..وتلك إرادة الأنبياء والمرسلين، والصديقين والشهداء والصالحين، فإنهم لا يضرهم قلة المؤمنين وكثرة الدهماء الغوغائيين، إنما يعنيهم: هل هم مستقيمون على الطريق أم انحرفوا عن الغاية والسبيل؟!

أجالس بعض الشباب فأجد فى نفوس البعض منهم فزعًا وهلعًا مما يقع من أحداث يتغلب فيها أهل الباطل على أهل الحق، ويرون ذلك نهاية المطاف ومبلغ الشوط، ولا يدركون أن تلك الأحداث ليست شيئًا يُذكر فى تاريخ الأمم العزيزة الأبية التى تسعى لحريتها وكرامتها وتبغى سلامة دينها وعزة أوطانها.

إن من أخطر الآفات التى تهدد الصف المسلم، أن يُصاب أبناؤه بالعجز وقلة الحيلة، وأن تحيط بهم الوساوس من كل مكان، وأن يظنوا بالله الظنونا، فإن هذا مرض نفسى عضال، يقعد صاحبه عن السعى، ويشغله عن التفكير السليم ويهيئ له الخير شرًا والبر حمقًا وسفاهة.. وهذا العجز ناتج عن وهن فى الدين وضعف فى الإيمان؛ ولقلة الصبر وعدم تعويد النفس احتمال المكاره أو كفها عن الحزن والجزع.

كما أن من الآفات أيضًا: الاستعجال دون النظر إلى ناموس الله فى خلقه، ودون الالتفات إلى أن هناك إرادة تعلو فوق جميع الإرادات وتعمل من حيث لا يراها أحد، وأنها كاتبة فى قانونها السماوى الأزلى أن الحق أحق أن يتبع، وأن الباطل زاهق لا محالة، وأن على أهل الحق أن يعملوا، واثقين أن العاقبة لهم، وأن يوقنوا أن كل شوكة يشاكونها فى هذا السبيل سوف يؤجرون عليها، وأن كل تأخير فى مجىء النصر إنما هو لصالح أهل الحق؛ كى يتميز صفهم وتزيد أجورهم، وكى ينكشف -فى المقابل- الزائفون من غير المخلصين أو أصحاب المصالح الذين تغريهم المكاسب أينما كانت؛ مع أهل الحق أو مع أهل الباطل.

يغيب عن هؤلاء الشباب ما وقع لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، فلم يدرسوا سيرهم ولم يفقهوا تاريخهم، ولو فقهوه لعلموا أن هذا التاريخ يعيد نفسه، وأن ما يمر بنا هو حلقة فى سلسلته الطويلة الممتدة التى لم تنقطع يومًا، وغرّ شباب اليوم ما يرون من ضجيج الخصوم وإمكانات الأعداء، وفتنهم أيضًا كذب هؤلاء وهؤلاء، وجرأتهم على أهل الحق، ما جعلهم يتصورون أن الحق غاب للأبد وأن الباطل قام للأبد، وهذا وهم، فإن النبى كان يأتى معه الرهط، ويأتى معه الرجلان، ويأتى معه الرجل، ويأتى النبى -وهو المؤيد من قبل الله- ولا أحد معه، وفى المقابل كان أقوامهم مدججين بكل الإمكانات: العددية والنخبوية والإعلامية.. إلخ، فكانوا يسخرون منهم، ويضربونهم، بل كانوا يقتلونهم، فما زحزحهم ذلك عن عقيدتهم قيد شعرة، وما فتنهم سحر الظالمين أو سيوفهم المسلطة عليهم، بل رأينا منهم من مكث فى تلك البيئات العفنة مئات السنين، ما ضره شىء مما يفعلون، وما تراجع لحظة عما فى عقله ووجدانه من وجوب الدعوة وحتمية توصيل الرسالة.

إن يوسف -عليه السلام- كان شابًا فتيًا أوتى شيئًا عظيمًا من جمال الخلق والخلقة ورجاحة العقل، صبر على أذى أشقائه، وكان أذى قاتلا، وصبر عن المعصية من امرأة ذات منصب وجمال، وصبر على الظلم من (قضاء فاسد!!)، وقبل السجن راضيًا بقضاء الله، وطمعًا فى أن يبعده هذا السجن عن المعاصى والفتن، وكأنى به لما سُئل: كيف مرت عليك تلك السنون الصعاب؟ قال: {إنَّهٍ مّن يّتَّقٌ $ّيّصًبٌرً فّإنَّ پلَّهّ لا يٍضٌيعٍ أّجًرّ پًمٍحًسٌنٌينّ} [يوسف: 90].. إنها عزيمة أهل الحق التى لا تلين لها قناة، وإرادتهم القوية التى لا يتطرق إليها عجز أو ضعف، بل هى نفوس الكبار الذين ينظرون إلى خصومهم من أهل الباطل نظرة سخرية وازدراء؛ لعلمهم أن الله أكبر من هؤلاء جميعًا، ومن يتوكل عليه فهو حسبه، وهو ولى الذين آمنوا، فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.

وأبو بكر -رضوان الله عليه- وهو الرجل الذى لا يُسمع صوته، الرقيق الحليم، وجدناه يتقدم دون تردد فى مواضع تأخر فيها عمر، الذى كان يخشاه الشيطان، ووجدناه يثبته فى موضع يتضعضع فيه يوم موت النبى صلى الله عليه وسلم، ووجدناه لا يخاف فى الله لومة لائم، ولا يخشى أحدًا غير الله.. إنها والله الإرادة والعزيمة المؤمنة التى لا يخيفها مخلوق أيًا كانت قوته وعزوته، ولا تردها عن طريق الحق طنطنة ولا شنشنة، ولا تخشى ضياع دنيا أو إزهاق روح، أو فقدان عزيز أو هلاك حبيب طالما كان ذلك فى الله ولله.. وهذه العزيمة إنما شكلها الإيمان، وصاغها الخوف من الرحمن؛ فإن من خافه لا يخاف أحدًا من عبيده المخلوقين.