مؤتمرات تُعقَد هنا وهناك، ووعود وبشائر باقتراب العصر الذهبي للفئات المتعبة في مجتمعاتنا والأسر تتلقَّف- في لهفةٍ- الأخبارَ عن المِنَح الموعودة التي تنضوي تحت مسميات إنسانية كبيرة تعكسها "مانشتات" الصحف ووسائل الإعلام، اعتادت أن تُحيل الوهم إلى كلماتٍ تفرد بها الصفحات، وتسخر الطاقات للحديث تارةً عن عام الطفل المعاق، وتارةً عن دمج ذلك المشروع العظيم، ثم الاستغراق الإعلامي في الحديث عن السلبيات والإيجابيات لمثل هذه المشروعات المتفردة، وكأنها أصبحت ظاهرةً ملموسة في كل مكان.

 

وعلى أرض الواقع يصدق البسطاء، وما إن يشرعوا في البحث لا يحصدون إلا الوهم، فينكصون على أعقابهم منكمشين ثانيةً في خانة الفقر التي تتضاعف مع مولد طفل معاق، والذي يحتاج منذ لحظة مولده رعايةً طبيةً وتأهيليةً ونفسيةً متميزةً في المستوى والتكاليف، لكن تُرى إلى أي مدى تكون مثل تلك الأعباء ضاغطةً على الأسرة، وكيف يمكن توفير متطلبات مشوار علاج طفل ذي ظروف خاصة في أسرة ذات أعباء خاصة؟!

 

تقول أم منة: كانت أحوالنا المادية على ما يرام قبل إنجاب طفلتنا الأخيرة، والتي اكتشفنا إعاقتها بعد مولدها بأسابيع؛ حيث لاحظنا أنها غير طبيعية ومتخلفة، وعندما ذهبنا إلى الطبيب قال لنا إنها تعاني من درجة معينة من درجات "ملتزمة داون" ولم نكن نعتقد يومها أن ما يحتاجه الطفل المنغولي من علاج مرتفع السعر إلى هذا الحد، وبدأنا مشوار العلاج الذي تفاقمت أعباؤه يومًا بعد يوم، فسعر الجلسة الواحدة عند طبيب الوراثة وحده لا تقل عن أربعين جنيهًا وتكون الطفلة بحاجة إلى أربع جلسات شهريًّا في العامين الأولين على الأقل، إضافةً إلى جلسات أخرى للتنبيه وكذلك للعلاج الطبيعي، وهو ما تصل تكلفته إلى مئات الجنيهات في الشهر، إضافةً إلى الدواء المستورد والذي ليس له وجود في مصر؛ بسبب ارتفاع سعره؛ إذ نشتري المجموعة الواحدة بحوالي سبعمائة جنيه!!

 

ولذلك نجد أنفسنا مضطرين لوقف العلاج والجلسات لفترات طويلة؛ حتى نتمكن من توفيره لفترة ثم ننقطع مرةً أخرى حتى تتوفر الظروف؛ ولذلك فقد بدأنا مشوار الشقاء في البحث عن دعم والذي لا يكون سهلاً هو الآخر، ورغم ذلك فقد حاولنا تقديم طلبٍ لوزير الصحة من أجل توفير العلاج والجلسات على نفقة الدولة، إلا أن الطلب قد تم رفضُه، وتم تحويلنا إلى التأمين الصحي، والذي حار أطباؤه في معرفة التقارير الطبية لحالة الطفلة، ولتكون الإجابة بالقول: بأنه ليس هناك علاجٌ أو جلساتٌ بالتأمين الصحي لمثل هذه الحالات، اللهم إلا الإصابات العادية التي قد تصيبها كالأنفلونزا والإسهال وغيرهما مما يصيب الأطفال.

 

واقترح عليَّ البعض الاتجاه إلى المركز القومي للبحوث، ولكنَّ المفاجأة كانت في سعر الجلسات التي يصل سعرها إلى الأربعين جنيهًا في الجلسة؛ لنظل ندور في دائرة البحث المستمر عن مخرج لمأزق الديون التي تراكمت علينا بسبب دوامة علاج الطفلة، والبحث عن دعم لاستكمال مشوار العلاج، ولا أدري ماذا سنفعل مع كل تلك الأعباء عندما تصل إلى سنِّ المدرسةِ التي ليس لها وجودٌ ملحوظٌ إلا في المناطق المتميزة ماديًّا واجتماعيًّا في مصر؟!

 

سراب اسمه الدمج

وتروي أم إلهام قصتها مع مشوار علاج ابنتها التي ما زالت تقبع في البيت، رغم بلوغها الحادية عشرة؛ نظرًا لارتفاع تكلفة مراكز الرعاية والمدارس الخاصة بحالات الشلل الدماغي المصابة به الطفلة إلهام، فتقول أم إلهام: ما إن تكتشفي أنك رُزِقتِ بطفل معاقٍ إلا وتبدأ الأزمات المادية في التصاعد لتأكل كل دخلك ودون أن يتحقق الكثير من التطور على الحالةِ محل العلاج، وطفلتي كانت الطفلة الأولى لي ولذلك كان لديَّ الذهن الصافي والإصرار والتفرغ اللازم لتوفير رعاية متميزة لها، فحصلت على دورات لرعايتها في المنزل، وأعاننا الله على تدبير نفقات العلاج والأطباء، فزوجي يعمل نجَّارًا في أحد مصانع الأخشاب، ودخلُنا معقول، لكن ليس بالقدر الذي يوفر رعايةً متميزةً للبنت في أماكن الرعاية المعروفة.

