الطاهر أحمد مكي قيمة أدبية عريقة، هو من جيل الدرعميين الأجلاء الذين خدموا الأدب وفنونه، بمصنفات جليلة القدر، تعددت بين تاريخ الأدب والنقد والترجمة وتحقيق التراث، والكتابة في المجلات الأدبية والعمل أستاذًا في دار العلوم الذي قال عنها الإمام محمد عبده "تموت العربية في كل مكان وتحيا في دار العلوم"، نفس المعهد العريق الذي تخرج فيه الإمام الشهيد حسن البنا باقتدار وامتياز.

 

 

ولد الدكتور الطاهر في قرية كيمان المطاعنة بمركز إسنا بمديرية (محافظة) قنا عام 1924، تخرج في دار العلوم، بدأت تظهر عليه مخايل النجابة والذكاء منذ صغره، يعي كل ما يدور حوله ويسجله في ذاكرته، وفي السطور الآتية يتعرض الطاهر مكي في سطور ناصعة عن ذكريات عطرة لمجدد القرن الرابع عشر وإمامه الشيخ حسن البنا، هذا الرجل الذي أسس أكبر جماعة دعوية سياسية في العقود الأخيرة التي زلزلت عروش الاستعمار، وجددت الوعي الإسلامي لدى جماهير الأمة، بعد أن غرقت عقود تحت نير هذا الاستعمار، الذي جثم على قلوب الأمة ردحًا طويلاً، وجنّد بعض أذنابه يدافع عن أفكاره ودعواه، وقد عرف الطاهر مكي الإمام الشهيد لأول مرة حينما زار قريته في أغسطس سنة 1938، وقد كتب عنه في كثير من الصحف والمجلات أشهرها مقاله في مجلة "الدوحة" القطرية في يوليو 1985، وكان يرأس تحريرها الكاتب الصحفي رجاء النقاش... زرته مرارًا في بيته العامر بمنطقة الدقي، واسترجعت معه هذه الذكريات...

 

 

* متى رأيت حسن البنا لأول مرة؟

رأيته للمرة الأولى في قريتي، عندما كان يتجول في أرجاء مصر، وقد ذرعها من شمالها لجنوبها، زار قراها ونجوعها وعزبها ومدنها الصغيرة والكبرى، وقد تعجب اليوم وأنت ترى من يطلقون على أنفسهم الصفوة والنخبة وهم لا يتحملون أن يتركوا الغرف المكيفة ويتأففوا عندما يقابلون الناس، لأن غرفهم المكيفة واستوديوهات الفضائيات المغرضة هي بروجهم العاجية التي تجعلهم يعيشون بمعزل عن مشاكل الناس الحقيقية، زارنا حسن البنا في قريتنا التي تدعى كيمان المطاعنة، مركز إسنا بمديرية قنا، كانت جولات الإمام لمواجهة الحملات الشرسة التي يتعرض لها الإسلام عبر حملات التبشير وأجهزة الإعلام الأجنبية وفيض من الكتب والنشرات التي توزعها مؤسسات تتخفى وراء العلاج والتعليم، وتوزع مع العلاج والصحة الإلحاد والزيغ وفتنة المسلمين عن دينهم، كنت في ذلك الوقت من نابهي الأطفال الذين يترددون على كُتاب القرية والمدرسة الإلزامية، لا عمل لي غير القراءة والمذاكرة وحفظ القرآن الكريم، وكنت أطالع الصحف وأهمها صحيفة "الأهرام" التي تأتي قريتنا، في تلك الأيام سمعت أن حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين حل ضيفًا على ديوان عائلتي في كيمان المطاعنة على بعد كيلو مترات من محل إقامتي، وفيها كان يسكن والدي أيضًا، فشددت رحيلي إليها مأخوذًا برؤية شخصية قادمة من القاهرة يظهر اسمها في الصحف بين حين وآخر، ويكتب المقال الافتتاحي في جريدة "النذير" وكانت تقع في يدي أحيانًا وكان يجلبها خالي حين يذهب إلى السوق في المدينة، كان ذلك في أواخر شهر أغسطس من عام 1938م.

 

بدأت أتأمله من على بعد أولاً، ومن قريب فيما بعد، هذا الضيف الوافد، يرتدي ملابس بيضاء فضفاضة، بسيطة ونظيفة، ويلف فوق طربوشه شاشًا، معتدل القامة والبنية، أبيض مشربًا بحمرة، مرسل اللحية، نافذ البصر والبصيرة، يتحرك وسط جموع الريفيين البسطاء كأنه هالة من نور، وهم حوله فرحون به، يعرف كيف يملك قلوب المئات الذين توافدوا من النجوع التي حول القرية، بعضهم طلاب في الأزهر، والغالبية فلاحون، جاءوا مدعوين، أو ليسلموا عليه، أو مستطلعين.

 

* كيف كان الإمام يمضي وقته بين الناس؟
أمضى حسن البنا وقتها في كيمان المطاعنة ليلة ويومين، زار فيها كل دواوين بطون العائلة في القرية، حتى أولئك الذين كانوا على خلاف مع أهلنا، أو الذين يرتبطون بأحزاب سياسية لا تتعاطف مع الإخوان المسلمين، وفي زيارته يصلح بين المتخاصمين، ويجمع الناس على كلمة خير، يفعل ذلك في الصباح على امتداده بعد إفطار بسيط، رغم وفرة ما يقدم وتنوعه، فإذا انتصف النهار صلى بالناس الظهر في المسجد، وأمهم في الصلاة، وبعدها يتناول الغداء على بسط مفروشة على الطريقة العربية وجموع المدعوين على شرفه، فإذا انتهى الطعام أرسل شكره في دعاء طيب، لا أزال أذكر لفظه، ويرن صداه في أذني كأنه قيل بالأمس، في لغة نقية رصينة، وامتنان صادق مؤثر: "أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم ملائكة الرحمن، وذكركم الله فيمن عنده".

وبعد الغداء يستريح قليلا من وهج حر الظهيرة، حيث الشمس شديدة والحر قوي في أعلى صعيد مصر، حتى إذا حانت صلاة العصر أمَّ الناس في مسجد القرية، وكان يومها متواضعًا، مفروشًا بالحصر، تعلوه قبة خفيفة من التراب، وتطوقه الشمس من كل جهاته، ومع ذلك لم يضق بشيء من هذا، وما ضجر ولا تأفف، وإنما ظل فيه بعد الصلاة يلقي حديثًا دينيّا استهله بحديث: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتابه، ويتدارسون آياته، إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة.." ثم يمضي يفسر بعضًا من آي القرآن، ويربطها بواقع الناس، ولا أذكر الآن من تفاصيل الحديث شيئًا، وإن بقيت الصورة حية متوهجة في عقلي وقلبي.

 

فإذا جن الليل بعد رحلة مرهقة بين دواوين بطون القبيلة المختلفة، وآوى الناس إلى مضاجعهم، انفرد هو بنفسه، في صمت ومن غير ضجيج، يقرأ ورده، ويؤدي ما اعتاد من صلواته.

 

كان له رفيق في هذه الرحلة "أحمد حسن الباقوري" وكان يومها شابًا فارعًا، في مقتبل العمر، موفور الجسد، قوي البنيان، تخرج في الأزهر حديثًا، يرتدي الزي الأزهري كاملاً: عمامة وقفطانًا وكاكولة، وأذكر واعيًا أن الناس لم يرتاحوا إليه، رأوا في حركاته تصنعًا وافتعالا، وفي حديثه عجبًا وخيلاء، وكلها فيمن يرون أشياء لا تليق بالعلماء، ولا تعكس ملامح وجهه شيئًا من نور الصالحين وتقاهم، وبدا لهم كأنه يطل عليهم من علٍ، فتركوه فردًا ضائعًا في ضجيج المتزاحمين حول البنا، وإن أعطوه حق الضيافة كاملاً.

 

ومن كيمان المطاعنة إلى أصفون المطاعنة، حل ضيفًا على عائلة فراج طايع، وكان عميدها قد أمضى أعوامًا يدرس في الأزهر، دون أن ينال شهادة ما، على عادة الناس في تلك الأيام، وأصبح عضوًا في مجلس الشيوخ عن الدائرة، بعد أن عهد إلى الشيخ محمد الأمير أن يقيم شعبة للإخوان في القرية، وكان هذا أيضًا قد درس عامين في الأزهر، ولم يكمل دراسته، لأسباب خارجة عن إرادته، واستعاض عن حرمانه هذا بأن أخذ على عاتقه تبعة حث الناس في القرية على تعليم أبنائهم بإرسالهم إلى المدارس والمعاهد والكليات في القاهرة، ويصحبهم أحيانًا بنفسه، على ما في ذلك من جهد ومشقة، وصدق في جهده.

 

* هل زار البنا الصعيد بعد ذلك؟

في العام التالي، في شهر سبتمبر 1939م، جاء حسن البنا في رحلة ثانية، شملت الصعيد كله في هذه المرة، جاء يؤكد صلته بالناس، ويدعم شعب الإخوان التي أقيمت، وإذا توثقت علاقته بأهلي وقومي، حاول أن يحل مشكلاتهم الاقتصادية والعائلية، وأن يوجههم نحو الخير، وأن يصرفهم عن بعض ما يقومون به من عادات، يسمع بها ولم يرها، كالثأر والتشاحن والعصبية القبلية، وكان احتفاء الناس به كبيرًا في هذه المرة وقوبل بإطلاق البنادق في الهواء زيادة في التكريم.

 

في هذه المرة رأيته عن قرب أكثر، فقد كبرت عامًا، وازداد اهتمامي بمعرفته، ولم يغير هو شيئًا في برنامجه، أو عبادته، أو ملابسه، غير أنه صحب شابًا أزهريًّا آخر، ولا زلت أذكر اسمه، رغم أنني لم أره بعد هذه المرة أبدًا، هو الشيخ عبد المعز عبد الستار، وكان طالبًا في كلية أصول الدين يومها فيما يقال، وقد أحبه الناس بقريب مما أحبوا البنا، فقد كان متواضعًا وقورًا، يشيع الصلاح من وجهه، "يغضي حياء، ويغضي من مهابته"، وكان البنا وصاحبه قد قدما إلينا في هذه المرة من أصفون المطاعنة، فلما أنهيا إقامتهما غادرنا إلى إسنا، ليواصلا رحلتهما في بقية مدن أعلى الصعيد.

 

الإمام البنا في العاصمة.. قنا
ويواصل الدكتور الطاهر أحمد مكي سرد تجربته مع الإمام البنا، حينما أبعده حسين سري باشا رئيس الوزراء عن الأضواء في القاهرة إلى قنا أثناء الحرب العالمية الثانية فيقول:

"في العام التالي ذهبت إلى قنا عاصمة المديرية، تلميذًا في معهدها الابتدائي، وكانت مدينة منطفئة، تبذل جهدًا لكي تحصل فيها على صحيفة أو كتاب، وأمضيت عامي الأول صبيًّا غرًّا، أسكن أطرافها، دون أن أهبطها لغير السينما ليلة الجمعة من كل أسبوع، فلم أعرف خلال عامي هذا من الحياة العامة فيها شيئًا، حتى إذا كان عامي التالي اتخذت سكني في شارعها الرئيسي، وبدأت أتعرف على نواحي النشاط فيها، فكنت أتردد من حين لآخر على جمعية الشبان المسلمين، التي قصرت نشاطها على بعض المهرجانات الدينية، في المواسم المعتادة، مثل رأس السنة الهجرية، والمولد النبوي، وغزوة بدر، وشيء من النشاط الرياضي، وفي تلك الأيام كان الناس يتخذون من المناسبات الدينية وسيلة لتغذية الشعور العام، وإيقاظ روح الوطنية والنضال، ضد المستعمر، دون أن يستطيع منعهم أو التصدي لهم، ويحضر مثل هذه الاحتفالات كبار الموظفين عادة، وتلقى فيها خطبة رئيسية تعرض لتاريخ المناسبة، وتحاول استخراج العظة، وتحث المسلمين على استرداد مجدهم، تتلوها قصائد يلقيها شعراء من أهل الإقليم عادة، متوسطة الجودة في خيرها، تناجي الرسول عليه الصلاة والسلام، وتبكي المجد الذاهب، وتأسى على الماضي المفقود وتأمل في غد أفضل حالاً.

