بقلم: د. مجدي الهلالي

كثُر الحديث في هذه الأيام عن الإصلاح وضرورته وآلياته وآثاره الضرورية لأي مشروعٍ نهضوي، وبنظرةٍ سريعةٍ في فكر الإمام الشهيد حسن البنا نجد أنه حدد الخطوطَ العريضةَ للإصلاحِ في تراثه فقد خلُص إلى أنَّ الإسلامَ بالفعل هو الحل الأكيد لجميع مشكلاتنا، وأنه لا أملَ إلا بالتمسك به، واتخذه منهجًا للحياة، وخلصنا كذلك إلى أنه لا بد للإسلامِ من دولةٍ ونظام حكمٍ يتبناه، ويتخذه منهجًا له، وإلا لما ظهرت محاسنه واضحةً على أرضِ الواقع، ولا استطاع أن يُعيد أمجاد الماضي، ويحل مشاكل الحاضر.

 

وأكد أنَّ الذي يعوق وصول الإسلام إلى منصةِ الحكم هو الاستبداد السياسي الذي فرض سيطرته على كل شيء، فكان من نتائجه هذا الفساد المستشري في جسد الوطن، ومن نتائجه كذلك وأخطرها على الإطلاق، قيامه بهدم كيانِ شخصية الفرد المسلم وتفريغها من محتواها الإيجابي، وزرع رُوح الانهزامية والسلبية فيها.

 

وأنَّ الحلَ يبدأ ببناءِ الإنسان من جديد فلا سبيل لنهضة الأمة وتخلصها من الاستبداد إلا بظهور جيل جديد، جيل حر يرفض الذل والاستكانة والخضوع إلى لخالقه.. جيل يقيم الإسلام بشموله في نفسه أولاً، ثم يدعو غيره إليه، ويقيمه فيه بعون الله عز وجل.

 

فهل نبدأ من نقطةِ الصفر في بناء هذا الجيل، أم أن هناك بالفعل مَن سبق وخلص إلى هذه النتائج وبدأ في البناء؟

 

إنهم الإخوان المسلمون

إنَّ المتتبعَ لأحوال وطننا العزيز وأخباره السياسية والاجتماعية، سيجد أن هناك جماعةً كبيرةً ترفع راية الإسلام هو الحل، وأن الحكومات المتعاقبة تُحاربهم وتزجُّ بالكثيرِ منهم في السجونِ والمعتقلات، دون ذنبٍ اقترفوه سوى أنهم يدعون الناس إلى التحرر من أسر الاستبداد والالتزام بالإسلام الكامل الشامل كحلٍّ لمشاكلِ الأمة المستعصية إنهم جماعة الإخوان المسلمين.

 

نعم الإخوان المسلمون هم الذين قد بدأوا منذ سنواتٍ طويلةٍ بناء ما تهدَّم، وتكوين جيلٍ جديدٍ؛ جيل الإصلاح والإنقاذ.

 

المجدد حسن البنا

لقد أكرم الله عز وجل مصرَ والعالم الإسلامي برجلٍ مخلصٍ ظل سنواتٍ طويلةٍ يبحث في أحوالِ الأمة، والسبيل الصحيح إلى نهضتها.. درس تاريخ الدعوات الإصلاحية فتأكَّد لديه أنه لا صلاحَ للأمة إلا بصلاحِ أفرادها، ولا صلاح لأفرادها إلا بالتربيةِ والتكوينِ على مبادئ الإسلامِ الشامل لكل مناحي الحياة.

 

ذلكم هو الإمام حسن البنا- رحمه الله- مجدد الإسلامِ في القرن الرابع عشر الهجري.

 

البداية

يقول رحمه الله متحدثًا عن تطور فكرةِ الإخوان المسلمين وبروزها إلى الواقع: طالعت كثيرًا وجربتُ كثيرًا، وخالطتُ أوساطًا كثيرة، وشهدتُ حوادث عِدَّة، فخرجتُ من هذه الساحة القصيرة المدى، الطويلة المراحل، بعقيدةٍ ثابتةٍ لا تتزلزل هي: أنَّ السعادةَ التي ينشدها الناس جميعًا إنما تفيض عليهم من نفوسهم وقلوبهم، ولا تأتيهم من خارج هذه القلوب أبدًا..

