(1) للَّهِ، لا لِلْعِبَاد:
يتألَّمُ كثيرٌ من الإِخْوانِ والأَخَواتِ لمَا رَأَوْا من إنْكارِ كَثِيرٍ من النَّاسِ للمَعْروفِ الَّذِي صَنَعوه إلَيْهم علَى مَدَى عُقُود، واصطِفَافِهم معَ الانقِلَابِيِّين والظَّالمِين، وقِيامِ بعْضِهم بالوِشَايَة بالإِخوانِ لدَى أَمْنِ الانقلابِ الظَّالم، ويَرِدُ أَحيانًا علَى خاطرِ البعضِ -تحتَ وطْأَةِ الشِّدَّة- أن القومَ لا يَسْتَحِقُّون بذَلَ المعْرُوف، ولا يَنْبغي الاستمرارُ في حُسْنِ الصَّنِيعِ إلَى مَنْ لا يَحْفَظُ الجميلَ، لَكِنَّ الإخوانَ والأَخَواتِ ما أَسْرَعَ ما يتذكَّرُون أنَّهم يُعَاملون الَّلَه تَعَالَى بإِحْسَانهم، وأنَّ المعْرُوف يقعُ في يدِ اللَّهِ قبلَ أن تَمْتَدَّ لأخْذِه أيدي العِبَاد، فيستَغْفِرُون اللَّهَ منْ هذا الخَاطِر، ويُجَدِّدُون العَزْمَ على التَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ بصِناعَةِ المعْرُوف وخدْمَةِ الأمَّة، مُحْتَسِبين عند اللَّهِ ما يَلْقَوْنَ من إِساءَةٍ ونُكْران، وَاثِقين أنَّ ما عندَ اللَّهِ لا يَضِيع.


(2) صَاحِبُ صَنَائِعِ المَعْرُوفِ لَا يُخْزِيهِ اللهُ أَبَدًا:
مِنْ سُنَنِ اللهِ الماضِيَةِ: مُكَافَأَةُ صَانِعِي المَعْرُوفِ وفَاعِلِي الخَيْرِ إِلَى الخَلْقِ بأَفْضَلَ ممَّا صَنَعُوا ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾، فمَنْ كَشَفَ كُرْبَةَ إِنْسَانٍ كَشَفَ اللهُ كُرَبَهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، ومَنْ يَسَّرَ عَلَى عِبَادِ اللهِ يسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ، ومَنْ أَعَانَ الخَلْقَ وكَانَ فِي حَاجَتِهِم وَجَدَ اللهَ فِي مَعُونَتِهِ عِنْدَ حَاجَتِه. وبهَذَا نَزَلَتْ آيَاتُ الكِتَابَ، وجَاءَتْ أحَادِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشَهِدَتْ وَقَائِعُ التَّارِيخ.


أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَنَّ خَدِيجَةً رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ فَزِعًا وتَزَمَّلَ فِي ثِيَابِهِ؛ مُتَخَوِّفًا مِمَّا رَأَى: «كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ».
وأَرَادَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ مَنْ يَفْعَل الْخَيْر لَا يُجَازَى عَلَيْهِ بِالشَّرِّ، بلْ يَحْفَظُه اللهُ منَ السُّوءِ، وهَذَا مَا يُطَمْئِنُ دُعَاةَ الشَّرْعِيَّةِ وأَنْصَارَ الحَقِّ الَّذِينَ مَا فَتِئُوا يُقَدِّمُونَ صَنَائِعَ المَعْرُوفِ لِأمَّتِهم ولِشَعْبِهِم عَلَى مَدارِ تَارِيخِهم، ولَا يَزَالُون، ولَنْ يُخْزِيَهم اللهُ ولَنْ يُضَيِّعَ أَجْرَهُم.

وهَذَا مَا جَرَى لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ صَنَعَ المَعْرُوفَ وسَقَى لِلْفَتَاتَيْنِ، فَمَا أَسْرَعَ مَا كَافَأَه اللهُ بِالأَمْنِ بَعْدَ الخَوْفِ، وقَالَ له الرجل الصالح ﴿لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.


وتِلْكَ هِيَ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي المُجَازَاةِ، وإِحْسَانُ اللهُ أَتَمُّ وأَعْظَمُ، وقدْ بَشَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ صَنَائِعِ المَعْرُوفِ بِذَلِكَ، فقَالَ فيما أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».


وَقَالَ فيما أَخْرَجَ مُسْلِمٌ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
وَقَالَ فيما أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: «مَنْ أَرَادَ أَنْ تُسْتَجَابَ دَعْوَتُهُ وَأَنْ تُكْشَفَ كُرْبَتُهُ فَلْيُفَرِّجْ عَنْ مُعْسِرٍ».


(3) صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ:
ومِنْ أَوْضَحِ الوَقَائِعِ الدَّالَّةِ عَلَى أَثَرِ صَنَائِعِ المَعْرُوفِ فِي حُصُولِ الفَرَجِ منَ الشِّدَّةِ قِصَّةُ أَصْحَابِ الغَارِ الثَّلَاثَة الَّذِينَ تَوَسَّلُوا بِصَالِحِ أَعْمَالِهِم فَفَرَّجَ اللهُ عَنْهُم، وهي صقة معروفة مشهورة تؤكد أن فعل المعروف ذُخْرٌ يُورِثُ صاحبه النَّجَاةَ منَ المَخُوفَات، ويُعْطِيهِ الإِغَاثَةَ عِنْدَ الشَّدَائِد والمُلِمَّات، ويَقِيهِ مَصَارِعَ السُّوء والآفَاتِ والهَلَكَات.


قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ»


وَفيما أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: «عَلَيْكُمْ بِاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ وَعَلَيْكُمْ بِصَدَقَةِ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُطْفِئُ غَضَبَ اللَّهِ عَزَّ وجل».


وَفيما أَخْرَجَ الحاكم: «الْمَعْرُوفُ إِلَى النَّاسِ يَقِي صَاحِبَهَا مَصَارِعَ السُّوءِ، وَالْآفَاتِ، وَالْهَلَكَاتِ».


وهَذِهِ الأَحَادِيثُ يشُدُّ بعضُهَا بَعْضًا، ويَطْمَئِنُّ مَعَهَا العَبْدُ الَّذِي يُعَامِلُ رَبَّه بِتَقْدِيمِ الخَيْرِ والمَعْرُوفِ إِلَى خَلْقِه بأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى لَنْ يُضِيعَ عَمَلَه، وسَيَرَى أَثَرَه فِي الشِّدَّةِ وهُوَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَيْه، فِي شِدَّةِ الدُّنْيَا بتَثْبِيتِه وإِنْجَائِه، وفِي شِدَّةِ الآخِرَةِ بإِدْخَالِه الجَنَّةِ بفَضْلِ الله.


(4) صَنَائِعُ المعْرُوفِ منَ المَظْلُومِ أَحْرَى بِنَصْرِ اللَّهِ:
ثُمِّ إِنَّ مَا يَفْعَلُه الانْقِلَابِيُّونَ ظُلْمٌ أَيُّ ظُلْمٍ، وذَلِكَ أَحْرَى أنْ يُفَرِّجَ اللهُ عَنْ المَظْلُومِ، فكَيْفَ إذَا كَانَ المَظْلُومُ صَاحِبَ سَوَابِقَ فِي الخَيْرِ وصَنَائِعَ منَ المَعْرُوف!.


أَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: «كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الرَّجُلَ المَظْلُومَ إِذَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ دَفَعَ عَنْهُ»، وفي رواية: «كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ عَنِ الرَّجُلِ الْمَظْلُومِ».


(5) صَاحِبُ المَعْرُوفِ لَا يَقَعُ، فاسْتَبْشِرُوا خَيْرًا:
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ الْحُطَيْئَةُ وَكَعْبٌ عنْد عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَنْشَدَ الْحُطَيْئَةُ:

مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يُعْدَمْ جَوَازِيَهُ    لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ
  
فَقَالَ كَعْبٌ: «هِيَ وَاللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ، لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ خَلْقِه».


وفي الحِكْمَة: «صَاحِبُ الصَّدَقَةِ والمَعْرُوفِ لَا يَقَعُ، فَإِذَا وَقَعَ أَصَابَ مُتَّكَأً»؛ إذْ البَلَاءُ لا يَتَخَطَّى الصَّدَقةَ؛ فَهِي تَدْفَعُ المَصَائِبَ والكُرُوبَ والشَّدَائِدَ المَخُوفَة، وتَرْفَعُ البَلَايَا والآفَاتِ والأمْرَاضَ الحَالَّة.

مَنْ يَزْرَعِ الخَيْرَ يَحْصُدْ مَا يُسَرُّ بِهِ    وزَارِعُ الشَّرِّ مَنْكُوسٌ عَلَى الرَّأسِ

  
فَاسْتَبْشِرُوا خَيْرًا أَيُّهَا الأَحْرَارُ، فَمَا قَدَّمْتُمْ وما تقدمون لِأُمَّتِكُمْ ووَطَنِكِمْ منْ أَسْبَابِ الخَيْرِ، منَ المَدَارِسِ والمُسْتَشْفَيِاتِ والمَصَانِعِ وكَفَالَةِ ذَوِي الحَاجَاتِ وتَيْسِيرِ مَعَايِشِ النَّاسِ وتَوْفِيرِ الخِدْمَاتِ العِلَاجِيَّةِ والغِذَائِيَّةِ لِعُمُومِ الأُمَّةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ منْ صَنَائِعِ المَعْرُوفِ لَنْ تَنْسَاها الأُمَّةُ لَكُم:

مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ يَلْقَ الخَيْرَ مُدَّخَرًا  والعُرْفُ لَا يَنْتَهِي بِالنَّاسِ كُفْرَانَا

  
وإنْ نَسِيَهَا أَوْ تَغَافَلَ عَنْها بَعْضُ النَّاسِ فَهِي مَحْفُوظَةٌ عِنْدَ اللهِ، وسَيَجْعَلُ اللهُ مَا قَدَّمْتُمْ مُخْلِصينَ سَبَبًا مُعِينًا لَكُم فِي شِدَّتِكُم ومُقَوِّيًا لَكُم في جِهَادِكُم، ومَخْرَجًا لَكُم منَ الشَّدَائِدِ الَّتِي ابْتُلِيتُمْ بِهَا فِي ظِلِّ هَذَا الانْقِلَابِ السَّاقِطِ عَنْ قَرِيبٍ بإِذْنِ اللهِ، وسَتَرَوْنَ أَثَرَهَا نَصْرًا عَلَى الظُّلْمِ والظَّالمينَ، وعِزًّا وتَمْكِينًا للحَقِّ وأهْلِه إن شاء اللَّه.

فَالْخَيْرُ أَبْقَى وإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ   والشَّرُّ أَخْبَثُ مَا أَوْعَيْتَ مِنْ زَادِ
  
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين.