وضع البكباشي منذ بدايات حكمه أساسًا لبناء الدولة يقوم على الدعاية في اتجاه واحد، والاعتماد على نشاط أهل الفن- يسميهم الناس في الأرياف بالعوالم- لأن ما يقدمونه أقرب إلى الترفيه الوقتي الذي لا يحمل شيئا من الفن أو العمق، ويستجيب له البسطاء أو العامة بصورة تلقائية أو عفوية، ولا يفكرون فيما بعده من تأثير.


الدعاية التي تسمى خطأ بالإعلام، تصب في اتجاه واحد فقط، هو خدمة الحكم العسكري، واختراع إنجازات لا وجود لها على أرض الواقع حتى في القضايا التي تحتاج إلى حوار أو إقناع، لا يضع لها الإعلام العسكري اهتماما عند مخاطبة الجمهور، فهو إعلام يردح ويتهم أعداء مجهولين يسميهم "الرجعية " أو "التخلف" أو "الجمود" أو "الظلاميين" أو "الأصوليين" أو نحو ذلك، ثم يفرض ما يريد من أفكار أو نظريات دعائية بكل السبل الإنشائية التي لا تعدو أن تكون كلاما محضا لا وجود له على الأرض، ولعل المثال الأوضح كان عند فرض ما يسمى الاشتراكية بالمفهوم الذي يريده البكباشي، فقد تغيرت لغة الصحافة والإذاعة والتلفزيون إلى الحديث عن رغيف الخبز قبل الحرية، والكفاية قبل العدل، وإدراج الميثاق في المناهج الدراسية، ولم يتوفر رغيف ولا كفاية ولا اشتراكية، وتم استدعاء العوالم لتقديم الاشتراكية المستحيلة، بعد أن سودت المقالات والخطب والتعليقات المسموعة والمرئية التي تبشر بالنظرية الفارغة، وصدحت الأغاني التي تساندها وتتغزل فيها، وكان من بينها أغنية شهيرة تردح عبر شاشات التلفزة وموجات الإذاعة في إسفاف رخيص لمن يرفضون الانضمام للنظرية التي أشبعت اللصوص، وجوعت الشرفاء: "ونقول لك يا عدو الاشتراكية، يا خاين المسئولية، ونطبل لك كده هو، ونزمر لك كده هو...".


لاريب أن النظام استعان بالشيوعيين الانتهازيين، والمنافقين الأفاقين- ومازال- في الترويج لأفكاره السطحية الإرهابية لبناء دولة الرعب والخوف، وفضل أن تنهض بمهام العمل والإنجاز فصائل الدعاية، ومعها فرق العوالم، من مختلف النوعيات: طبل وزمر ورقص وبهلوانيات وأغان سمجة سخيفة من عينة أغاني المكوجي إياه!


في المقابل فإن العدو النازي اليهودي الذي يحتل فلسطين ويفرض إرادته على ما حولها يقيم حياته على الاعتراف بالحقائق داخل كيانه، ويعمل وفق نظام يتشارك فيه كل أفراده، ويتجه إلى بناء الوطن الذي سرقه؛ بالعلم والعمل والتخطيط والإنتاج الزراعي والصناعي والتكنولوجي، مع الاهتمام بالإنجازات الطبية والكيميائية والفيزيائية وغيرها، وإقامة العدل بين مواطنيه اللصوص فضلا عن الاهتمام ببناء جيش قوي يملك أحدث الطائرات والصواريخ والدبابات والغواصات، والجندي المدرب تدريبا عاليا في إطار من التجنيد والاحتياط يقوم على التجميع والتوزيع بأسرع ما يمكن، مع تشكيل جهاز معلومات (تجسس) على أحدث مستوى من التدريب والسرية، يصل إلى رءوس كبيرة في الدول العربية والأجنبية، وإنشاء إعلام ذكي وواع يخدم الاحتلال ويروج لأكاذيبه بطريقة مقنعة.. ثم وهو الأهم يبادر بالضربات الاستباقية للجيران، وإجهاض كل قوة محتملة مستغلا حالة البلادة والفوضى وعدم المبالاة والانشغال بتلميع صورة الحاكم والزعيم والقائد الذي لم تنجب البشرية مثيلا له من قبل!