 

اعتقدتُ هذا، واعتقدتُ إلى جانبه أنه ليست هناك نظمٌ ولا تعاليمٌ تكفل سعادة هذه النفوس البشرية، وتهدي الناس إلى الطرق العلمية الواضحة لهذه السعادة، كتعاليم الإسلام الحنيف الواضحة العملية.

 

لهذا وقفتُ نفسي منذ نشأتِ على غاية واحدة، إرشاد الناس إلى الإسلام حقيقةً وعملاً.. ظلت هذه الخواطر حديثًا نفسيًّا ومناجاةً روحيةً أتحدثُ بها في نفسي لنفسي، وقد أُفضي بها إلى كثيرٍ ممن حولي، وقد تظهر في شكلِ دعوةٍ فرديةٍ أو خطابةٍ وعظيةٍ أو درس المساجد إذا سنحت فرصة التدريب أو حثٍّ لبعضِ الأصدقاء من العلماء على بذل الهمةِ ومضاعفةِ الجهودِ في إنقاذِ الناس وإرشادهم إلى ما في الإسلام من خير.

 

ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي حوادث عدة ألهبت نفسي، وأهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلى وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بهذا التنبيه، والتأسيس بعد التدريس.

 

ولقد أخذتُ أفاتح كثيرًا من كبارِ القوم في وجوب النهوض والعمل، وسلوك طريق الجد والتكوين، فكنت أجد التثبيط أحيانًا، والتشجيع أحيانًا، والتريث أحيانًا، ولكني لم أجد ما أريد من الاهتمام بتنظيم الجهود العملية.

 

وليت وجهي شطر الأصدقاء والإخوان ممن جمعني وإياهم عهد الطلب وصدق الود، والشعور بالواجب، فوجدت استعدادًا حسنًا.

 

وفي الإسماعيلية، أيها الإخوان وضعت أول نواةٍ تكوينية للفكرة، جرت أول هيئة متواضعة نعمل ونحمل لواءها، ونعاهد الله على الجهادِ في سبيلها تحت اسم (الإخوان المسلمين)، وكان ذلك في ذي القعدة سنة 1347هـ.

 

وضوح رؤية الإصلاح عند البنا

تأمل معي أخي القارئ ما قاله حسن البنا منذ عشرات السنين وهو يتحدث عن إعدادِ الرجال وأهميته وأنه نقطة البداية الصحيحة لبناء الأمة، وذلك بعد أن نذكر العديدَ من المشروعات العامة التي شارك فيها الإخوان من بناء المساجد والمدارس، وإنشاء لجان الخير والبر، وإلقاء الدروس، والمحاضرات والخطب والعظات.. يقول رحمه الله:

 

ولكن الأمم المجاهدة التي تواجه نهضة جديدة وتجتاز دور انتقال خطير، وتريد أن تبني حياتها المستقبلية على أساسٍ متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهة والهناء، وتطالب بحقٍّ مسلوب، وعز مغصوب، في حاجةٍ إلى بناء آخر غير هذه الأبنية.

 

إنها في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس، وتشييد الأخلاق وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة، حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعب، إنَّ الرجلَ سرُّ حياةِ الأمم ومصدر نهضتها، وإن تاريخ الأمم جميعًا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات.

 

إنَّ قوةَ الأمم أو ضعفها إنما تُقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة.

 

وإني أعتقد والتاريخ يؤيدني أن الرجلَ الواحدَ في وسعه أن يبني أمةً إن صحَّت رجولته، وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحيةِ الهدم لا البناء، وأن الأمةَ التي تُحيط بها ظروف كظروفنا، وتنهض لمهمةٍ كمهمتنا وتواجه واجباتٍ كتلك التي نواجهها، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكناتِ أو تتعلل بالآمال والأماني.

 

وإنما عليها أن تُعدَّ نفسها لكفاحٍ طويلٍ عنيف، وصراع قوي شديد بين الحق والباطل، وبين النافع والضار وبين صاحب الحق وغاصبه، وسالك الطريق وناكبه، وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وإن عليها أن تعلم أن الجهادَ من الجهد، والجهد هو التعب والعناء، وليس مع الجهادِ راحة حتى يضع النضال أوزاره، وعند الصباح يحمد القوم السري.

