إلى أي شيء ندعو الناس
الإمام الشهيد / حسن البنا


تمـهـيد
قد تتحدث إلى كثير من الناس في موضوعات مختلفة فتعتقد أنك قد أوضحت كل الإيضاح و أبنت كل الإبانة , و أنك لم تدع سبيلا للكشف عما في نفسك إلا سلكتها , حتى تركت من تحدثهم على المحجة البيضاء و جعلت لهم ما تريد بحديثك من الحقائق كفلق الصبح أو كالشمس في رابعة النهار كما يقولون , و ما أشد دهشتك بعد قليل حين ينكشف لك أن القوم لم يفهموا عنك و لم يدركوا قولك .


رأيت ذلك مرات و لمسته من عدة مواقف , و أعتقد أن السر فيه لا يعدوا أحد أمرين :
إما أن الذي يقيس به كل منا ما يسمع عنه مختلف , فيختلف تبعا لذلك الفهم و الإدراك .
و إما أن يكون القول في ذاته ملتبسا غامضا و إن اعتقد قائله أنه واضح مكشوف .


المقياس


و أنا أريد في هذه الكلمة أن أكشف للناس عن دعوة الإخوان المسلمين و غايتها و مقاصدها و أساليبها و وسائلها في صراحة و وضوح و في بيان و جلاء , و أحب أولا أن أحدد المقياس الذي نقيس به هذا التوضيح , و سأجتهد في أن يكون القول سهلا ميسورا لا يتعذر فهمه على قارئ يحب أن يستفيد , و أظن أن أحدا من الأمة الإسلامية جميعا لا يخالفني في أن يكون هذا المقياس هو كتاب الله نستقي من فيضه و نستمد من بحره و نرجع إلى حكمه .


يا قومنا ..


إن القرآن الكريم كتاب جامع جمع الله فيه أصول العقائد و أسس المصالح الاجتماعية , و كليات الشرائع الدنيوية  , فيه أوامر وفيه نواه , فهل عمل المسلمون بما في القرآن  فاعتقدوا و أيقنوا بما ذكر الله من المعتقدات , و فهموا ما أوضح لهم من الغايات ؟ و هل طبقوا شرائعه الاجتماعية و الحيوية على تصرفاتهم في شؤون حياتهم  ؟ إن انتهينا من بحثنا أنهم كذلك فقد وصلنا معا إلى الغاية , و إن تكشف البحث عن بعدهم عن طريق القرآن و إهمالهم لتعاليمه و أوامره فاعلم أن مهمتنا أن نعود بأنفسنا و بمن تبعنا إلى هذا السبيل


غاية الحياة في القرآن


إن القرآن حدد غايات الحياة و مقاصد الناس فيها فبين أن قوما غايتهم من الحياة الأكل و المتعة


فقال تبارك و تعالى :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (محمد:12) .
و بين أن قوما مهمتهم في الحياة الزينة و العرض الزائل فقال تبارك و تعالى :
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14)
وبين أن قوما آخرين شأنهم في الحياة إيقاد الفتن و إحياء الشرور , أولئك الذين قال الله فيهم:
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ  , وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَالله ُلاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة:204-205)


 تلك مقاصد من مقاصد الناس في الحياة نزه الله المؤمنين عنها و برأهم منها و كلفهم مهمة أرقى , و ألقى على عاتقهم واجبا أسمى ذلك الواجب هو: هداية الناس إلى الحق , وإرشاد الناس جميعا إلى الخير , و إنارة العالم كله بشمس الإسلام فذلك قوله تبارك و تعالى :
 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ  , وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ و َتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:77-78).

و معنى هذا أن القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة , و يعطيهم حق الهيمنة و السيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة و إذا فذلك من شأننا لا من شأن الغرب و لمدنية الإسلام لا لمدنية المادة .


وصاية المسلم تضحية لا استفادة


ثم بين الله تبارك و تعالى أن المؤمن في سبيل هذه الغاية قد باع لله نفسه و ماله فليس له فيها شيء و إنما هي وقف على نجاح هذه الدعوة   وإيصالها إلى قلوب الناس و ذلك قوله تعالى :
 (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة:111).


و ومن ذلك نرى المسلم يجعل دنياه وقفا على دعوته ليكسب آخرته جزاء تضحيته

 

و من هنا كان الفاتح المسلم أستاذا يتصف بكل ما يجب أن يتحلى به الأستاذ من نور  و هداية و رحمة و رأفة , وكان الفتح الإسلامي فتح تمدين و تحضير و إرشاد و تعليم , و أين هذا مما يقوم به الاستعمار الغربي الآن ؟


أين المسلمون من هذه الغاية؟
فبربك عزيزي : هل فهم المسلمون من كتاب ربهم هذا المعنى فسمت نفوسهم و رقت أرواحهم , و تحرروا من رق المادة و تطهروا من لذة الشهوات و الأهواء , و ترفعوا عن سفاسف الأمور و دنايا المقاصد , و وجهوا وجوههم للذي فطر السموات و الأرض حنفاء يعلون كلمة الله و يجاهدون في سبيله , و ينشرون دينه و يذودون عن حياض شريعته , أم هؤلاء أسرى الشهوات و عبيد الأهواء و المطامع , كل همهم لقمة لينة و مركب فاره و حلة جميلة و نومة مريحة و  امرأة وضيئة و مظهر كاذب و  لقب أجوف
رضوا بالأماني و ابتلوا بحظوظهم       و خاضوا بحار الجد دعوى فما ابتلوا
و صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تعس عبد الدينار  , تعس عبد الدرهم , تعس عبد القطيفة)
الغاية أصل الأعمال
و بما أن الغاية  هي التي تدفع إلى الطريق , و لما كانت الغاية في أمتنا غامضة مضطربة  كان لابد من أن نوضح و نحدد , و أظننا وصلنا إلى كثير من التوضيح و اتفقنا على أن مهمتنا سيادة الدنيا و إرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة و تعاليمه التي بغيرها أن يسعد الإنسان .


مصادر غايتنا
تلك هي الرسالة التي يريد الإخوان المسلمون أن يبلغوها للناس و أن تفهمها الأمة الإسلامية حق الفهم , و تهب لإنفاذها في عزم و في مضاء , لم يبتدعها الإخوان ابتداعا , و لم يختلقوها من أنفسهم , و إنما هي الرسالة التي تتجلى في كل آية من آيات القرآن الكريم , و تبدوا في غاية الوضوح في كل حديث من أحاديث الرسول العظيم صلى الله عليه و سلم و تظهر في كل عمل من أعمال الصدر الأول الذين هم المثل الأعلى لفهم الإسلام و إنفاذ تعاليم الإسلام , فإن شاء المسلمون في أن يقبلوا هذه الرسالة كان ذلك دليل الإيمان و الإسلام الصحيح , و إن رأوا فيها حرجا أو غضاضة فبيننا و بينهم كتاب الله تبارك و تعالى , حكم عدل و قول فصل يحكم بيننا و بين إخواننا و يظهر الحق لنا أو علينا
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين) (الأعراف:89).


استطراد


يتساءل كثير من إخواننا الذين أحببناهم من كل قلوبنا و وقفنا لخيرهم و العمل لمصلحتهم الدنيوية و الأخروية جهودنا و أموالنا و أرواحنا، و فنينا في هذه الغاية، غاية إسعاد أمتنا و إخواننا ، عن أموالنا و أنفسنا.
و كم أتمنى أن يطلع هؤلاء الإخوان المتسائلون على شباب الإخوان المسلمين و قد سهرت عيونهم و الناس نيام، و شغلت نفوسهم و الخليون هجع، و أكب أحدهم على مكتبه من العصر إلى منتصف الليل عاملا مجتهدا و مفكرا مجدا، و لا يزال كذلك طول شهره، حتى إذا ما انتهى الشهر جعل مورده موردا لجماعته، و نفقته نفقة لدعوته، و ماله خادما لغايته، و لسان حاله يقول: لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الله.

و معاذ الله أن نمن على أمتنا فنحن منها و لها
وإنما نتوسل إليها بهذه التضحية أن تفقه دعوتنا و تستجيب لندائنا.