تلك مواقف للإمام المرشد حسن الهضيبي، أسد الدعوة وحارسها، أثناء سجنه، واجه خلالها الجلادين والطواغيت.. وهذه المواقف هي التي ثبتت الإخوان، وأنطقت ألسنتهم بقول الحق في وجه سلطان السوء، وخلدت تراثًا ثريًّا لشباب وشيوخ تلك الجماعة الصامدة، تتربى عليه الأجيال المقبلة ومن يأتون من بعدهم..

 المرشد العام العالمي:

دخل الهضيبي السجن، فسأله شمس بدران ليملأ استمارة الدخول:

- ما اسمك؟

- أجاب: حسن الهضيبي.

- ماذا تعمل؟

- أجاب: المرشد العام للإخوان المسلمين.

هبَّ بدران غاضبًا وصاح: ألم تُحلّ الدولة جماعة الإخوان المسلمين؟

- أجاب: بلي، حلتها في مصر، أما أنا فمرشد الإخوان في العالم.

 

السخرية من الطواغيت:

أوفد رجال الانقلاب الأستاذ محمد فؤاد جلال وزير الإرشاد القومي في ذلك العهد، وكان صديقًا للأستاذ الهضيبي ليساومه في شأن الإفراج عنه وعن الإخوان إذا أصدر المرشد بيانًا يعتذر فيه عن الأحداث لتهدأ الخواطر.. وكان رد الأستاذ الهضيبي بليغًا ومُسكتًا حين أفضى إلى الأستاذ جلال أنه لا مانع لديه من كتابة البيان، لكنه يرغب في تمكينه من اللقاء بالإخوة: عبد القادر عودة، الشيخ محمد فرغلي، يوسف طلعت، إبراهيم الطيب وغيرهم ممن نُفذ فيهم حكم الإعدام شنقًا قبل ذلك بشهور!!، فعاد فؤاد جلال يخبرهم بجواب الأستاذ الذي حمل السخرية من هذا العرض الفج، وأي سخرية أعظم من طلب الأستاذ مقابلة إخوة يعلم أنهم أفضوا إلى ربهم شهداء على يد هؤلاء الطواغيت؟!.. فهذا معناه: إذا خرج هؤلاء من قبورهم أكتب البيان المطلوب!!..

 

متعالٍ على المحنة:

يقول الأستاذ عمر التلمساني: "كان فضيلته موضع الدهشة والإعجاب من كل من في السجن.. ضباطًا.. وأطباءً.. ونزلاءً.. الكل كان يعجب كيف يبتسم هذا الرجل في وجه تلك المحنة!! كيف كان ينام قرير العين من بعد صلاة العشاء، حتى في أوقات الحر، ليتهجد. كيف كان يأكل العدس بالحصى.. أو الحصى بالعدس.. عدس محصوص، أم حصا معدس، وقل هذا عن الفول المسوس أو السوس المفول، وقل هذا عن اللحم الذي تأنف منه قطط السجن.

 

كل هذا كان سهلاً هينًا، وما كان يطلب إلا رضاء الله. وأسأله تعالى أن يكون قد وهبه إياه. فقد كان من دعائه: يا صاحب الفضل أهلني لرضاك.

 

كان صلب أسارير الوجه، لا تعرف أراضٍ هو أم غاضب، لا تستطيع أن تستشف دخيلته مما كان يبدو على أسارير وجهه، من لا يعرفه يظنه غاضبًا وهو راضٍ، ومن يعرفه يظنه راضيًا وهو غاضب، فهو متعالٍ على المحنة، لم يضعف أمامها، ولم يخفِ استعلاءه عليها".

 

السجن أحب إلي:

وموقف آخر.. للإمام الهضيبي.. يرويه الدكتور أحمد الملط يقول:

بعد أن تم تنفيذ حكم الإعدام في الشهداء الستة يتقدمهم الشهيد عبد القادر عودة.. والشهيد محمد فرغلي.. وقد خُفف الحكم عن الإمام الهضيبي واستُبدل به السجن المؤبد، وكان الإمام الهضيبي في زنزانة انفرادية وأصيب بذبحة قلبية.. وكان اليوم يوم جمعة وحمزة البسيوني غير موجود في السجن، وكان هناك بدلاً منه أحد الضباط وكان "مسيحيًّا" وعندما أصيب الإمام الهضيبي بالذبحة ذهب الحرس وأبلغوا الضابط "النوبتجي" ولم يكن في السجن أطباء غيري والدكتور عبد الفتاح شوقي، فأرسل الضابط إلينا في السجن الكبير فذهبنا إلى الإمام الهضيبي فوجدناه في أزمة حادة.. نوبة أزمة قلبية، ولما قسنا ضغطه وجدناه منخفضًا جدًّا.. ووجدنا نبضه ضعيفًا جدًّا وفي حالة قريبة من الموت.. فنصحنا بسرعة نقله إلى المستشفى وإلا سيحدث له أمر خطير.. قلنا هذا الكلام أمام الإمام الهضيبي وإذا به يبكي.. وهذه هي أول مرة أراه يبكي فيها ويقول:

إنني أرفض أن أنقل إلى المستشفي.. إنني أريد أن أموت هنا بين الرجال ولا أريد أن أمــوت بين أهلي في البيت.. أنا أعرف أن هذه خطوة للإفراج الصحي عني.. أنا لا أريد أن أخرج من هنا حتى يخرج آخر واحد من الإخوان وإن أردتم أن تخرجوني بالقوة فسوف أقاوم بكل ما فيَّ من قوة.. تركناه وخرجنا.. وقلت للضابط: لا بد من نقله إلى المستشفي وإلا ساءت حالته أكثر ونحن لا نملك من علاجه شيئًا لأننا معتقلون وليس في وسعنا أن نفعل له شيئًا.. وشاء الله أن يصرف عنه هذه الأزمة في هذا اليوم.. ولم يُنقل إلى المستشفى في حينها ولكنه نُقل إلى المستشفى بعد ذلك.

 

صبر وثبات:

يقول رفيق دربه عبد الحكيم عابدين:

"شعرت بوطأة الزمهرير ساعة أغلق على باب الزنزانة، رغم ما كنت أشعر به من قوة وشباب، وما كنت متجهزًا به من فُرش وأغطية، ورأيت مشاعري كلها مشدودة إلى الإمام؛ لما أعلم من مرضه وكبر سنه ومعاناته الروماتيزم، فعمدت إلى فروة ذات وبر كثيف ودفعت بها إلى الحارس ليسلمها له لقاء أجر أغراه، غير أن الحارس لم يلبث أن عاد وهي معه ليخبرني أن الهضيبي أمر بإعادتها؛ لأنه لا يشعر بأي برد، وبعد يومين قابلته فعاتبته فإذا به يقول لي: "لقد شفيت والله يا عبد الحكيم ببرد هذه الزنزانة من كل ما أثقلني من أمراض في غابر السنوات".

 

قدوة ومثل:

يقول الشاعر جمال فوزي: "لقد رأيت حمزة البسيوني مدير السجن الحربي في محنة 1954م يطلب من الأستاذ الهضيبي ألا يجري مع الإخوان، ولكن الأستاذ الهضيبي لم يطعه وأصر على أن يجري أمام الإخوان، لتشجيعهم ورفع روحهم المعنوية وإعطائهم من نفسه القدوة والمثل في الصبر والثبات والتحمل".

 

ويضيف فوزي: ".. أذكر يوم ترحيله من السجن الحربي إلى منزله، وكانت زنزانتي بجوار زنزانته، فسمعته يقول للضابط: "من قال لكم إني أريد أن أخرج من السجن؟، أنا آخر واحد يخرج، فليخرج كل الإخوان قبلي"، ووجه لهم ألفاظًا في غاية القسوة.

 

وفي الأعياد التي كانت تمر بنا ونحن في المعتقل، كان- رغم ظروفه الصحية- يقف ويعانق كل أخ، ويتحدث مع كل من يتصل به عن الصبر والثبات.

 

فأي الفريقين أحق بالأمن؟!

مرت بزنزانته إحدى لجان التحقيق، فوجدوه قائمًا يصلي، فلما انتهى قالوا له: هل يلزمك شيء؟، غير أنه نظر إليهم نظرة لها مغزاها ثم قال: "هذه الزنزانة أرحب من دنياكم كلها".. ودخل في صلاته من جديد.

 

خطر على الطغاة:

كان من عادة الأستاذ الهضيبي أن يجلس فـي الزنزانة واضعًا رجلاً على الأخرى- على عادة العرب- وفي أحد الأيام دخل عليه صلاح الدسوقي الششتاوي أركان حرب وزارة الداخلية عندما كان عبد الناصر وزير الداخلية، ومحافظ القاهرة فيما بعد، فبقى الأستاذ الهضيبي جالسًا كما هو.. لم يقم، ولم يغير جلسته مما ضايق صلاح الدسوقي الششتاوي رجل عبد الناصر فقال مخاطبًا الأستاذ الهضيبي: يعجبك ما أنت فيه؟ فأجاب الأستاذ الهضيبي: نعم، يعجبني ما أنا فيه.

 

فقال الششتاوي: هل يعجبك وضع هؤلاء؟ وأشار إلى الإخوان.

فقال الأستاذ الهضيبي: هل اشتكى أحد منهم لك؟! عندما يشتكي أحد منهم لك تعال وأخبرني.. وفي اليوم نفسه وبعد ساعات قليلة جاء أمر بنقل الأستاذ الهضيبي إلى السجن الحربي من جديد؛ لأنه مصدر تقوية للروح المعنوية للإخوان.

 

الاستهانة بالجلادين:

يقول  د. أحمد  العسال: "كان الإمام الهضيبي يشجع الإخوان بنظراته الثاقبة الثابتة أثناء طوابير العذاب اليومية.. وكان الطابور يستغرق ثلاث ساعات أو تزيد بين العذاب والسياط والسباب، ولم يكن يستثني من الجري والتعذيب الشيوخ ولا المرضى ولا العجزة، فقد كان الإمام فوق سن الستين ورغم ذلك كان يجري أمام كتائب الإخوان طوال الوقت دون كلل أو ضعف، وكان ذلك أكبر حافز للإخوان على الصبر والجلد.. بل لقد كان جميع الإخوان يلبسون ملابسهم الخاصة عدا المرشد أكرمه الله وأعزه وأفسح له في جنته- فقد أصرَّ حمزة البسيوني على أن يرتدي بدلة السجن الزرقاء، وكانت هذه البدلة تحمل على صدرها وظهرها رقم (369) ومازلت أذكر هذا الرقم التاريخي الفريد. ولم يكن ذلك مما يستحق اهتمام المرشد أو يستحوذ على شيء من تفكيره..

 

وقد أراد حمزة البسيوني يومًا أن يلهو كما كان يحلو له أن يفعل بين الجراح والأنين والألم وأن يسجل لنفسه موقفًا بطوليًا، فطلب إلى بعض كبار المسئولين من الإخوان المسلمين أن يتكلموا في مواضيع حددها لهم تتعلق ببعض نظم الجماعة ومنهجها فاستجابوا له، ثم بعد ذلك توجه إلى إمامنا الراحل رضوان الله عليه وطلب منه أن يتكلم مستنكرًا جريمة الشروع في قتل جمال عبد الناصر فوقف الإمام في وجهه وقفة تحدٍ وعزة ويداه في خاصريه وقال له:

 

"إذا أردتني أن أخاطب الإخوان فإنني أخاطبهم بما أحب أن أقوله لهم لا بما تريده أنت، علمًا بأنني لا صلة لي بجريمة الشروع في قتل جمال عبد الناصر، فلم أعلم ولم أُحرِّض، ولو أنني اقتنعت بوجوب قتل جمال عبد الناصر لقلت ذلك وأعلنته".

 

وظل حمزة السجان يتوسل إلى المرشد السجين ويرجوه أن يكون كلامه مقتصرًا على مجرد استنكار الجريمة فأبى إلا أن يقول ما يريد قوله، وإزاء هذا الإصرار في هذا الموقف الشديد الذي كانت فيه إرادة حمزة السجان نافذة ولم يكن هناك قانون ولا حقوق، عَدَلَ حمزة وتراجع عن طلبه ونفّذ الإمام إرادته.

 

ابتسامة ساخرة في مواجهة الأزمة:

يحكي الأستاذ أحمد عيد في كتابه (مواقف إيمانية) يقول: "عند إغلاق المعتقلات، وإشاعة الحريات، كما كان يحدّث السادات، كنا آخر المعتقلين الذين أفرج عنهم من سجن مزرعة طره، عام 1971م، وكان يتحتم على جميع الأفراد المفرج عنهم كتابة تعهد، أو يوقع المفرج عنه تعهدًا مكتوبًا، بأن يقدم نفسه إلى مباحث الجهة التي يقيم فيها خلال 48 ساعة من لحظة خروجه من المعتقل!!

 

وكان الأستاذ الهضيبي المرشد الأسبق- رحمه الله- مقيمًا بمستشفى سجن المزرعة، وأحضرنا له عند الإفراج عنه إحدى سيارات الأجرة التي أقلته من المعتقل.. ورافقتُ السيارة إلى مكاتب إدارة السجن.. وتوقف السائق حتى يؤذن له بالخروج.

 

وجاء أحد ضباط السجن، وكان على ما أذكر هو النقيب محمود حمدي، وناول الأستاذ الهضيبي التعهد المكتوب، وكان جالسًا داخل السيارة.. وما إن وقع بصره على مضمون التعهد حتى [كلفته] بيده اليسرى وناوله للضابط من جديد..

