بالرغم من الإدراك الأمريكي... بأن الجدار الفاصل يؤدي إلى ترسيم الصورة النهائية للدولة الفلسطينية الهلامية بطريقة تقطع تواصلها الجغرافي وتلتهم مساحات شاسعة من الضفة الغربية... فإنه لم يحدث تغير جوهري في الموقف الأمريكي، منذ أن بدأ الكيان الصهيوني في بناء هذا الجدار في يونيو2002م، سوى مؤخرًا أثناء زيارة "عباس" و"شارون" على التوالي للبيت الأبيض أواخر يوليو الماضي، غير أن هذا التغير لم يكن سوى تلاعب بالألفاظ؛ بهدف مساندة رئيس الوزراء الفلسطيني "عباس".

وقد انتهى الصهيونيون في يوليو الماضي من بناء المرحلة الأولى من الجدار بطول 145كم، والمعروف أن عملية بناء الجدار تتكون من ثلاث مراحل تنتهي عام 2004م، يتم خلالها بناء 600كم، وهو ضعف طول الخط الأخضر الذي يصل طوله إلى350 كيلو مترًا بما يعني أن الجدار لا يلتزم بمسار الخط الأخضر، إذ ينحرف كثيرًا لضمِّ مستوطنات وأراضي الأرض التي احتلت في 1967م، ويبلغ ارتفاع الجدار 8 أمتار، تعلوه أسلاك وأبراج مراقبة وأجهزة إنذار إلكترونية.

ويؤثر بناء هذا الجدار على شكل وجوهر فلسطين وحدودها، أو التي ورد الإعلان عنها في "رؤية الرئيس بوش"، وجاء ذكرها في خريطة الطريق، فقد اقترح "شارون"- من جهة بناء جدار ثانٍ في شرق الضفة الغربية لضم مستوطنات- غور الأردن والسيطرة على الحدود مع الأردن فضلاً عن أن وزير دفاعه "موفاز" صرح في مارس الماضي بأن الحكومة "الصهيونية" تبلور رؤية لدولة فلسطينية مقسمة إلى 7 "معازل" في المدن الفلسطينية الرئيسية كلها مغلقة ومعزولة عن باقي أراضي الضفة الغربية التي ستصبح تابعة للكيان الصهيوني.. وهو قول له مدلولاته الخطيرة، خاصةً وأن إتمام بناء الجدار والشروع في بناء الجدار الشرقي ثم خمسة أحزمة عرضية بينهما سوف يؤدي إلى تقسيم أراضي الضفة الغربية إلى 4 كتل رئيسية.. جنين، نابلس، رام الله، بيت لحم، الخليل، ويطوق مدن طولكرم وقلقيلية والقدس بالكامل، ويعزلها عن محيطها الطبيعي في الضفة، ويجعل أهلها أمام مصير محتوم لا يَخفى عن الأذهان.

ولا يؤثِّر الجدار فقط على حدود الدولة الفلسطينية- بما تفضي إليه عملية البناء من تقطيع أوصال المدن والقرى الفلسطينية والتهام جزء كبير من مساحة الضفة- وإنما أيضًا سيؤدي إلى أن تصبح القدس محاطة بالمستوطنات والمناطق اليهودية من كل جهة وقطع اتصالها الطبيعي وصلتها بالأراضي العربية الأخرى، وكذلك حرمان الفلسطينيين من مصادر المياه، حيث تمت مصادرة أراضٍ في المرحلة الأولى فقط تضم 31 بئر مياه جوفية، وسيؤدي الجدار إلى الفصل بين مصادر المياه وشبكات الرَّيّ من ناحية، وبين الأراضي الزراعية الفلسطينية من ناحية أخرى.