 

وقد حاولت أن أذهب بها إلى مستشفى القوات المسلحة بمصر الجديدة؛ إذ أشاد الناس بتطورها في هذا المجال، وبالفعل كان كل شيء نموذجيًّا إلا الأسعار؛ إذ كان عليَّ أن أتكلَّف ما يقرب من المائة جنيه يوميًّا لتوفير تلك الرعاية النموذجية؛ ولذلك فإنني اضطُّررت آسفةً للانقطاع بلا عودة لعدم توفر الإمكانات لدينا على أرض الواقع.

 

وتستطرد أم إلهام: بدأت أخوض محاولاتٍ هنا وهناك في أماكنَ أقلَّ سعرًا، ولكن لم أستمر أيضًا، ولكن هذه المرة بسبب غياب الرعاية التأهيلية التي تحتاجها ابنتي في مثل هذه الأماكن جرينا وراء سرابٍ اسمُه الدمج، ولكننا لم نجده حولنا لا في مدرسة عامة ولا خاصة؛ لتظل ابنتي خارج إطار التعليم؛ حتى يتغير حال أبيها ويصبح مليونيرًا ولتظل مقيمةً داخل البيت بعيدةً عن الدنيا؛ بسبب أن تعليم تلك الحالات يحتاج إلى تكاليف باهظة لا يقدر عليها إلا الأغنياء فقط.

 

أوفر حظًّا

أما أم أسماء فترى أنه رغم الابتلاء إلا أنهم أوفر حظًّا من غيرهم؛ إذ تقول "الحمد لله ولدت طفلتي الأخيرة مصابةً بإعاقة سمعية، ورغم الصدمة إلا أننا نحمد الله أنها قد ولدت، وقد أنهى أشقاؤها تعليمهم الجامعي، وقد تزوج غالبهم، وبالتالي كانت الأعباء أخف من ذي قبل؛ لأنها لو كانت قد جاءت في (الزحمة) لما نالت أدنى رعاية، ورغم ذلك فإن الأمر لا يخلو من تكاليف، إلا أنها تكون أكثر احتمالاً مع التخفف من أعباء إخوتها، ولذلك استطعنا إلحاقها بحضانةٍ متميزةٍ في حي راقٍ داخل القاهرة، والآن دخلت المدرسة التي تبعُد عن البيت بمسافة طويلة مما يضطرنا إلى استئجار (تاكسي) لها لِيَلْتهمَ ربع دخلنا شهريًّا، ثم ليأت المعلم الذي يأتي لها البيت ليأخذ ربعًا آخر، ليتبقى لنا النصف الذي ننفق معظمه في شراء احتياجات خاصة لها مع مصاريف المدرسة، والحمد لله نعتبر أنفسنا أوفرَ حظًّا من غيرنا، فهناك حالات إعاقة أخرى تغرق الأسر في الدَّين المؤبد.

 

تعاطف

وتبدي الدكتورة سامية خضر- أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة- تعاطفَها مع حالة أسر الأطفال المعاقين في بلادنا، والتي تغيب فيها الرعاية الرسمية والمجتمعية بالصورة اللائقة كما هو الشأن في الغرب المتقدم كثيرًا في كفالة المعاقين وأسرهم، فتقول: لا بد من تغيير وجهة نظر الآباء والأمهات العائلين لهؤلاء المعاقين بأن تشجع الدولة عقدَ الندوات والمؤتمرات لجذبهم ودمجهم في المجتمع، إضافةً إلى أنه لا بد من أن توفِّر لهم الدولة وسيلةَ ركوب المواصلات المجانية وإنشاء المدارس الخاصة بهم، كما أن على الدولة أن توفِّرَ لهم الوظائف، بدءًا من المعاق الأمِّي الذي يجهل القراءة والكتابة وحتى الحاصل على أعلى الدرجات العلمية.

 

وترى الدكتورة سامية خضر أن توفير المدرسين من أهم احتياجات هؤلاء المعاقين؛ حتى يكونوا مؤهَّلين على المستوى المطلوب علميًّا وسلوكيًّا بالدرجةِ التي تؤهلهم للتعامل مع المعاقين واحتوائهم.

 

عبءٌ كبير

 ويحذِّر الدكتور صلاح الفوال- أستاذ الاجتماع بجامعة القاهرة- من الوضع الاقتصادي المتدهور في البلاد النامية والتي تشمل كل البلدان العربية؛ مما يكون له التأثير الشديد في شعور الأسر بأن هؤلاء المعاقين يشكِّلون عبئًا كبيرًا عليهم، وأوضح أن ذلك يتوقف على حجم وطبيعة الإعاقة، فيقول: إذا كانت الإعاقة والعجز كليًّا فإنه يجب التركيز معهم على التوعية الدينية وتوضيح أن الله خلقهم بهذه الصورة لحكمةٍ يعلمها، وأن الجنة هي جزاءُ الصابرين على هذا الابتلاء، أما مع الإعاقة الجزئية- كأن يكون الشخص فاقدًا للبصر أو به عاهةٌ معينةٌ- فهنا يجب أن يكون دور الدولة قويًّا؛ حيث يكون من السهل تعويض هذا الشعور من جانب الحكومة بتوفير فرصة عمل لهم لتخفيف العبء عن الأهل.

 

وأوضح الدكتور الفوال أن على الحكومة والمسئولين أن يهتموا بالأسرة ومشاكلها العديدة، والتي من بينها ولادة طفل معاق وما يعنيه ذلك من زيادة الضغوط النفسية والاقتصادية على الأسرة.