تحقيق- هبة محمد

لم تتزوج بعد.. إذن هي عانس (بختها مايل)، (ربنا يبعت لها ابن الحلال) هكذا تتردد كلمات الأهل والأقارب والجيران كسياط تلهب مشاعر الفتاة التي تقدمت في السن تنتظر نصيبها المُقدَّر والمكتوب.

 

وبين الألم والأمل تنتظر الفتاة نصيبَها، برجاء أن يكف من حولها ألسنتهم ولا يطلقونها إلا بالدعاء لها، وخلال الانتظار تُرى كيف تتصرف الفتاة مع من حولها؟ وماذا يجب على الآخرين تجاهها؟ كيف تؤهِّل نفسها للتكيف مع ظروفها ومجتمعها؟ خاصةً أن الإحصائيات تقول: إن في مصر ما نسبته 35% من الفتيات في كل من الكويت وقطر والبحرين والإمارات بلغن مرحلة العنوسة، مقابل 30% من السعودية واليمن وليبيا، بينما بلغت هذه النسبة 20% في كل من السودان والصومال، و10% في المغرب وسلطنة عمان، ولم تتجاوز في سوريا ولبنان والأردن 5%، وبلغت أدنى مستوياتها في فلسطين؛ حيث مثلت نسبة الفتيات اللاتي فاتهن قطار الزواج 1% فقط، بينما أعلى نسبة في العراق إذ وصلت 85% وإذا كان في الأمر ما يُثير الانتباه، فإنه انخفاض نسبة العنوسة في بلاد الشام وارتفاعها في منطقة الخليج مصر!!

 

متألمات يتحدثن

وإذا كانت نسبة العنوسة ليست قليلةً في أنحاء الوطن العربي فلا بد إذن أن نستمع لما تقوله العانسات عن أنفسهن وكيف يشعرن بمن حولهن؟

 

ريم (37 سنة) تقول: أشعر أنني محل شك الجميع، فأصدقاؤنا ومعارفنا يحذرون الكلام أمامي عن حياتهم الأسرية وعن أبنائهم، فهم يخافون أن أحسدَهم، وأنا أودُّ أن أصرخ فيهم: أرجوكم لا تسيئوا بي الظن، صحيح أنا عانس وأتمنى الارتباط بفارس أحلامي اليوم قبل الغد.. لكنني أبدًا لا أحسد أحدًا، أبدًا لا أحقد على أحد، بل إنني أدعو للجميع بالسعادة وراحة البال.

 

أما مي (39 سنة) فتقول: آلمني جدًّا أن صديقتي الحبيبة إلى نفسي وتوأم روحي خُطبت ولم تخبرني بخطبتها، بل إنني صُدمت عندما علمت أنها دعت كل صديقاتها إلى حفل خطبتها ولم تدعني، وهي التى كانت لا تُخفي عني سرًّا، وعندما عاتبتُها على ذلك اعتذرت بلطفٍ وقالت لي: حقيقةً كنت مشغولةً جدًّا ولم أدعُ أحدًا إلى الخطبة، أمي هي التي تولت دعوة صديقاتي ولعلها نسيت أن تدعوك، وقد أخفت عني كل تفاصيل زواجها مع أنني كنت أتمنى أن أشاركها فرحتها، وتعتبرني أختها الكبرى التي تحب لها ما تحب لنفسها، لا أن تخاف مني أن أحسدها وتخفي عليَّ ما يسعدها!! وتضيف: أدعو الله أن يسلمها، وأن يتم زواجها على خير.

 

أمي تجرح مشاعري

تقول (س- أ): أعلم أنني كبرت في السن وفاتني قطار الزواج كما يقولون، لكن هذا لا يعطي أمي الحقَّ في أن تجرح كرامتي وتقوم بعرضي على الناس، وتلحّ عليَّ أن يزوجوني أو يبحثوا لي عن عريس، وتضيف أنها كلما زارتها صديقاتها ممن لديهن شبابٌ لم يتزوجوا تقوم بعرضي عليهن؛ لعلهن يزوجنني أحد أبنائهن حتى لو كان أصغر مني سنًّا!! حقًّا إن أمي تجرح كرامتي بفعلها هذا، وكم طلبت منها أن تكفَّ عن عرضي كالسلعة البائرة، لكنها دائمًا تقول لي: إنتي مش عارفة مصلحتك!!

 

وتحكي نهى عن معاناتها مع والدها فتقول: أنا إنسانة ملتزمة، والحمد لله، أرتدي الحجاب، وأخاف الله عز وجل، لكنني تأخرت في الزواج، وكلما تقدم شخص ليخطبني يختفي بعد أول لقاء وكأنه (فصّ ملح وذاب) المشكلة فيَّ، فأنا أعلم أن الأمور بمقادير، وأن ما أخطأني لم يكن ليصيبني، فأنا راضيةٌ والحمد لله، المشكلة في أبي الذي يفتعل معي المشكلات من حين لآخر حتى أخلع الحجاب وأضعَ المساحيق على وجهي؛ لأن الحجاب في رأيه- غفر الله له- هو سرُّ تأخري في الزواج، أدعو الله أن يُصلح حاله ويغفر له، آمين.

 

دجل وشعوذة

تقول نجلاء: بسبب تأخري في الزواج فإن أمي وخالتي تصران على أن أذهب معهما إلى عرَّاف أو حتى إلى كاهن في الكنيسة؛ لنعرف منه- كما يقولون- ما إذا كان شخصٌ قد "عمل لي عملاً" حتى لا أتزوج أو لا، وهكذا تخاريف كثيرة يوسوس بها الشيطان لهما، حتى حوَّلتا حياتي إلى عذاب بكثرة الجدال في هذا الأمر.

 

وتضيف: أذكر أنني في آخر نقاش دار بيننا لم أتمالَك أعصابي فانفجرت فيهما صارخةً "كفاية تخاريف وخزعبلات"، وتركت لهما المكان وانصرفت.

 

تقول د. ناهد عبد المجيد (مدرسة في قسم الشريعة بدار العلوم) لكل فتاة تأخر بها سن الزواج: يا ابنتي لا تشغلي بالك للناس، فالعقلاء والأسوياء يعلمون أن الدنيا أقدارٌ، فهناك مَن لم تتزوج، وهناك مَن تزوجت ولم تُوفَّق في الزواج، وهناك مَن تزوجت ولم تنجب، وكل هؤلاء لم يسلمن من ألسنة الناس، فالمنع ابتلاءٌ، كما أن العطاء أيضًا يمكن أن يكون ابتلاءً.
وتضيف: كل من ينظر إلى العانس على أنها مسئولة عن وضعها وعدم زواجها فهو جاهلٌ أيًّا كانت درجته العملية، فكل إنسان له قدَرُه المحفوظ عند ربه، فلا تقيمي وزنًا يا ابنتي إلى هؤلاء، وليكن همك فقط الرضا بقضاء الله والشاعر يقول:

إذا ما وصلنا برب الكون أنفسَنا        فما الذي في حياة الناس نخشاه؟!

 

وتنصح د. ناهد كلَّ فتاة تأخَّرَ بها الزواج أن تستغل فراغَها في طاعة الله، وتقول: ما دمت تعيشين فراغًا فاشغلي نفسك بحفظ القرآن وحضور حلقات العلم في المساجد فستجدين حلاوةً لا يمكن أن نصفها.. متِّعي نفسك بقيام الليل، وعلاقتك بربك ستُغنيك عن الناس، واعلمي أن أهلَ الابتلاء أقربُ إلى الله من غيرهم، فألحِّي على ربك بالدعاء في جوفِ الليل، والله سميع الدعاء، ولن يضيِّعَ دعاءَك إن شاء الله، وليكن دعاؤك: اللهم ما رزقتني مما أُحب فاجعله قوةً لي فيما تحب، وما حجبت عني مما أُحب فاجعله فراغًا لي فيما تحب.

 

وتقول د. ناهد: إذا كانت الشهوة تلحُّ عليكِ فركِّزي على الصيام حتى تتأقلمي وتهدأ شهوتك، والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أحصن للفرج وأغض للبصر، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"، ولا تشغلي فكركِ بعرض نفسك هنا وهناك، فالله أدرَى بما يُصلح عباده، إن كان التعجيل خيرًا عجَّل لك، وإن كان التأخر خيرًا أخَّر لك، ﴿وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُوْلاً﴾ (الإسراء: 11).

 

لماذا نتحيز ضد المرأة؟

يقول د. أحمد المجدوب- المستشار بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية- إن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر ذكر أن هناك حوالي 3.5 ملايين فتاة فوق سن 35 عامًا لم تتزوج بعد في مقابل 5 ملايين شاب لم يتزوجوا، ومع ذلك فإن المجتمع في مصر ينحاز كثيرًا إلى الرجل، فتجده يصف الفتاة بالعانس ويستخدم عبارة أعزب للشاب.

 

ويضيف: إن المجتمع يضاعف من معاناة المرأة العانس بكسرة الهمز واللمز والأمثال السخيفة، فنحن نحتاج إلى تعديل سلوكنا الاجتماعي، فلا بد أن يكفَّ الناس عن التدخل في شئون الآخرين، ويُشيد د. المجدوب بتجربة بعض الجماعات الإسلامية التي تقوم بعمل لجان لتزويج الشباب والفتيات ومساعدتهم مايًّا ومعنويًّا على الزواج.

 

وينصح كلَّ فتاة تأخَّرَ بها الزواج بأن تدرك أن هناك فتياتٍ تأخر بهن الزواج لكنهن نجحن اجتماعيًّا نجاحًا باهرًا، حتى إن كل من يعرفهن يسعى لجلب الزوج لهن ويثني عليهن بأجمل صفات، وهناك ناجحات في عملهن وعلمهن رغم تأخر زواجهن.

 

في أحوال كثيرة يرجع التأخر في الزواج لعدم وجود علاقات اجتماعية كافية، فاخرجن إلى المجتمع والأقارب وأقدمن على العمل التطوعي للتعرف على الناس، وأظهِرن أنفسَكن للمجتمع وللآخرين ولكن بما يحفظ كرامتكن.. تريَّثي يا ابنتي في رفض مَن يتقدم لكِ؛ حتى لا تندمي على رفضك، فالعمر يجري بسرعة وما مضى لا يعود.. اهتمي بمظهرك بما يحفظ وقارك وبما يتفق مع الشرع، ولا تهملي ثيابك وأناقتك.

 

ويدعو الدكتور المجدوب صنَّاع الدراما والإعلام أن يقدموا موضوعاتٍ تَنفي من الأذهان أن التأخر في سن الزواج كارثةٌ وفضيحةٌ، وعلى الإعلام أن يقدم نموذجًا لفتيات تأخر زواجهن، لكنهن راضياتٌ ناجحاتٌ في الحياة وغير معقَّدات، ويقول: الزواج مطلب ضروري، لكنه ليس نهاية العالم، يجعل الفتيات تشعر بالفشل والإحباط ثم الاكتئاب ثم الحالة المرضية.

 

نجحن رغم المعاناة

تقول جيهان: أُسخِّر وقتي لحضور دورات في تنمية الذات وفي الكمبيوتر واللغات، فملأت وقتي كله حتى إنني في حاجة إلى المزيد من الوقت لأهتم بأمي وأخوتي، ولا أُلقى بالاً لتأخري في الزواج، فكل شيء قسمة ونصيب.

 

أما سُها فإن تأخرها في الزواج لم يحرمْها من الأمومة التي تملأ وجدانَها، فهي تحب الأطفال كثيرًا، ففكرت أن تشبع هذه الغريزة فعملت مدرِّسةً في رياض الأطفال وأحبَّتهم وتعلَّقت بهم جدًّا، فبادلها الأطفالُ الحبَّ، حتى إن أمهاتهم غمرنها بالهدايا والشكر لحسن تعاملها معهن، وبهذا حلَّت جزءًا من مشكلة التأخر في الزاوج فكل أطفال المسلمين أطفالها، وهذا الشعور يُسعدها ويُرضيها.