يقول الصاغ خالد محيي الدين رفيق البكباشي في مذكراته:
"كان عبد الناصر هكذا دوما ومع كل الأطراف.. حتى مع إسرائيل، ففي فترة إقامتي بالمنفى وأثناء زيارتي لباريس أبلغني الأستاذ عبد الرحمن صادق المستشار الصحفي في سفارتنا بباريس أنه مكلف من عبد الناصر بعمل علاقة ما بالسفارة الإسرائيلية، وأن هدف العلاقة هو التعرف على كل أفكار الإسرائيليين ورؤيتهم للثورة وموقفهم إزاءها. ويمكن القول بأن إسرائيل في هذه الفترة لم تكن مدرجة في الأسطر الأولى لجدول الأعداء..."، (خالد محيى الدين، .. والآن أتكلم، ط 1، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة ، 1413 هـ = 1992م ، ص192).


كلام خالد محيي الدين ينبئ عن إغفال الزعيم للخطر الأكبر على الوطن والعرب والمسلمين، وأن العدو ليس مدرجا في الأسطر الأولى لجدول الأعداء، لذا كانت فلسفة الانسحاب وإخلاء سيناء، وانتظار الضربة الأولى من جانب الأعداء، والاحتفاظ بحق الرد في الوقت المناسب الذي لا يأتي أبدا، لأن السادة الرفاق مشغولون بأشياء أخرى من قبيل كرة القدم والفن (الهلس) وتصفية الإقطاع، وتثوير اليمن السعيد، والقتال في الكونغو، وتدبير الانقلابات في عواصم العروبة، وشتم الملوك المتخلفين، وإقامة المحاكم العسكرية للمدنيين الرجعيين الذين يؤمنون بالإسلام!


طوال ستة عقود وأكثر لم يراجع النظام العسكري الفاشي نفسه، باستثناء حرب رمضان والإعداد لها- وكان لي شرف الانتماء إلى جنودها وقادتها العظام- فما زالت فكرة بناء الدولة بالدعاية والعوالم قائمة.. وقد كشفت التسريبات التي أذيعت في الثامن من يناير2018 أن السلطة لم تتغير، ولم تحاول أن تأخذ دروس الماضي في الحسبان، فمازال الخوف من مواجهة العدو قائما، والرغبة في التنازل عن المقدسات مسألة ملحة طلبا للرضا النازي اليهودي، والاعتماد على الكتاب والإعلاميين المنافقين، وأهل الفن ( الهلس) من أصحاب الأيدي الموجوعة أو الطامحين لمنفعة، واستخدامهم في شرشحة الأحرار والشرفاء أمرا قائما، ووصلت المسألة إلى المساومة على مواطن مصري تم سحله في بلد عربي لتغيير سياسة هذه الدولة، ومعنى ذلك ببساطة أن المواطن المصري المظلوم والمهين، يتم سحقه إذا غيرت الدولة المذكورة سياستها، فمصر الكبرى لا يعنيها أمر أبنائها أو كرامتهم أو حقوقهم بغض النظر عن الاتفاق مع سياسة الآخرين أو الاختلاف..


نحن إذا أمام أوضاع لا تبشر بخير أبدا، الظلم سمتها، والقهر ديدنها، والتشهير بالشرفاء والأطهار منهجها.. يقول ابن خلدون في مقدمته:
"عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والشحاذون والمنافقون، والمدّعون والكتبة والقوّالون والمغنّون النشّازون والشعراء النظّامون والمتصعلكون وضاربو المندل وقارعو الطبول والمتفيقهون، وقارئو الكف والطالع والنازل، والمتسيسون والمداحون والهجاءون وعابرو السبيل والانتهازيون..


تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط، يضيع التقدير ويسوء التدبير، وتختلط المعاني والكلام ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل..
ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء ويسود الهرج في الأسواق والمزايدات على الانتماء ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والخيانة ...!
ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار، ويتحول الوضع الى مشروعات مهاجرين، ويتحول الوطن إلى محطة سفر، والمراتع التي نعيش فيها إلى حقائب، والبيوت الى ذكريات، والذكريات إلى حكايات....".
الله مولانا. اللهم فرّج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!
---------------------
* نقلاً عن "الشعب"