سيبقى علم ابن عباس بالقرآن بحرا لا ساحل له، كيف لا وقد قَالَ عَنْه الحبرُ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: «نَعَمْ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ»، وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، فقد أخرج البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ضَمَّنِي إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ».



وها نحن مع بعض وقفاته الرائعة مع آي الكتاب العزيز نتعلم ونتدبر:

(1) الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا
(2)
 أخرج الشيخان عن عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ مَرْوَانَ (ابن الحكم) قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ. 


فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «وَمَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ! إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ، بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ، وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ». 

ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾.

(3) آيات التوبة والغفران في سورة النساء

أخرج الطبري والبيهقي عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «ثَمَانِ آيَاتٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هِيَ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ: 

أَوَّلُهُنَّ: ﴿يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾. 
وَالثَّانِيَةُ: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾. 
وَالثَّالِثَةُ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾. 
وَالرَّابِعَةُ: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾. 
وَالْخَامِسَةُ: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ الْآيَةَ. 
وَالسَّادِسَةُ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾. 
وَالسَّابِعَةُ: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الْآيَةَ. 
وَالثَّامِنَةُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ الْآيَةَ. 

فَأَخْبِرْهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ يفَسِّرُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي آخِرِ الْآيَةِ: «وَكَانَ اللهُ لِلَّذِينَ عَمِلُوا مِنَ الذُّنُوبِ غَفُورًا رَحِيمًا».


(4) لماذا يسجد للتلاوة في آية سورة ﴿ص﴾ 

أخرج البخاري عن مجاهد أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَفِي ﴿ص﴾ سَجْدَةٌ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، ثُمَّ تَلَا:
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ وفي رواية: فَقَرَأَ ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾.
ثُمَّ قَالَ: «هُوَ مِنْهُمْ»، وفي رواية: «نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ».
وفي رواية: «فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَام، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم».


(5) الأدنى يلحق الأعلى في الجنة
أخرج عبد الرزاق والطبري وابن أبي حاتم والحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ﴾ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ مَعَهُ فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ» ، ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ﴾ يَقُولُ: «وَمَا نَقَصْنَاهُمْ». 


وأخرج الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَظُنُّهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْجَنَّةَ سَأَلَ عَنْ أَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَتَكَ وعَمَلَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ لِي وَلَهُمْ، فَيُؤْمَرُ بإِلْحاقِهِمْ بِهِ»، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.


زاد البزار والضياء المقدسي أنه قالَ: «وَمَا نَقَصْنَا الْآبَاءَ بِمَا أَعْطَيْنَا الْبَنِينَ».

(6) متى يسأل المؤمن الرجعة عند الموت

أخرج الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ، فَلَمْ يَفْعَلْ، يَسْأَلِ الرَّجْعَةَ عِنْدَ المَوْتِ». 

فَقَالَ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الكُفَّارُ؟. 

فَقَالَ: سَأَتْلُو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآنًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ. وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.


وفي رواية عند الطبري قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ وَلَمْ يَحُجَّ إِلَّا سَأَلَ الْكَرَّةَ». 

فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبَّاسٍ لَا تَزَالُ تَأْتِينَا بِالشَّيْءِ لَا نَعْرِفُهُ. 

قَالَ: فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَقَ﴾ قَالَ: أُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِي ﴿وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قَالَ: أَحُجُّ.


(7) الكلام من جنس صاحبه

أخرج الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾ قَالَ: «الْقَوْلُ الْخَبِيثُ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ النَّاسِ»، ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ﴾، قَالَ: «الْقَوْلُ الطَّيِّبُ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ النَّاسِ».

وفي رواية قَالَ: «الْخَبِيثَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ النَّاسِ، وَالْخَبِيثُونَ مِنَ النَّاسِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ الْقَوْلِ، وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ النَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَسْمَعُ الْكَلِمَةَ الْخَبِيثَةَ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، فَتَقُولَ: غَفَرَ اللهُ لِفُلَانٍ مَا هَذَا مِنْ خُلُقِهِ وَلَا مِمَّا يَقُولُ».
زاد في رواية: «نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ قَالُوا فِي زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالُوا مِنَ الْبُهْتَانِ، وَيُقَالُ: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ الْأَعْمَالُ الْخَبِيثَةُ تَكُونُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الْأَعْمَالِ تَكُونُ لِلطَّيِّبِينَ».

(8) اتباع القرآن هداية ونجاة

أخرج الحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ هَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَوَقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُوءَ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾».