يحلو للبعض -فى خضم الأزمة التى يعيشها الإخوان الآن- أن يتناولوا الجماعة بالنقد، ويتهموها بالعجز وسوء الإدارة، غاضين الطرف عن إنجازات تاريخية على أرض الواقع، متناسين القيود والعقبات، المحلية والدولية، التى توضع فى طريق الجماعة، فى السر والعلن، منذ نشأتها وحتى الآن.
وتتهم الجماعة هذه الأيام بفشلها فى الناحية الإعلامية، ويصر البعض على أن هذا الفشل، مقابل نجاح إعلام الخصم، هو الذى قاد إلى الانقلاب العسكرى الدموى الذى أهلك الحرث والنسل.. وهذه الاتهامات تقتضى عدة توضيحات نوجزها فى الآتى:
- انتبهت الجماعة إلى أهمية الإعلام، منذ نشأتها، فى وقت شحت فيه وسائله، لكن لعلم المؤسس -البنا رحمه الله- بأن الإعلام هو لسان الحال والمقال، فقد أنشأ أول مطبعة للإخوان فى وقت مبكر ( 15من مارس 1934م)، والتى قامت بطبع رسائل الجماعة، وبعض كتب التراث، إضافة إلى جريدة الإخوان المسلمين (الأسبوعية) التى أصدروها الإخوان فى 15 من يونية 1933.
وقد توالت الإصدارات الإخوانية بعد هذا التاريخ، فأصدروا مجلة النذير (30 من مايو 1938م)، ثم مجلة المنار -الشهرية (18 من يوليو 1939)، ثم مجلة التعارف -الأسبوعية (2 من مارس 1940م)، ثم مجلة الإخوان المسلمون -نصف الشهرية (29 من أغسطس 1942م)، ثم صحيفة الإخوان المسلمين -اليومية (5 من مايو 1946م)، ثم مجلة الشهاب -الشهرية (14 من نوفمبر 1947م)، ثم مجلة الكشكول الجديد -الأسبوعية (6 من أغسطس 1948م)، ثم مجلة المباحث القضائية -الأسبوعية (30 من مايو 1950م)، ثم صحيفة الدعوة - الأسبوعية (30 من يناير 1951م)، ثم مجلة المسلمون -الشهرية (30 من نوفمبر 1951م)، ثم صحيفة الإخوان المسلمون -الأسبوعية (20 من مايو 1954م).
- وكانوا قد أنشئوا إذاعة خاصة تسلمتها الحكومة بعد قرار حل الجماعة عام 1948.
- كما أنشئوا الفرق المسرحية منذ عام 1934م، وهم أول من نقل المسرح ووسائل الترفيه إلى القرى.
- مع كل تضييق على الجماعة، ومع كل تربص من جانب حكومات ما قبل انقلاب 1952 كان يتم منع هذه الجرائد والمجلات من الصدور، وإغلاق مطابعها، وملاحقة أصحابها، والتضييق على رسائل ومنشورات الجماعة.
- ثم غيب الإخوان فى السجون -كما هو معلوم- وقد غابت معهم هذه الجرائد والمجلات، فضلا عن عدد لا بأس به من دور النشر والمطابع والمكتبات المتميزة.. ثم بدأ الإخوان يخرجون من السجون، فرادى وجماعات، بعد هلاك الانقلابى الأول، حتى أفرج عن آخرهم أوائل عام 1974..
وما إن تم تجميع صفوفهم وعودة غائبهم حتى بدءوا فى الإعداد لأعمال إعلامية تعبر عنهم وتقدم مبادئهم وأفكارهم للمواطنين، فأنشأوا الدعوة (الإصدار الثانى) (يوليو 1976).. وأعادوا تشغيل عدد من دور النشر التى توقفت، وأنشأ أعضاء الجماعة دورًا جديدة ومطابع حديثة قدمت إنتاجًا غزيرًا فى مجال كتب الفكر والتراث والدعوة.. ثم انقلب عليهم السادات كعادة حكامنا العسكر العلمانيين، ثم قتل فتوقف كل شىء وأغلقت مجلة الدعوة (سبتمبر 1981م)، فأصدروا مجلة (الدعوة المهاجرة) من خارج مصر، من نوفمبر 1981 حتى توقفت عام 1998.
- منذ يوليو 1987، أعتبر نفسى شاهدًا على تجربة الإخوان الإعلامية، بل مشاركًا فيها، ففى بداية هذا الشهر دخلت مكتب الإرشاد لأول مرة، والكائن فى (1 شارع سوق التوفيقية بالقاهرة) لأقابل الأستاذ جابر رزق، المتحدث الإعلامى باسم الجماعة ورئيس تحرير مجلة (لواء الإسلام) التى تولى الإخوان إعادة إصدارها -بعد استئجارها من أصحابها قبل هذا التاريخ بقليل- وكان المكتب يتكون من عدة حجرات، كانت (حجرة الإعلاميين) فى مواجهة الداخل مباشرة، صحيح لم يكن بها سوى الأساتذة: جابر رزق، أحمد عز الدين، صلاح عبد المقصود، بدر محمد بدر، ثم انضم العبد لله إليهم فى هذا اليوم.. لكن وجودها فى المكتب -فى حد ذاته- له معنى، إذا علمنا أن هناك نحو 12 قسمًا للجماعة غير اللجان والوحدات الأخرى، ما يؤكد حرص الجماعة على الجانب الإعلامى، رغم ما تلاقيه من عنت السلطة وعدم استقرار العلاقة معها، وقلة المال وكثرة المصادرات والتضييق على التوزيع، وإجهاض أى محاولة جادة فى هذا المجال.
- كان الإخوان قد أصدروا (البشير) -كتاب دورى عام 1986 أى قبل إصدار (لواء الإسلام)، لكن العدد الأول والأخير صودر من قبل جهاز مباحث أمن الدولة، وتم تحويل الزميل بدر محمد بدر إلى النيابة العامة ووجهت إليه التهم المعروفة فى مثل هذه المناسبات.
- العاملون فى الإعلام الإخوانى، والمتابعون له يدركون أنه يختلف -جذريًا- عن إعلام الآخرين، فإعلام الإخوان يتسم بسمات أخلاقية نظيفة، وله أهداف عقائدية راقية، ولا ينساق وراء افتراءات الخصوم الذين ليس أمامهم خطوط حمراء ولا صفراء، ومن ثم فإن هناك قيودًا على التحرير، فإعلاميو الإخوان لا يستحلون الكذب، ولا يأكلون السحت، ولا يمارون الآخرين فى التدليس وقلب الحقائق، ولا يقايضون على مبادئهم وأفكارهم كما يفعل غيرهم.
- كانت تجربة (لواء الإسلام) ثرية ورائعة، بدأت المجلة فى الصدور بإمكانات بسيطة للغاية، واستمرت لمدة خمس سنوات حتى أغلقت (فى سبتمبر 1991م) لموقف الإخوان من حرب الخليج ..وهى تطبع (100 ألف نسخة) وهو عدد لم تصل إليه وقتها مجلة من المجلات المصرية -رغم مشكلات التوزيع التى عاصرتها بنفسى ووصلت إلى حد منع عرض المجلة من الأساس، بتعليمات من ضباط أمن الدولة، ورغم ملاحقات الدولة وضغوطها على الجماعة وعلى مسئولى المجلة، ووضع قيود على التحرير، والاعتراض على ما ينشر وما لا ينشر، والتهديد بالغلق فى كل لحظة.
- معلوم أن التجارب الإعلامية تحتاج أولا إلى استقرار، وتحتاج إلى إمكانات، مادية وبشرية، وهو ما لا يتوافر فى إعلام الجماعة.. فالإخوان -منذ أربعينيات القرن الماضى- وهم خصوم الأنظمة المتعاقبة، ما يمنع من استقرار مشاريعهم الإعلامية، ولك أن تتخيل ما قاله الزميل صلاح عبد المقصود وهو يعرف نفسه فى ندوة عقدها بنقابة الصحفيين فى مطلع التسعينيات لنيته الترشح فى انتخابات النقابة.. قال: «عملت فى الدعوة فأغلقت، وفى البشير فأغلقت وفى لواء الإسلام فأغلقت، وفى...». وأما الإمكانات فمعلوم أن الإخوان ينفقون من جيوبهم، ومهما كان فيهم أغنياء فإن ما ينفقون للدعوة لا يذهب للإعلام وحده، ما يجعل إعلام الإخوان فقيرًا فى تمويله.
- وإذا كان الإعلان هو مصدر مهم للتمويل، فإنه ممتنع على إعلام الإخوان، فالمعلن الإخوانى يتردد فى الإعلان فى وسائل الجماعة لئلا يحسب عليها فتهدد السلطات مشاريعه، وغير الإخوانى يمتنع من الأساس عن ذلك لعلمه بالخصومة القائمة بين السلطة والجماعة، ومن ثم فإن إعلام الإخوان يأتى -غالبًا- خاليًا من الإعلانات، ما يمثل عقبة كئودًا أمام عمليات التطوير والتوسع والتحديث.
- وتعلم الحكومات المتعاقبة أن الإعلام هو قاطرة الجماعة، من أجل ذلك أنشئت (وحدة مكافحة الإعلام الإخوانى) لملاحقة أى عمل إعلامى للجماعة، وتفجير أو إفشال القائم منه.. أو إجهاضه منذ البداية:
[تم اعتقال الزميل أحمد عز الدين أواخر عام 2006، وضمه لقضية ميليشيات الأزهر، ثم تم تحويله إلى المحاكمة العسكرية عام 2007 -بعد شروعه فى تأسيس مكتب إعلامى للإخوان]، [تم تلفيق أكثر من تهمة للعبد لله، منها: تزوير نقود، أموال عامة، مصنفات فنية - لأنى أسست مكتبًا للإخراج الصحفى.. ومازال المكتب مستهدفًا حتى تم التحفظ عليه مؤخرًا].. وهناك عشرات الأمثلة على مثل هذه الملاحقات لا يتسع المقال لذكرها.
- ومع كل ضربة وجهت للإخوان كانت توجه أولا لوسائلهم الإعلامية القائمة، فأغلقت البشير إبان انتخابات 1987م، وآفاق عربية (انتخابات 2005)، دار التوزيع (انتخابات 2005)، الحرية والعدالة (الانقلاب)، مصر 25 (الانقلاب).. وإعلاميو الإخوان الآن إما: مسجونون، أو مطاردون، أو تحت المراقبة، غير الشهداء -تقبلهم الله فى الصالحين.
- للذين ينقدون الآن على غير هدى، وللذى أطلق على موقع (إخوان أون لاين)، (إخوان أوف لاين) تهكمًا وسخرية: إنكم لا تدرون كيف يدار هذا الموقع وغيره، ولو عرفتم كيف يدار وكيف لا يأمن من يديرونه على أنفسهم وأبنائهم لاستحييتم من الجلوس على مكاتبكم تديرون (الماوس) هنا وهناك.. إنهم يديرون هذه المواقع وهم مطاردون، يتقاضون (ملاليم) ويكفيهم شرفًا أنهم مستمرون فى الصدور، فلم يؤثروا السلامة فيغلقوها، ويستريحوا ويريحوا أمثالكم.
- لقد أتاحت لى ظروف عملى الخاصة، بعد عام 1994م وحتى الآن، الاختلاط بعدد كبير من الإعلاميين، من غير الإخوان منهم مشاهير على رأس مشروعات ومؤسسات ضخمة ويراهم البعض أساتذة فى الإعلام.. فما رأيت أمهر من إعلاميى الإخوان، لولا أنهم حرموا الفرص التى أتيحت لهؤلاء، وكيف لا يكونون أمهر وهم أرباب القلم وأهل الفكر وأصحاب العقيدة.. ومن أراد أن يتأكد مما أقول فلينظر إلى شباب الإخوان الذى لم يكن لهم اسم فى مؤسساتهم الإخوانية، ثم صاروا أعلامًا فى مؤسسات إعلامية عربية ودولية.
- تمثل تجربة (آفاق عربية) واقع إعلام الإخوان، وما يتعرض له من إحباطات خارجة عن إرادة الجماعة.. لقد شهدت بنفسى الاتفاقات الأولى لهذه التجرية عام 1995، والتى كانت مجحفة وغريبة، لكن ما باليد حيلة، فلم يكن للجماعة التى صارت ملء السمع والبصر وسيلة إعلامية واحدة بعد تعطل لواء الإسلام عام 1991، سوى عدة مقالات هنا وهناك، وصفحتين (عمياوين) فى جريدة النور استمرتا لعدة شهور.. وقد أمضى الاتفاق وبدأت الجريدة فى الصدور على يد الإخوان، استمرت التجربة لمدة إحدى عشرة سنة، كانت كلها عذابًا وتوترًا، وكل فترة يضغط ضباط لاظوغلى على رئيس التحرير ، فيضغط على الإخوان فتتوقف الجريدة لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر.. وهكذا، عمل ثم توقف، ثم عمل وتوقف.. ولا يدرك ضرر هذا الإجراء إلا من يعرف أهمية دورية الصدور وضوابط التوزيع، واستقرار المطبوعة.. وهذا كان مقصودًا بالطبع وإلا حطمت الجريدة الأرقام القياسية فى التوزيع، والدليل: أنه بالرغم من هذه المعوقات فلم يقل توزيعها عن (65000) نسخة، زادت إلى 100000 نسخة فى مناسبات بعينها.
- إذا أردنا تقييم تجربة الإخوان الإعلامية فلننظر ماذا قدمت - رغم المعوقات العديدة، بل المانعة لصدروها، لولا رجال مؤمنون، عملوا فى ظروف غاية فى الصعوبة والتعقيد.. إن الناظر لإصدار مجلة الدعوة ثم لواء الإسلام، ثم آفاق عربية وما تبعها من صحف ومجلات يدرك الفرق، فقد تحسنت الجوانب التحريرية والفنية إلى حد كبير، بل نافست -أحيانًا- مؤسسات كبيرة، فضلا عن وجود كوادر إعلامية إخوانية -فى شتى التخصصات- وبأعداد كبيرة، وهؤلاء إفراز لتلك التجارب التى لم تكن مملوكة للإخوان، فماذا لو كانت مملوكة لهم، وماذا لو كانت الأمور مستقرة كما استقرت للمؤسسات التى تعد ناجحة فى نظر الناقدين؟!
- لا أدعى الكمال لتلك التجربة، ولا أقول ليس فى الإمكان أبدع مما كان.. لكن ألفت انتباه الناقدين إلى تجربة رائعة للجماعة لكنها لم تكتمل، أقصد تجربة إصدار صحيفة يومية وقناة فضائية (الحرية والعدالة، مصر 25)، لقد كان لى شرف متابعة خروجهما إلى النور، وبفضل الله أدركت أن لدى الجماعة الكوادر الماهرة القادرة على الإنجاز السريع والعمل المتقن، صحيح كانت هناك سلبيات، لكن إيجابيات التجرية وواقعها يؤكدان ما سبق أن تحدثت عنه: أن لو استقرت الأمور للإخوان لرأينا لهم إعلامًا ينافس - بل يتفوق على أى إعلام آخر.. ولدينا الأمل أن يأتى هذا اليوم.. ويقولون متى هو؟!.. قل عسى أن يكون قريبًا.