اعتبار الجدار "مشكلة":
وطيلة ما يقرب من عام لم تتحرك واشنطن استجابةً لاعتراضات العديد من الساسة والحقوقيين- في الغرب والعالم العربي- على بناء الجدار الفاصل، وجاء أول تحرك أمريكي على وجه التقريب من مستشارة الأمن القومي الأمريكي "كوندوليزا رايس"، أثناء زيارتها لفلسطين المحتلة أثناء إعلان الهدنة في يونيو الماضي، وإن كانت "رايس" لم تخرج عن إطار السياسة الأمريكية وموقفها من القضية الفلسطينية، إذ طالبت فقط رئيس الوزراء الصهيوني بإعادة النظر في بناء هذا الجدار، إلا أن "شارون" قد ردَّ بأن حكومته قد تنسحب من خريطة الطريق في حال مارست واشنطن عليه ضغوطًا لوقف البناء، واللافت ليس هو رد الفعل الصهيوني على المطالب الأمريكية بإعادة النظر- والتي وصفها المحلل "زئيف شيف" بأنها تهدف إلى تقليل الضغوط الأمريكية بشأن عملية البناء، والتي تُعد من أهم خروقات الهدنة، فضلاً عن تأثيرها على حدود الدولة الفلسطينية وشكلها- وإنما هو توقيت المطلب الأمريكي المتواضع وطبيعته، حيث إن هذا المطلب جاء بعد لقاء "رايس" مع رئيس الوزراء الفلسطيني، والذي أسفر عن إظهار ما يشبه القناعة الأمريكية بأن الخروقات الصهيونية- خصوصًا في قضايا الحوار والاستيطان والأسرى- ربما تؤثر على شعبية "عباس"، إلا أن الموقف الأمريكي لم يصل إلى مستوى التلويح بإجراء ضغوط على حكومة "شارون" لتغيير موقفها بشأن الجدار لو جاء على العكس من ذلك يحمل رجاءً من الأصدقاء في واشنطن بإعادة النظر فيه!
ورغم تصاعد التحذيرات المختلفة من أن الخروقات الصهيونية في تلك القضايا المشار إليها قد تؤدي إلى انهيار الهدنة، وبالتالي وقف تنفيذ خريطة الطريق- وهي مبادرة أمريكية للتسوية كما أعلنت واشنطن- فإن التصريحات الأمريكية بعد زيارة "رايس" فلسطين المحتلة لم تتطرق إلى هذه القضايا، وركزت الإدارة الأمريكية على المطالب الخاصة بأن تتحرك حكومة "عباس" للقضاء على حركات المقاومة وتفكيك بنيتها ونزع سلاحها.

ثم عادت قضية الجدار في تلك التصريحات بعدما يقرب من شهر أثناء زيارة "عباس" الأولى للبيت الأبيض في 25 يوليو الماضي، حيث حمل "عباس"- بالتنسيق مع حركة (فتح) والأطراف العربية المعنية- خرائط عديدة، بينها خريطة الجدار الفاصل، على اعتبار أن هناك ضبابية وعدم فهم لطبيعة الوضع على الأرض، وأن المسئولين الأمريكيين لا يعلمون أن السلطة الفلسطينية "تطالب بـ22% من أرض فلسطين التاريخية".

وفيما اعتبرت أوساط في حكومة "عباس" الموقف الأمريكي الشديد التواضع انتصارًا قال الرئيس الأمريكي- في المؤتمر الصحفي المشترك مع رئيس الوزراء الفلسطيني- إن الجدار يُعد مشكلةً، "على أساس أنه من الصعب للغاية بناء الثقة بين الفلسطينيين والصهيونيين مع جدار يتلوَّى كالثعبان عبر الضفة الغربية، إلاَّ أنه قال لا... سأستمر في مناقشة هذه المسألة بكل صراحة مع رئيس الوزراء الصهيوني، مقدمًا وعوده بدعم دولة فلسطينية مستقلة وقادرة على الحياة.

والملاحَظ أن هذا التصريح الذي اعتبره البعض في حينه "ثقلة نوعية" في العلاقات الفلسطينية الأمريكية لم يرفض صراحةً بناء هذا الجدار، وأن أساس كونه "مشكلة" ليس في تأثيره على الدولة الفلسطينية "الموعودة" من جهة أنه سيقسمها إلى كانتونات، ويفضي إلى السيطرة عليها أمنيًا ثم أحكام القبض الصهيونية عليها.. وإنهاء وجودها، وهي إجراءات لا تتفق مع القوانين الدولية، وإنما لأن الجدار سوف يُصعِّب من بناء الثقة بين الطرفين، كما صرح "بوش".

ويبدو أن هذا التصريح كان كافيًا لاعتبار تيار "أبو مازن" أن اجتماع واشنطن كان ناجحًا، رغم أن رئيس الوزراء الفلسطيني لم يتمكن من الحصول على ضغط أمريكي على الصهاينة، فيما يخص قضايا الأسرى والجدار والاستيطان، فضلاً عن أن زيارة واشنطن باعتراف "عباس" ركزت على "الأمن"، حيث ناقشت خِططًا أمنية فلسطينية وأمريكية لضرب حركات المقاومة، وربَط "بوش" خلالها بين تنفيذ خريطة الطريق وبين ضرب هذه الحركات قائلاً: إن القيام بحملة على جماعات مثل (حماس) من شأنه أن يساعد في تنفيذ خريطة الطريق، سأقول لكم صراحةً إن علينا ضمان اجتثات أي نشاط إرهابي؛ حتى نتمكَّن من التصدِّي لهذه القضايا الكبرى، وفوق هذا وذاك أشاد "بوش" بإجراءات اتخذها الكيان الصهيوني قبل زيارة شارون إلى واشنطن في 29 من الشهر نفسه، وتعلق بالإفراج عن معتقلين فلسطينيين وإزالة ثلاثة حواجز في الضفة الغربية مضيفًا: "إن رئيس الوزراء "شارون" يظهر شأنه شأن رئيس الوزراء "عباس" أنه شريك يتمسك بتحقيق السلام".

