فضيلة الدعاء بحسن الخاتمة وعلامته

ها هو الشهر الكريم قد آذن بالرحيل، وهكذا تقطع مراحل دنياك، لتجد نفسك في النهاية موقوفا بين يدي ربك فيوفيك عملك، والعبرة بالخواتيم، وقد قال الله تعالى ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ودعا يوسف عليه السلام ربه ﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾، ودعا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: «اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ».

وتكون البشارة بحسن الخاتمة عند الاحتضار، حتى يحب المرء لقاء ربه ويفرح بالموت، فقد أخرج الشيخان عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ».

قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ.

قَالَ: «لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ».

ومن علامات حسن الخاتمة: أن يُوَفَّقَ الإنسانُ لعملٍ صالحٍ يُخْتَمُ له به، وقد أخرج أحمد والترمذي عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ» فَقِيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ المَوْتِ».

وأخرج أحمد والطبراني عن أَبِي عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا، عَسَلَهُ»، قِيلَ: وَمَا عَسَلُهُ؟ قَالَ: «يَفْتَحُ اللهُ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْه».

وهذه بعض أحوال حسن الخاتمة لمن عاشوا بالإسلام عاملين وللخير فاعلين، نسال الله أن يلحقنا بهم على خير.النبي صلى الله عليه وسلم يبشر شابا يموت وقلبه بين الرجاء والخوف
أخرج ابن ماجه بسند حسن عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ: «كَيْفَ تَجِدُكَ؟» قَالَ: أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَخَافُ ذُنُوبِي.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو، وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ».
معاذ بن جبل : مرحبا بالموت
أخرج ابن أبي الدنيا وأبو نعيم أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ: «انْظُرُوا أَصْبَحْنَا؟» فَقِيلَ: لَمْ نُصْبِحْ. حَتَّى أُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ أَصْبَحْتَ.
قَالَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ لَيْلَةٍ صَبَاحُهَا إِلَى النَّارِ. مَرْحَبًا بِالْمَوْتِ. مَرْحَبًا، زَائِرٌ مُغِبٌّ حَبِيبٌ جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ. اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَخَافُكَ، فَأَنَا الْيَوْمَ أَرْجُوكَ. إِنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ الدُّنْيَا وَطُولَ الْبَقَاءِ فِيهَا لِكَرْيِ الْأَنْهَارِ، وَلَا لِغَرْسِ الشَّجَرِ، وَلَكِنْ لِظَمَإِ الْهَوَاجِرِ، وَمُكَابَدَةِ السَّاعَاتِ، وَمُزَاحَمَةِ الْعُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ».
أبو حازم الأعرج يموت على حسن الظن بالله
أخرج ابن أبي الدنيا وأبو نعيم عن مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي حَازِمٍ الْأَعْرَجِ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا حَازِمٍ كَيْفَ تَجِدُكَ؟
قَالَ: «أَجِدُنِي بِخَيْرٍ. قَالَ: أَجِدُنِي رَاجِيًا لِلَّهِ، حَسَنَ الظَّنِّ بِهِ».
ثُمَّ قَالَ: «إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا يَسْتَوِي مَنْ غَدَا وَرَاحَ يَعْمُرُ عُقَدَ الْآخِرَةِ لِنَفْسِهِ فَيُقَدِّمُهَا أَمَامَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ الْمَوْتُ، حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْهَا فَيَقُومَ لَهَا وَتَقُومَ لَهُ، وَمَنْ غَدَا وَرَاحَ فِي عُقَدِ الدُّنْيَا يَعْمُرُهَا لِغَيْرِهِ، وَيَرْجِعُ إِلَى الْآخِرَةِ لَا حَظَّ لَهُ فِيهَا وَلَا نَصِيبَ».

عمر بن عبد العزيز يتلو البشارة ثم يموت

أخرج ابن المبارك وابن أبي الدنيا وأبو نعيم عن فَاطِمَةَ بنتِ عبدِ الملك زوجِ عمرَ بنِ عبد العزيز قالت: كُنْتُ أَسْمَعُ عُمَرَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ، أَخْفِ عَلَيْهِمْ مَوْتِي وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ». قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا أَخْرَجُ عَنْكَ عَسَى أَنْ تُغْفِيَ شَيْئًا، فَإِنَّكَ لَمْ تَنَمْ.

قَالَتْ: فَخَرَجْتُ عَنْهُ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، قَالَتْ: فَجَعَلْتُ أَسْمَعُهُ يَقُولُ: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص 83) يُرَدِّدُهَا مِرَارًا، ثُمَّ أَطْرَقَ فَلَبِثَ طَوِيلًا لَا أَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا.

فَقُلْتُ لِوَصِيفٍ لَهُ كَانَ يَخْدُمُهُ: وَيْحَكَ انْظُرْ، فَلَمَّا دَخَلَ صَاحَ، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ مَيِّتًا، قَدْ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى الْقِبْلَةِ، وَوَضَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى فِيهِ، وَالْأُخْرَى عَلَى عَيْنِهِ.

وأخرج ابن أبي الدنيا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: «ذَهَبْتُ أُلَقِّنُ أَبِي عِنْدَ الْمَوْتِ فَقَالِ: يَا بُنَيَّ خَلِّ عَنِّي فَإِنِّي فِي وِرْدِي السَّابِعِ. كَأَنَّهُ يَقْرَأُ وَنَفْسُهُ تَخْرُجُ».

رشيد رضا والشنقيطي يختتمان تفسيريهما اختتاما عجيبا

من البشريات للإمام العلامة القرآني محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى أنه توقف في (تفسير المنار) عند قوله تبارك وتعالى ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾.

ونظير ذلك أيضا: أن الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: أنه وقف في تفسيره المبارك (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) عند قوله تعالى ﴿أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ لأنه أتى موسم الحج سنة ألف وثلاثمائة وثلاثة وتسعين هجرية، فخرج من الموسم ثم رجع فمرض ومات بعد أيام قليلة.

وذلك من علامات حسن الخاتمة للشيخين رحمهما الله رحمة واسعة.

اللَّهُمَّ ارْحَمْ فِي الدُّنْيَا غُرْبَتنا، وَارْحَمْ عِنْدَ الْمَوْتِ صَرْعَتنا، وَارْحَمْ فِي الْقَبْرِ وِحْدَتنا، وَارْحَمْ مَقَامنا بَيْنَ يَدَيْكَ يَوْمَ النُّشُورِ.

يَا مُخْرِجَ الرُّوحِ مِنْ نَفْسِي إِذَا احْتُضِرَتْ  وَكَاشِفَ الْكَرْبِ زَحْزِحْنا عَنِ النَّارِ

والحمد لله رب العالمين.