وكان المعهد الديني يقيم بدوره حفلا فخيمًا، ويتميز بأن المدير نفسه، وهو ما يعدل وظيفة المحافظ الآن، يحضره بشخصه، يصل برفقة شيخ المعهد، ويسبقه هذا في خطوة بوصفه رجل دين، رغم أنه مرؤوس له بوصفه موظفًا طبقًا للوائح والقوانين، وهو اعتداد كان الأزهر يومها يدين به لشيخه العظيم محمد مصطفى المراغي عالمًا، وكرامة الهيئة التي يرأسها شيخًا، ولم يحن رأسه لحظة أمام أي مخلوق.

 

ولكن قنا الهادئة، تحولت عام 1940م إلى مدينة صاخبة تضج بالحركة والجند والسلاح والسيارات والمصفحات، جنود من كل جنس ولون، جاءوا من شتى أطراف الدنيا، من بريطانيا، والهند، ودول أفريقية وأستراليا وأوروبا، وألوف من العمال المصريين معهم، يتلقون أجورًا عالية، ويعملون في مد خطوط السكك الحديدية والكهرباء والماء بين قنا والقصير على البحر الأحمر، فقد اندلعت الحرب العالمية الثانية قبل ذلك بعام، وعانى الإنجليز من هزائم مريرة في شمال مصر على الحدود الليبية، وحصارًا عنيفًا في البحر المتوسط؛ إذ سيطرت عليه الغواصات الألمانية والإيطالية، فأرادوا أن يتلقوا إمداداتهم عن طريق البحر الأحمر، وهو أكثر أمنًا لهم، ويتيح لهم الانسحاب بخسائر أقل في حالة الهزيمة الكاملة.

 

وجاء الجنود معهم بكل الأمراض، الجريمة، والسوق السوداء، والسرقات، وأزمة الإسكان، والتضخم، وقلة الموارد التموينية، والملاريا.

في تلك الأيام أحسست، وأنا على أبواب الشباب أن جمعية الشبان المسلمين مكان طيب لقضاء الوقت، والتدرب على الخطابة، ولكنها بلا غايات سياسية واضحة وصريحة، وأن تحرير الوطن لن يجيء عن طريقها، وكان منظر الجنود الأعاجم من كل الجنسيات والألوان سكارى في آخر الليل يثيرنا، ويلهب في أعماقنا الحماسة والتمرد، ويدفعنا إلى الاصطدام بهم دفعًا.

 

وساقتني قدماي صدفة إلى شعبة الإخوان المسلمين، وكانت تشغل الدور الأرضي من عمارة في ميدان المديرية، وهو الرئيسي في المدينة، وتطل عليه مباشرة، وتتكون من قاعة معدة للمحاضرات تتحول إلى مصلى في أوقات الصلاة، ومكتبٍ، وغرفة ثالثة، إلى جانب المرافق، وانضممت إليها في الحال وفي ذاكرتي صورة هذا الرجل العبقري الذي رأيته في ديواننا منذ عامين.

 

كان نشاط الإخوان المسلمين متنوعًا، يشمل المحاضرات والدروس، والتدريب على الخطابة، والرحلات، وكل ضروب التعاون على الخير، والمنضمون إليها من المدرسين في الثانوية والمعلمين، ومن صغار الموظفين في جملتهم، وبعض طلاب المعهد الديني، أما أساتذة المعهد فآثروا أن يظلوا على الحياد، وأن يقنعوا بالوعظ والخطابة في جمعية الشبان المسلمين.

 

وفي 20 مايو 1941م أصدر حسين سري رئيس الوزراء قرارًا بنقل حسن البنا من مدرسة عباس الأول الابتدائية بالقاهرة إلى مدرسة قنا الابتدائية، وكان ذلك مع نهاية العام الدراسي، ولعله جاء ليتسلم العمل فقط، ثم سافر ثانية، لأنني لم أره في هذا العام، فقد كنت مشغولاً بامتحاناتي أيضًا، أما في العام التالي، وجاء مع بدئه، فقد كنت إلى جوار البنا جل وقتي.

 

* كيف كان البنا يقضي وقته في هذه الأيام؟

كان البنا نموذجًا في دقته، موظفًا على ذكاء شديد، وقدرة فائقة في تحويل المواقف لصالحه، وحين جاءت الأوامر السرية لناظر المدرسة بأن يرهقه بالعمل، فيوكل إليه أقصى قدر من الساعات، والمدارس يومها تجرى على نظام اليوم الكامل، من السابعة والنصف صباحًا حتى الرابعة بعد الظهر، لم يتململ البنا من هذا، وكل ما هنالك أنه رغب في أن يقوم بتدريس الخط العربي، وسعدت المدرسة برغبته، وسعد بها زملاؤه، فقد كان المدرسون يهربون من هذه المادة؛ لأنهم يرونها أدنى من غيرها، ولعزوف الطلاب عنها، واعتمادها على الموهبة وحدها، وعدم اعتناء المفتشين بها، فأعطوها له شاكرين!.

 

أما البنا نفسه فكان يهدف من وراء هذه الرغبة إلى غايتين، أولاهما: أن الساعات المقررة للخط أسبوعيًّا ساعتان، ومعنى هذا أنه سوف يدرس لكل تلاميذ المدرسة البالغ عددها 15 فصلا، سوف يلتقي بكل هؤلاء الصغار، وهم على أبواب الشباب، فيصنع منهم الرجل الذي يريده لبلاده، وهو ما حدث فعلا، فهذا المدرس البشوش، المبتسم دائمًا، العطوف في هدوء، والحنون في وقار، جعل من حصة الخط شيئًا جميلا، يقبل عليها الصغار فرحين، فهو بتباسط معهم في القول، ويحدثهم عن كثير من شئونهم، ولا يبعد بهم عن عالمهم، ويسألهم في غير إحراج أو تأنيب: من الذي صلى منهم الصبح فيكافئه ويطريه، ومن الذي يحفظ شيئًا من القرآن فيسمعه منه ويصحح له، فإذا جاءت فسحة وسط النهار تواعد معهم على اللقاء في مصلى المدرسة.

 

وبعد شهر واحد كان أحب الأساتذة إلى كل تلاميذ المدرسة بلا استثناء!.

 

أما الغاية الثانية: فهي أن حصة الخط تنتهي بانقضاء وقتها، فلا تصحيح بعدها، ولا تحضير لها، فيفيد بالقليل الذي تبقى له من اليوم وبقية الليل في الدعوة ونشرها، واكتساب أنصار لها، وفي القراءة والعبادة.

 

كان البنا ينزل في "لوكاندة الجبلاوي الجديدة" وهي أرقى فندق في قنا على تلك الأيام، ولا يزال مبناها قائمًا إلى يومنا، وإن تدهور حاله وعدا عليه الزمان، وبرنامجه اليومي لا يكاد يختلف، يعود إليها مع الرابعة ليستريح قليلا، ويغير ملابسه، ثم يأتي إلى شعبة الإخوان فيصلي المغرب جماعة بمن فيها، صلاة وقورة خاشعة، لا يطيل فيها فترهق، ولا يجعل منها مجرد أداء واجب فيختصر، وينصرف بعدها إلى تصريف شئون الجماعة، ولقاء الزوار، أو زيارة من على موعد منهم من أهل البلد، أو الهيئات الأخرى إسلامية ومسيحية، ثم يعود إلى صلاة العشاء، وبعده يلقي درسًا دينيًّا هو قراءة في كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وكان يثني عليه كثيرًا، وأول من لفت نظرنا إليه.

 

أما ليلة الجمعة، فكان يعقب صلاة العشاء محاضرة عامة، يأتيها الجمهور من كل أنحاء المدينة، من المنتسبين إلى الإخوان وغيرهم، وتدور حول قضايا الساعة التي تهم الجماهير، ولكنها تتخذ من الدين منطلقًا. وأذكر أن أحدًا سأله عن تحضير فإذا الرجل قريحته تتفتق عن سيل منهمرة من المعلومات عن أصل هذا العلم وتاريخه وأشهر من برع فيه، باختصار كان موسوعيًّا في كل شيء، وأني أتعجب سائلاً كان الرجل يمضي جل وقته في المدرسة حتى الرابعة عصرًا ويذهب إلى الفندق ليستريح وبعد صلاة المغرب يقابل الناس من أين أتى بهذا العلم الذي لا يتوفر إلا لمن انقطع عن لقاء الناس وأمضى ردحًا طويلاً في تحصيله والرجل كان في الوقت لم يتعد الرابعة والثلاثين من عمره، هي فيوض إلهية منحها الله له، فقد أوتي حسن البنا جوامع الكلم، وكان خير من يطبق القاعدة البلاغية القديمة: لكل مقام مقال، فعنده حديث لكل مستوى، ولمشكلات كل لحظة، وهو يملك ناصية اللغة، معجمًا وقواعد، ويحفظ القرآن كله، ويلم بالحديث في مجمله، ويدرك أسرارهما واعيًا، ويستخدم ذلك كله في مهارة، إلى ثقافة معاصرة بلا حدود، يحار المرء معها: كيف وأين ومتى حصلها، فهي لا تقف عند الثقافة الإسلامية وحدها، وإنما تتجاوزها إلى الصراعات العالمية، السياسية والمذهبية، والاجتماعية، والمنجزات الاجتماعية على امتداد العالم كله، إلى شجاعة فائقة، غير متهورة ولا مترددة.

 

أتاح لي القرب من البنا على امتداد تلك الشهور القليلة أن أتبين فيه أشياء كثيرة: الذاكرة القوية، فما رأيته مرة إلا وسألني عن أهلي بأسمائهم فردًا فردًا، حتى أولئك الذين لقيهم لدقائق قليلة، أو ذُكرت أسماؤهم أمامه مرة واحدة، وقدرته الفائقة على أن يتكلم العربية الصحيحة والبسيطة والواضحة دوامًا، وعفة لسانه، فما رأيته مرة يخوض في سيرة أحد، أو يذكر شخصًا بسوء، معارضًا أو عدوًا، وإنما ينقد ما يراه من زيف وباطل، أو خروج على قواعد الدين، نقدًا موضوعيًّا، يشخص الداء، ويصف العلاج، ويأخذ بالأساليب أو يدعو إليها، ويعلو على تناول الأشخاص، ويعمل على أن يجمع ويوحد ويؤلف، ويردد باستمرار: "نعمل سويًّا فيما اتفقنا عليه، ويرحم بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه".

 

ورأيته يسع بقلبه الناس جميعًا، من يكبرونه سنًّا، ومن يفوقونه في الوظائف درجات، فضلاً عمن دونه عمرًا ومقامًا، يهتم بأمره، ويعينهم على تجاوز ما يعترضهم من صعا

ب، وفيما بعد سوف يضم المركز العام للإخوان المسلمين في القاهرة إدارة للعلاقات العامة مهمتُها معاونة الإخوان على مستوى القطر المصري أولا، ثم العالم الإسلامي فيما بعد، على حل مشكلاتهم اليومية والحياتية، ويحرص على أن يجمع الإخوان في أي مكان على الحب والود والتعاون، وأول ما يبدأ به أي خطبة له زائرًا، أن يذكر مستمعيه بأن يحمل لهم تحيات الإخوان في المكان القادم منه.

 

وكان يَشُده جمال الطبيعة، ومنظر النيل، وغروب الشمس، ومهابة الجبال، ويرى فيها بديع صنع الله، وما أكثر ما صحِبَنا في جولات ونزهات إلى غابة قنا، وكانت قد أنشئت في تلك الأيام على حافة المدينة، فوق جزء من الصحراء، وهناك نصلي المغرب، لا يحد بصرنا جدران، ولا يعزلنا عن السماء ستار.

 

ولم تمض غير شهور قليلة حتى أحست إنجلترا المستعمرة، ولها في قنا قوات ومخابرات، والحكومة المصرية التي كانت تتحرك في إطارها- أن حسن البنا في الصعيد أخطر منه في القاهرة، فهو يتحرك في مجال بكر مفتوح، ويلتقي بأناس خلاص، لم تفسدهم الحضارة، ولم تعرف الطراوة طريقها إلى قلوبهم أو أبدانهم، فردته إلى القاهرة من جديد.

 

وقبل أن يرحل البنا من قنا أراد أن يفيد من مكانته، ومن حب الناس له، وتعلقهم به، فتمنى عليهم أن تكون دار الإخوان خاصة بهم وملكًا لهم، وليست شقة مستأجرة في عمارة، فانهالت التبرعات من كل طبقات السكان، وبنوها في أفضل مكان من المدينة، وضمت الكثير من المؤسسات العلمية والاجتماعية: قاعة محاضرات، وعيادات، ومكتبة، ومصلى، ونزلا للقادمين من الإخوان، وأصبح أعضاؤها وروادها من خيرة موظفي المدينة ممن يعملون في الإدارات المختلفة.

 

* إلى أي مدى تتفق أحداث المسلسل مع وقائع التاريخ، هل كان المؤلف محايدًا في عرضه للأحداث؟

باختصار هذا المسلسل صنع بدعم وتشجيع من الأجهزة الأمنية، وخدم مؤلفه وساعد في نجاح برلمان العار 2010، وبالتالي كان يصب ذلك في قنوات التوريث، ولو كان المؤلف منصفًا حقًّا كما يدعي فلماذا كتبه في التوقيت بالذات، في 2010، وهذا لا يخفى على أعمى اللهم المؤلف كان يخاطب جوقة من البلهاء، ونسي أنه يخاطب شعب عرف عنه وعيه التاريخي وله ميراث طويل.

 

* أسس الإمام البنا جماعة الإخوان المسلمين وهو في الثانية والعشرين من عمره وكان معه حينما بايعوه صفوة العلماء، واستطاع أن يجعل لها مئات الفروع في كل الدول، ما هي العصا السحرية التي ساعدته على إنجاز ذلك؟

** باختصار يا بني، أن هذا الرجل قد استخدم منهج الإخلاص إلى أبعد حد، فقد كان الرجل مخلصًا شديد الإخلاص، ولولا هذا الإخلاص ما استطاع أن يؤسس هذا الصرح، وهؤلاء الرجال الذين صبروا كثيرًا وتحملوا في سبيل إيمانهم الشديد بعدالة قضيتهم فحصدوا المجد أخيرًا.

—-------
*سبق نشره في "إخوان أون لاين" بتاريخ الأربعاء, 13 فبراير 2013 , وقد توفي الدكتور الطاهر مكي في 5 أبريل 2017 رحمه الله رحمة واسعة.