إطلاق "السياج الأمني" على الجدار:
وكانت الصحف الصهيونية قد ذكرت أن هذه الإجراءات الصهيونية تعمل على إظهار أن حكومة "شارون" تؤدي التزاماتها وِفْق خريطة الطريق، وبالتالي تهدف إلى منع أيه ضغوط أمريكية متوقعة بشأن القضايا المشار إليها، وفي نفس الوقت مطالبة الإدارة الأمريكية بالضغط على السلطة الفلسطينية لتنفيذ التزاماتها، وقد خلص بيان الحكومة الصهيونية- والذي صدر عشية زيارة "شارون" للعاصمة الأمريكية، وتضمن تلك الإجراءات- إلى أن: الكيان الصهيوني ينتظر أن تتحرك السلطة الفلسطينية لتفكيك المنظمات الإرهابية وفقًا للخطط الأمنية المتفق عليها، وتجري إصلاحات أساسية في القطاعات الاجتماعية والأمنية والإدارية والاقتصادية والقضائية بُغية دفع عملية السلام"!!
وفي الوقت الذي توقَّع فيه العرب على سواء أن الاجتماع الثامن في البيض بين "بوش" و"شارون" سوف يشهد ضغوطًا أمريكية لوقف بناء الجدار الفاصل، أو على الأقل تعديل مساره...، فقد تغيرت هذه التوقعات قبل يوم واحد من الاجتماع، وذلك أثناء لقاء "شارون" بمستشارة الأمن القومي الأمريكي، التي أبلغته أن هناك صديقًا ينتظره في البيت الأبيض، مطالبةً أن يعمل الكيان الصهيوني على تفادي المساس قدر الإمكان بالمدنيين المقيمين بمحازاة مسار الجدار الفاصل.

وأثناء لقاء "بوش"- "شارون" عرض الأخير على الرئيس الأمريكي خرائط ليثبت عكس ما هدفت إليه الخرائط المقدمة من السلطة الفلسطينية، مطالبًا الأمريكيين بإطلاق اسم السياج الأمني على الجدار، بدلاً من اسمه الحقيقي "الجدار الفاصل"..، كما تحدَّث رئيس الوزراء الصهيوني بأن السلطة لا تقوم بأى عمل جدي من أجل تنفيذ التزاماتها فيما يتعلق بتفكيك البُنَى التحتية للفصائل الفلسطينية.

ومن ناحيته أعلن "بوش" أنه "متشجع" بالإجراءات الصهيونيية، التي أسماها "مبادرات"، وتضمنت إطلاق سراح عدد من المخطوفين، مطالبًا السلطة الفلسطينية بشن حملة موجهة ومتواصلة على حركات المقاومة التي أسماها بدوره "منظمات الإرهاب"، وبخصوص الجدار قال الرئيس الأمريكي إنه يتفهَّم: "أن الطريقة الأكثر فاعلية لحماية أمن الكيان الصهيوني، وكذلك أمن الأشخاص المتعطشين للسلام في الأراضي الفلسطينية هي مواجهة منظمات مثل (حماس) والمنظمات الإرهابية، التي تَحُول دون قيام السلام، وبالتالي آمل في آلا يكون هذا "السياج الأمني" ضروريًا على المدى الطويل.

وقد ظهرت في هذا اللقاء صحة توقعات السفير اليهودي في واشنطن من أن قضية الجدار ستكون إحدى القضايا الهامشية في محادثات واشنطن، وتختلف الآراء حول تراجع "بوش" عن مناقشة هذه القضية بجدية مع "شارون"، وإطلاق اسم "السياج الأمني" عليه، بعدما طلب منه الأخير ذلك بين فريق يذهب إلى أن "بوش" على أعتاب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث يتبارى مرشحًا الحزبين الجمهوري والديمقراطي في إطلاق التعهدات بشأن مزايا ومساعدات متنوعة لـ"الكيان الصهيوني"، وبالتالي فهو يرفض إجراء أية ضغوط على "الكيان الصهيوني"؛ حتى لا يغضب اللوبي الصهيوني أولا يستغلها المرشح المنافس في حملته الانتخابية، بينما يرى فريق آخر أن الإدارة الجمهورية الحالية تتميز بسيطرة تيار المحافظين الجدد، الذي يتشكل بالأساس من العسكريين وأصحاب المصالح الاقتصادية والمثقفين ذوي الميول الصهيونية الشديدة التَّطرف، وهو الفريق الذي ساند "الكيان الصهيوني" بقوة، ويرى أنه الأقدر على فهم التعامل مع العالمين العربي والإسلامي.