 

فثارت ثائرة الضابط، وأصدر أمره إلى الحراس بعدم السماح لسيارة الأستاذ بالخروج، ولحظتها كنت أرقب الموقف، فأبصرت على وجه الأستاذ الهضيبي ابتسامة ساخرة، وكان يجلس بالسيارة في هدوء عجيب.

 

وسارع الضابط إلى رؤسائه وأبلغهم بما حدث، ففزعوا جميعًا.. وخرج مدير المعتقل ومن كان حاضرًا من رجال المباحث العامة من باب الإدارة، وأقبلوا إلى سيارة الأستاذ يعتذرون إليه مما حدث.. وأفسحوا لسيارته الطريق".

 

الدعوات لا تقوم على الرخص:

جاءت "رسالة" من سجن الواحات أرسلها الأستاذ عبد العزيز عطية- رحمه الله رحمة واسعة- إلى الإمام الهضيبي، يستفتيه في أن عددًا من الإخوان يريدون أن يترخّصوا ويؤيدوا جمال عبد الناصر بغية الخروج من السجن.  فردّ عليه الإمام الهضيبي بقوله:

 

"إن الدعوات لا تقوم على الرخص. وعلى أصحاب الدعوات أن يأخذوا بالعزائم. والرخص يأخذ بها صغار الرجال، وأنا لا أقول بالأخذ بالرخص، ولكن أقول لكم خذوا بالعزائم فاثبتوا وتشبثوا بالعزائم".

 

لا أسأل مخلوقًا شيئًا:

في وقت من الأوقات في فترة الستينيات، فتح النظام الباب أمام الإخوان المسجونين للتظلم، فكان رأي الهضيبي: (أنا شخصيًّا لن أرفع قضية تظلّم، لأنه بيني وبين الله عهد ألا أسأل مخلوقًا شيئًا، وهذا ليس عنادًا لكنه عهد بيني وبين الله.. لن أطلب حاجة من غير الله.. يفرج عني يفرج عني.. يبقيني في السجن يبقيني.. إنما الباب مفتوح أمام الإخوان فمن أراد أن يتظلم فليتظلّم، ومن لم يرد فله ما يرى، لكن بشرط ألا يتبرأ أحد من دعوة الإخوان المسلمين؛ لأن التبرؤ منها "ردة" ولا يوافق على ظلم الظالمين لأن هذا له حكم شرعي، أنا أعرف أن إسماعيل ابني راح تظلم.. وأن مأمون لم يتظلم.. كل واحد أدرى بظروفه الخاصة، لكن لا نتبرأ من الدعوة؛ لأن التبرؤ من الدعوة "ردة").

 

النهي عن البكاء في الصلاة على مسمع الظالمين:

اعتاد الإخوان أن يجدوا في السجون أسعد الفرص للخلوة بالله سبحانه؛ حيث تشغلهم أعباء العمل أوقات الحرية عن التفرغ لما يحبون من مناجاته، وكان هناك أخ بين المعتقلين من أرقّهم قلبًا وأغزرهم دمعًا وأعلاهم نشيجًا في مناجاة الله إذا حلك الظلام وسكنت الحركة بين المعتقلين والحراس.

 

واستطاع الأستاذ الهضيبي أن يتبين من هذا النشيج شخصية صاحبه، فما إن وقعت عليه عينه في ساحة الفسحة العامة، حتى أقبل يقول له:

 

"أنا أعلم أنك رقيق القلب تبكي من خشية الله، وتلك رتبة نغبطك عليها جميعًا، ولكن جهلة الحراس إذا سمعوا بكاءك، وأنت مرموق المكان في الدعوة، أسرعوا إلى سادتهم الطغاة، فأفهموهم أن قادة الإخوان قد أصابهم الهلع من الاعتقال، حتى إنهم ليبكون بكاء الأطفال".

 

وراع المرشد والحاضرين من الإخوة أن يسمعوا جواب أخيهم:

 

"يا فضيلة المرشد أنا أهون شأنًا من أن يكون نشيجي بكاءً من خشية الله، ولكني أستعرض ذنوبي- إذا جَنَّ الليل- فيخيل إلى من كثرتها أن الله تعالي قد أخذ الجماعة كلها بأن يكون فيها مذنب مثلي"!... فيبارك المرشد هذا الشعور ويكرر التشديد على صاحبه أن يكتم أنّاته بحيث لا يسمعها إلا الله!.