 

وليس للأمة عدة في هذه السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة، والعزيمة القوية الصادقة، والسخاء بالتضحيات والإقدام عند الملمات، وبغير ذلك تغلب على أمرها، ويكون الفشل حليف أبنائها.

 

التربية الصحيحة

ويستطرد قائلاً: نفوسنا الحالية في حاجةٍ إلى علاجٍ كبيرٍ وتقويمٍ شامل، وإنَّ الآمال الكبيرة التي تطوف برؤوسِ المصلحين من رجالاتِ هذه الأمة، والظروف العصيبة التي تجتازها، تطالبنا بإلحاحٍ بتحديد نفوسنا، وبناء أرواحنا بناءً غير هذا الذي أبلته السنون، وأخلقته الحوادث، وذهبت الأيام بما كان فيه مناعة وقوة، وبغير هذه التقوية الروحية والتجديد النفسي لا يمكن أن تخطو إلى الأمامِ خطوة.

 

إذا علمت معي أن هذا المقياس أصح في نهضات الأمم والشعوب، فاعلم أن الغرض الأول الذي ترمي إليه جمعيات الإخوان المسلمين التربية الصحيحة.. تربية الأمة على النفس الفاضلة والخلق النبيل السامي، وإيقاظ ذلك الشعور الحي الذي يسوق الأمم إلى الذود عن كرامتها والجد في استرداد مجدها وتحمل كل عنت ومشقة في سبيل الوصول إلى الغاية.

 

تحديد الوسيلة واعتماد المبدأ

قد علمت أيها القارئ أنَّ الإخوانَ المسلمين يقصدون أول ما يقصدون إلى تربية النفوس وتجديد الأرواح وتقوية الأخلاق، وتنمية الرجولة الصحيحة في نفوسِ الأمة، ويعتقدون أن ذلك هو الأساس الأول الذي تُبنى عليه نهضات الأمم والشعوب.

 

وقد استعرضوا وسائل وطرائق الوصول إليه، فلم يجدوا فيها أقرب ولا أجدى من الفكرة الدينية والاستمساك بأهداب الدين.

 

لماذا التمسك بالدين هو البداية الصحيحة للنهضة؟

(لأن) الدين يحيي الضمير ويوقظ الشعور وينبه القلوب، ويترك مع كل نفس رقيبًا لا يغفل، وحارسًا لا ينام ,وشاهدًا لا يجامل، ولا يحابي ولا يضل ولا ينسى.

 

يصاحبها في الغدوة والروحة والمجتمع والخلوة، ويرقبها في كل زمان، ويلحظها في كل مكان، ويدفعها إلى الخيرات دفعًا ويدعها عن الآثم دعًا، ويجنبها طريق الزلل، ويبصرها سبيل الخير والرشاد ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)﴾ (الزخرف).

 

الدين الذي يجمع أشتات الفضائل ويلم أطراف المكارم، ويجعل لكل فضيلةٍ جزاءً، ولكل مكرمةٍ كفاءً، ويدعو إلى تزكيةِ النفس والسمو بها وتطهير الأرواح وتصفيتها ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس).

 

الدين الذي يدعو إلى التضحية في سبيل الحق، والفناء في إرشاد الخلق، ويضمن لمَن فعل ذلك أجزل المثوبة، ويعد من سلك هذا النهج أحسن الجزاء، ويقدر الحسنة ويزن السيئة وإن حقرت.

 

الدين الذي يجمع كل ذلك، ثم هو بعد يصافح الفطرة، ويمازج القلوب، ويخالط النفوس، فيتحد بها وتتحد به، ويتخلل ذرات الأرواح ويساير العقول فلا يشذ عنها، ولا تنبو عنه.. يهش له الفلاح في حقله، ويفرح به الصانع في معمله، ويفهمه الصبي في مكتبه، ويجد لذته وحلاوته العالِم في بحوثه، ويسمو بفكرته الفيلسوف في تأملاته.