ونظرًا لهذا التغيُّر الواضح في المواقف حاولت الإدارة الأمريكية التقليل من تصريح "بوش" الذي أعرب فيه عن تفهمه لبناء الجدار الفاصل، وقال "سكوت ماكليلان" المتحدث باسم البيت الأبيض إن "الرئيس "بوش" لم يغير لهجته بشأن موضوع الجدار الأمني الصهيوني، وهو مستمر في الإعراب عن قلقه في هذا الشأن، وفي الواقع لقد قال إنه في اليوم الذي نضع فيه حدًا للإرهاب ونقضي على المنظمات الإرهابية فلن تعود هناك حاجة إلى سياج أمني!!
أما وزير الخارجية "كولن باول" الذي أعلن قبل لقاء "بوش"- "شارون" أن بلاده ستواصل الضغط على الكيان الصهيوني، بشأن الجدار الفاصل، فقد صرح لصحيفة (معاريف) الصهيونية عقب اللقاء أن الرئيس "بوش" قلِقٌ لأنَّ الجدارَ يَفرض أمرًا واقعًا في كل ما يتعلق برسم الحدود النهائية للدولة الفلسطينية، موضحًا أن الرئيس الأمريكي لم يطالب الحكومة الصهيونية بوقْف البناء، إنما توقف عند المشكلات التي يسببها الجدار، ثم أضاف: "إن على الفلسطينيين أن يدركوا أن واشنطن لن تقبل بأقل من القضاء نهائيًا على الإرهاب وإن "بوش" تحدث مع "عباس" في ذلك".

وعقب تصريحات "باول" لـ(معاريف) قدمت وزارة الخارجية الأمريكية اقتراحًا بوقْف ضمانات القروض الصهيونية، ردًا على إصرار حكومة "شارون" على بناء الجدار، على اعتبار أن هذا يفرض واقعًا جديدًا على الأرض، ولكن يتعين موافقة الرئيس الأمريكي "بوش" على هذا الاقتراح، والمعروف أن هذه الضمانات تكفل الحق الصهيوني للاقتراض من البنوك الأمريكية الخاصة دون الرجوع للكونجرس.

ويرى المراقبون أن هذا الاقتراح الذي يتناقض مع تصريحات "باول" لصحيفة (معاريف) لا يعني أن واشنطن تبذل جهودها للضغط على الكيان الصهيوني؛ من أجل تنْفيذ ما عليه من التزامات، خاصةً وأن الإدارة الأمريكية أثبتت أثناء زراتَي "عباس" و"شارون" أنها تتبنَّى المواقف والرؤي الصهيونية بالكامل، وإنما هو من قبيل التكتيك السياسي، الذي تتبعه هذه الإدارة لدعم حكومة "عباس"، وقد نقلت صحيفة نيويورك تايمز في هذا الإطار عن مسئولين أمريكيين أن إدارة "بوش" مقتنعة بضرورة دعم وتعزيز "عباس"؛ لأنه الأكثر قدرةً الآن على الاستمرار في مسيرة التسوية.

وعليه فإنه في الوقت الذي تدرك فيه هذه الإدارة أن بناء الجدار الفاصل، وضمّ المستوطنات لا يعني سوى تنفيذ خطة ضمّ وقضم الأراضي وفرض واقع سياسي من طرف واحد، وقبل بدء أية مفاوضات بطريقة تؤدي في النهاية إلى فرض حل التحكم الذاتي على الفلسطينيين تنحصر مهامه في النهوض بالتزامات أمنية لحفظ أمن الكيان الصهيوني نجد أن هذه الإدارة غير مهتمة إلا بوضع حكومة "عباس" تحت الوصاية الأمنية وتحسين صورتها، سواء من خلال المقترحات والتصريحات التي يُفهم منها أنها إرضاءٌ لهذه الحكومة، أو بالمساعدات الاقتصادية التي يعتبرها الشارع الفلسطيني "رشوة" لوقف المقاومة، وإقامة مشروعات بديلة لشبكة المشروعات الاجتماعية والاقتصادية لـ(حماس).