد الزعيم بحكم مصر وقال للشعب: ليس لكم إله غيري، وظن الناس ألا عودة للإخوان وشُعبهم وجهادهم، وظن الإخوان أنفسهم- من داخل السجون- أن الإسلام نفسه قد تم استئصاله على يد الديكتاتور ونظامه العلماني التابع لأعداء الإسلام والمسلمين، وبينما الحال هكذا إذ تم الإعلان عن تنظيم جديد للإخوان بزعامة الشهيد سيد قطب.

 

لقد دارت رحى التعذيب، منذ أن أمسكوا بأول خيط للتنظيم، فلم تتوقف حتى هلك الزعيم، لقد علّقوا على أعواد المشانق ثلاثة من خيرة الإخوان، على رأسهم المفكر والأديب الشهيد سيد قطب، الذي أصر الطاغية- بحقده الأسود- على قتله، فلم تشفع عنده مكانته، ولم يشفع له مرضه، ولم تشفع الوساطات الكبيرة لإلغاء حكم الإعدام، فتم تنفيذ الحكم صباح يوم من أيام الشؤم على عبد الناصر وحاشيته، ومعه شهيدان آخران هما محمد يوسف هواش، وعبد الفتاح إسماعيل؛ وذلك يوم 29/8/1966م.

 

لقد صدرت أحكام ضد ما يقرب من 400 أخ، تراوحت بين المؤبد والثلاث سنوات لكن عندما حل موعد خروج أصحاب المدد الصغيرة، لم يخرج أحد، لقد استبقاهم عبد الناصر في سجونه، لعمى بصيرته، كي يدعو عليه وعلى أعوانه، حتى إذا أخذه الله صارت هذه الدعوات نارًا على روحه وجسده، حتى يبعثه الله يوم الحساب، فيقتص منه هؤلاء، كلٌ حسب ما ناله من التعذيب والإيذاء.

 

وكان نصيب الإمام الراحل أن حل بالسجن الحربي بعدما أعيد اعتقاله يوم 23 من أغسطس 1965م بالإسكندرية، وكان عمره آنئذ قرابة الثمانين، وما رحموا سنه وضعفه البدني، فأذاقوه ألوانًا من العذاب فما وهن لما أصابه ولا شكا ولا استكان، فقد قيدوه ووضعوه في مكان مظلم مغلق لا يرى النور ولا الهواء، ووضعوا معه في هذا المكان بضعة كلاب، وما أكثر الكلاب في السجن الحربي، تأكل معه وتنام معه وتقضي حاجتها معه، وكانت هذه الكلاب تزاحمه في مكانه الضيق، وملأته بفضلاتها القذرة النتنة حتى كانت الكلاب تعوي من ضيق المكان وقذارته، وتهبش باب الزنزانة المظلمة بمخالبها علها تُفتح فتخرج هذه الكلاب إلى النور والهواء والانطلاق، ولكن الجلادين كانوا أبعد عن إجابة رغباتها كبعدهم عن إجابة رغبة الآدميين المظلومين، وظلت الكلاب في هذا المكان نحو شهرين حتى أصيبت جميعًا بالشلل وأصبحت لا تستطيع أن تمشي على أرجلها الخلفية بل تجر نصفها الخلفي جرًا إذا مشت، وأصبحت رائحتها أشد من الجيفة النتنة.

 

ولما رأى الجلادون أن الإمام الراحل أقوى من ذلك كله لا يشكو ولا يموت أطلقوا سراح الكلاب فخرجت تجر أنصافها الخلفية جرًا عسيرًا ولم يطق الجند رائحتها فكانوا يجرونها بالحبال وأيديهم على أنوفهم وأمعائهم ورغم ذلك بقي الإمام الراحل راسخًا شامخًا أبيًّا كريمًا.

 

ثم تمخضت الجرائم التي جرت والتي أسموها تحقيقات، كان بطلها المظفر وفارسها المغوار هو العميد شمس بدران مدير مكتب المشير وحامي الدولة يساعده في معركته الكبيرة أركان حربه الهمام سعد عبد الكريم قائد المباحث الجنائية العسكرية، وحفنة من ضباط المباحث الجنائية من أشباه الرجال الذين يلهثون لإرضاء السادة ولو كانوا أبالسة أو شياطين وكلهم طمع في كلمة شكر أو رتبة أو مال.

 

تمخضت هذه التحقيقات الإجرامية عن شيء أسموه قضايا وتهمًا، ونُسب إلى الإمام الراحل أنه عمل على إحياء جماعة الإخوان المسلمين وتمويلها وحوكم أمام عدد من الضباط الذين اختبرهم جمال عبد الناصر تحت رئاسة الفريق الدجوي الذي سلم قطاع غزة إلى اليهود في عام 1956م وسلم نفسه وجيشه لهم وأذاع من إذاعتهم أن مصر تُحكم حكمًا دكتاتوريًّا وأن الجيش المصري لا يصلح للحرب وأن الشعب المصري لا يصلح للحياة.

 

هذا الضابط الخائن يكمل سلسلة خياناته ونذالته بمحاكمة الإخوان المسلمين ومرشدهم ويحكم على سبعة منهم بالإعدام، وبالأشغال الشاقة المؤبدة على عدد كبير منهم، ومن ضمن من يحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة، امرأتان كريمتان هما السيدة زينب الغزالي والسيدة حميدة قطب.

 

ويحكم على الإمام الهضيبي بالسجن ثلاث سنوات يقضيها في ليمان طرة صابرًا صامدًا، وتنتهي هذه المدة عام 1968م فلا يخرج إلى بيته ولكن ينقل إلى معتقل طرة ليمكث به حتى عام 1971م ولا يخرج إلا بعد أن يخرج جمال عبد الناصر من الدنيا، فقد كانت تعليماته ألا يخرج المرشد إلا إلى القبر.

 

ولكن شاءت إرادة الله وقضاؤه أن يسبقه هذا الظالم إلى نهايته وأن يشهد الإمام مصرعه ويقضي في الحياة حقبة بعده.