 

وهل رأيت نفوس البشر أقوى سلطانًا من الدين؟ وهل رأيت من الفلاسفة والعلماء ما كان من التأثير البليغ للمرسلين والأنبياء؟

 

الدين للجميع هو الفكرة الصائبة، ومعقد الآمال المتشعبة ورمز الأماني الفردية والاجتماعية والقومية والعالمية؛ وذلك له تعبير ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)﴾ (المنافقون).

 

رأى قومٌ أن يصلحوا من أخلاقِ الأمة عن طريق العلم والثقافة، ورأى آخرون أن يصلحوه عن طريق الأدبِ والفن، ورأى غيرهم أن يكون هذا الإصلاح عن طريق أساليب السياسة، وسلك غير هؤلاء طريق الرياضة.

 

وكل أولئك أصابوا في تحديد معاني هذه الألفاظ أو أخطأوا وسددوا أو تباعدوا، وليس هذا مجال النقد والتحديد، ولكن أريد أن أقول إن الإخوان المسلمين رأوا أن أفعل الوسائل في إصلاح نفوس الأمم (الدين)، ورأوا إلى جانب هذا أن الدين الإسلامي جمع محاسن كل هذه الرسائل وبعُد عن مساوئها، فاطمأنت إليه نفوسُهم وانشرحت به صدورهم.

 

غاية الإخوان المسلمين

وفي مؤتمر الدعوة السادس المنعقد في يناير 1941م يتحدث الإمام حسن البنا رحمه الله عن غايةِ الإخوان المسلمين فيقول:

 

يعمل الإخوان المسلمون لغايتين: غاية قريبة يبدو هدفها وتظهر ثمرتها لأول يومٍ ينضم فيه الفرد إلى الجماعة، أو تظهر الجماعة الإخوانية فيه في ميدان العمل العام.

 

وغاية بعيدة لا بد فيه من ترقب الفرص وانتظار الزمن وحسن الإعداد وسبق التكوين.
أما الغاية الأولى فهي المساهمة في الخير العام أيًّا كان لونه ونوعه، والخدمة الاجتماعية كلما سمحت بها الظروف.

 

يتصل الأخ بإخوانه مطالبًا بتطهير نفسه وتقويم سلوكه وإعداد روحه وعقله وجسمه الطويل الذي نتظره في مستقبل الأيام، ثم هو مطالبٌ بأن يشيع هذه الروح في أسرته وأصدقائه وبيئته، فلا يكون الأخ أخًا مسلمًا حقًّا حتى يُطبِّق على نفسه أحكامَ الإسلام وأخلاق الإسلام، ويقف عند حدودِ الأمرِ والنهي التي جاء بها رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- عن ربه: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس).

 

وتتكون الجماعة من جماعات الإخوان فتتخذ دارًا وتعمل على تعليم الأميين وتلقين الناس أحكام الدين، وتقوم بالوعظ والإرشاد والإصلاح بين المتخاصمين، والتصدق على المحتاجين وإقامة المنشآت النافعة من مدارس ومستوصفات ومساجد في حدود مقدرتها والظروف التي تحيط بها، وكثير من شعب الإخوان ينهض بهذه الواجبات ويؤديها على حالة مرضية من حسن الأداء.

 

فهل هذا ما يريده الإخوان المسلمون ويجهزون أنفسهم له ويأخذونها به؟

لا، أيها الإخوان، ليس هذا كل ما نريد، هو بعض ما نريد ابتغاء مرضاة الله.. هو الهدف الأول القريب.

 

أما غاية الإخوان الأساسية.. أما هدف الإخوان الأسمى.. أما الإصلاح الذي يريده الإخوان ويهيئون أنفسهم عليه.. فهو إصلاح شامل كامل تتعاون عليه قوى الأمة جميعًا، وتتجه نحوه الأمة جميعًا، ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتعديل.

 

إن الإخوان المسلمين يهتفون بدعوة ويؤمنون بمنهاج، ويناصرون عقيدة، ويعملون على سبيل إرشاد الناس إلى نظام اجتماعي يتناول شئون الحياة جميعًا اسمه (الإسلام)، ويريدون بعث الأمة الإسلامية النموذجية التي تدين بالإسلامِ الحق، فيكون لها هاديًا وإمامًا، وتعرف في الناس بأنها دولة القرآن التي تصطبغ به، والتي تذود عنه، والتي تدعو إليه، والتي تجاهد في سبيله، وتضحي في هذا السبيل بالنفوس والأموال.

 

الجيل الجديد

ويؤكد رحمه الله في المؤتمر الخامس للدعوة، غاية الإخوان ووسيلتهم لذلك فيقول: إن غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل جديد، من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَة﴾ (البقرة: من الآية 138)، وأن وسيلتهم في ذلك تنحصر في تغيير العرف العام وتربية أنصار الدعوة على هذه التعاليم حتى يكونوا قدوةً لغيرهم في التمسك بها، والحرص عليها، والنزول على حكمها.

 

كيف نصل إلى أهدافنا

إنَّ الخطبَ والأقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء، كل ذلك لا يجدي نفعًا ولا يحقق غايةً، ولا يصل بالداعين إلى هدفٍ من الأهداف ولكن للدعوات وسائل لا بد من الأخذِ بها والعمل لها، والوسائل العامة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل، ولا تعدو هذه الأمور الثلاث:

1- الإيمان العميق

2- التكوين الدقيق

3- العمل المتواصل

 

وتلك هي وسائلكم العامة أيها الإخوان، فآمنوا يفكرتكم حولها واعملوا لها واثبتوا عليها.

 

إسلامنا

لقد كان الإمام الشهيد حسن البنا واضحًا تمام الوضوح من أول يومٍ أعلن فيه دعوته، بأن التمسكَ بالإسلام، وتربية الناس عليه هو السبيل الأكيد لنهضة الأمة.. ولكن ما هو مفهوم الإسلام الذي تدعو إليه جماعة الإخوان المسلمين، هل هو مجرد الإتيان بالعبادات المفروضة أم الأخلاق الفاضلة.. أم ماذا؟

 

يُجيب عن هذا التساؤل الإمام حسن البنا فيقول:

دعوتنا أجمع ما توصف به أنها إسلامية، ولهذه الكلمة معنى واسع غير ذلك المعنى الضيق الذي يفهمه الناس.

 

فإننا نعتقد أن الإسلامَ معنى شامل ينتظم شئون الحياة جميعًا، ويفتي في كل شأنٍ منها ويضع له نظامًا محكمًا دقيقًا، ولا يقف مكتوفًا أمام المشكلات الحيوية والنظم التي لا بد منها لإصلاحِ الناس.

 

فهم بعض الناس خطأً أنَّ الإسلامَ مقصورٌ على ضروبٍ من العبادات أو أوضاعٍ من الروحانية وحصروا أنفسهم وأفهامهم في هذه الدوائر الضيقة من دوائر الفهم المحصور.. ولكننا نفهم الإسلام على غير هذا الوجه، فهمًا فسيحًا واسعًا ينتظم شئون الحياة والآخرة، ولسنا ندعي هذا ادَّعاءً، أو نتوسع فيه من أنفسنا، وإنما هو ما فهمناه من كتابِ الله وسيرة المسلمين الأولين.

 

إسلام الإخوان المسلمين

ويؤكد حسن البنا رحمه الله على مفهوم الإسلام الشامل الذي تتبناه دعوة الإخوان المسلمين فيقول:

اسمحوا لي أيها السادة أن أستخدمَ هذا التعبير- إسلام الإخوان المسلمين- ولستُ أعني به أن للإخوان المسلمين إسلامًا جديدًا غير الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم عن ربه، وإنما أعني به أن كثيرًا من المسلمين في كثيرٍ من العصور خلعوا على الإسلام نعوتًا وأوصافًا، وحدودًا ورسومًا من عند أنفسهم.

 

فمن الناس مَن لا يرى الإسلام شيئًا غير حدود العبادة الظاهرة، فإن أداها أو رأى مَن يؤديها اطمأنَّ إلى ذلك ورضي به، وحسبه قد وصل إلى لُبِّ الإسلام، وذلك هو المعنى الشائع عند عامةِ المسلمين.

 

ومن الناسِ مَن لا يرى الإسلام إلا الخلق الفاضل والروحانية الفياضة، والغذاء الفلسفي الشهي للعقل والروح والبعد بها عن أدرانِ المادة الطاغية الظالمة.

 

ومنهم مَن يرى الإسلامَ نوعًا من العقائد والأعمال التقليدية التي لا غناءَ فيها ولا تقدم معها، فهو متبرمٌ بالإسلام، وبكل ما يتصل بالإسلام، وتجد هذا المعنى واضحًا في نفوس كثيرٍ من الذين تثقفوا ثقافةً أجنبيةً ولم تتح لهم فرصة حسن الاتصال بالحقائق الإسلامية، فهم لم يعرفوا عن الإسلام شيئًا أصلاً، أو عرفوه صورةً مشوهةً بمخالطةِ مَن لم يحسنوا من المسلمين.

 

هذه الصور المتعددة للإسلام الواحد في نفوسِ الناس جعلتهم يختلفون اختلافًا بينًا في فهم الإخوان المسلمين وتصور فكرتهم.

 

ولهذا أحببت أن أتحدث لحضراتكم في إيجازٍ عن معنى الإسلام وصورته الماثلة في نفوس الإخوان المسلمين، حتى يكون الأساس الذي ندعو إليه ونعتز بالانتسابِ له والاستمداد منه واضحًا جليًّا.

 

(1) نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شئون الناس في الدنيا وفي الآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف، والقرآن الكريم ينطق بذلك كله ويعتبره من لب الإسلام ومن صميمه ويوصي بالإحسان فيه جميعه، وإلى هذا تشير الآية الكريمة: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ (القصص: من الآية 77).

 

(2) وهكذا اتصل الإخوان بكتابِ الله واستلهموه واسترشدوه، فأيقنوا أن الإسلامَ هو هذا المعنى الكلي الشامل، وأنه يجب أن يهيمن على كل شئونِ الحياة وأن تصطبغ جميعًا، وأن تنزل على حكمه وأن تساير قواعده صحيحًا، أما إذا أسلمت في عبادتها وقلدت غير المسلمين في بقية شئونها، فهي أمةٌ ناقصةٌ الإسلام تضاهي الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: من الآية 85).

 

أي إسلام نطبق؟

(3) إلى جانب هذا يعتقد الإخوان أن أساسَ التعاليم الإسلامية ومعينها هو كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- اللذان إن تمسكت بها الأمة فلن تضل أبدًا، وأن كثيرًا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها.

 

ولهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي.. معين السهول الأولى، وأن نفهم الإسلامَ كما كان يفهمه الصحابة والتابعون والسلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية، لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصرٍ لا يتفق معه، والإسلام دين البشرية جمعاء.

 

السعة والمرونة في لتطبيق

(4) إلى جانب هذا أيضًا، يعتقد الإخوان المسلمون أنَّ الإسلام كدين عام انتظم كل شئون الحياة في كل الشعوبِ والأمم لكل الأعصار والأزمان، جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة وخصوصًا في الأمور الدنيوية البحتة، فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأنٍ من الشئون، ويرشد الناسَ إلى الطريقِ العميقة للتطبيق عليها، والسير في حدودها.

 

ولضمان الحقِّ والصواب في هذا التطبيق أو تحريمها على الأقل، عنى الإسلام عنايةً تامةً بعلاجِ الإنسانية وهي مصدر النظم ومادة التفكير والتصوير والتشكل، فوصف لها من الأدوية الناجعة ما يطهرها من الهوى ويغسلها من أدرانِ الغرض والغاية ويهديها إلى الكمال والفضيلة، ويزجرها عن الجورِ والقصور والعدوان، وإذا استقامت النفس وصفت، فقد أصبح كل ما يصدر عنها صالحًا جميلاً.

 

من هنا كانت النفس الإنسانية محل عناية كبرى في كتاب الله، وكانت النفوس الأولى التي صاغها مثال الكمال الإنساني.

 

ولهذا كله كانت طبيعة الإسلام تساير العصور والأمم، وتتسع لكل الأغراض والمطالب، ولهذا أيضًا كان الإسلام لا يأبى أبدًا الاستفادة من كل نظام صالح لا يتعارض مع قواعده الكلية وأصوله العامة.