يحكي الكاتب الروسي الأشهر ليو تولستوي في قصته "مالك روسي" مشكلة الصراع الخالد بين المثل الأعلى الذي يحيا به النبي، وازورار الجمهور وعدم اكتراثه. بطل القصة يهجر الجامعة ليساعد فلاحيه، ولكنهم يؤثرون حياة الهوان، لأنهم يستطيعون فهم السيد الظالم الذي يلهبهم بسياطه، بينما لا يعرفون ذلك السيد الذي جاء يرفق بهم ويحنو عليهم (صدقا لا كذبا). إنهم يجفلون منه ويهزأون به ويرتابون فيما يقدمه إليهم. فيصوغ أغنية يترنم بها ويستمعون إليها مع عزفه على "البيانو"، ويتجاوبون على الإيقاع: فرقة تغني وأخرى تعزف ويمتزج الماضي والمستقبل. فيتحقق حلمه ظافرا. ويغفر لهم جهلهم وكسلهم وعنادهم ونفاقهم وارتيابهم، ويرى في بواطنهم آلامهم وصبرهم وبشاشتهم ورضاهم الهادئ بالحياة واستسلامهم الشجاع إذا واجههم الموت. يعيشون ويكدون ويموتون تحت سياط مالك الأرض الذي لا يرحم!

يلح تولستوي على هذه الفكرة في  بعض إنتاجه الروائي، وهي فكرة التشبع بالعبودية واستمرائها ورفض الخروج من حلقتها القاسية، لأن الحرية مجهول لا يعرف العبيد كنهه ولا مستقبله.

هل هناك تشابه بين عبيد البيادة في بلادنا وبين عبيد الأرض عند تولستوي؟ الإجابة تؤكد ذلك..

رفَضَ العبيد الحرية والديمقراطية والكرامة، وانحازوا إلى السوط والدم والقمع والمصادرة والتفريط في هيبة الوطن ومائه وغازه وتراثه، واستسلموا للبيروقراطية والفشل والغلاء.

يوم جرت يعض الأحداث مثل احتراق قطار الصعيد، وحبس صحفي شتام لم يبت ليلته في السجن، وإعلان بيان دستوري يحصن العدالة؛ ثار العبيد، وأذرعهم الإعلامية والصحفية، وتبارى الرداحون والرداحات في إهانة الرئيس الشرعي المنتخب. قالوا كلاما لا يجرءون الآن على استخدام بعضه. توارت شجاعتهم إلى ما وراء الظلمات!

أحدث ما جرى كان كارثة الغرق في التجمع الخامس بشرق القاهرة الكبرى، وانهيار طريق العين السخنة الذي افتتح قبل ايام قليلة، ووصلت المياه إلى غرف النوم في بعض البيوت، وحوصرت مئات السيارات والأشخاص داخل المياه لأكثر من ثماني ساعات. أمهات معهن أطفال رضع وضعفاء غارقون لا يجدون حيلة ولا طعاما ولا يهتدون سبيلا, العواصف تصفعهم والمياه تخنقهم. ضربت الكارثة مخازن بنك الطعام المصري بالتجمع الثالث وهو ما أدي إلى تلف بعض المواد الغذائية التي كانت تسعف الفقراء والمحرومين. شُلّت الإدارة والسلطة. لا نجدة، ولا إغاثة. من يستغيث لا يهتم به أحد. المسئولون في وادي الأفراح يمرحون، وفي النوم يغطون.

الإعلام متفرغ لسب الإخوان وشتمهم، ورفع راية لا تصالح معهم، لأن جريمة فوزهم في الانتخابات لا تسقط بالتقادم، وإن كانت جريمة العدو النازي اليهودي المستمرة سقطت من زمان. تقتل العواصف روح المروءة والشهامة لدى الموظفين والمسئولين، فلا يتحركون ولا ينقذون الضحايا. اللصوص الكبار قبضوا المليارات بالقانون وناموا قريري العين. الجنرال أعلن أن الجيش يمكن أن ينتشر في أنحاء العزبة في خلال ست ساعات، ولكن أكثر من ثماني ساعات تمر، ولا أحد يقول للمحاصرين في المياه: طبتم مساء أو صباحا. يحكمون على غلام تظاهر بالسجن المشدد، ولكن من يحاصرون الناس بالمياه، ويغرقون البيوت في المجاري لا يحاسبهم أحد، وإن كان هناك حساب فهو لزوم الإخراج السينمائي، لأن الشماعة الجاهزة اسمها: الإخوان! كل يوم حديث عن الإنجازات، وخطب عن الإنقاذ من براثن الإخوان، وبرامج وتصريحات عن الإصلاح، ولكن المحاصرين بسبب الأمطار يصرخون ولا مجيب. بإمكاناتهم المحدودة أخذ الناس الذين دفعتهم المروءة والشهامة يحاولون تقديم المساعدة على قدر ما يستطيعون. الشعب البائس راح يواجه المحنة بالنكت وأكثرها سخيف. منطق العبيد في قصة تولستوي!

هو المنطق الذي دفع سليلة التنظيم الطليعي لاتهام الإخوان بصنع المحنة في التجمع الخامس كما صنعوها من قبل في الإسكندرية والبحيرة ؛ حين سدوا البلاعات كما زعمت! هذه المرة لم تكن هناك بلاعات أصلا ليسدها الإخوان، وقال نعال البيادة إن شركات إخوانية هي التي أقامت القاهرة الجديدة. جسر العين السخنة لما يمض على افتتاحه أيام.

منطق العبيد جعل عالمة أو غازية تبرئ ساحة السلطة من التقصير، بعد أن استغاثت في فيديو مسجل أذيع على الدنيا كلها تستنجد فيه بمن ينقذها من غرق بيتها ولم يستجب لها أحد. وجعل طائفية متأسلمة تتمني أن تصل المياه إلى غرفة نومها ولا تعود الديمقراطية أوحكم الإخوان كما تسميه مرة أخرى.

هو المنطق ذاته الذي جعل مهرجا منافقا أفاقا يعلن ولاءه لسيده ولو سجن أولاده وعذبهم وقتلهم، وهو المنطق نفسه الذي جعل بوقا شهيرا لا يخجل وهو يعلن أنه  على استعداد للحس التراب! وهو أيضا ما جعل بوقا أقل شهرة يتمنى استنساخ سيده ليزداد لذة، ويشبع المازوكية التي يعيش بها!

تجاهل عبيد الأرض كل ما حولهم من خيبات وفشل أصابت مصر والمصريين نتيجة الحكم العسكري الفاشي وصبوا غضبهم على الإخوان الذين تخفي السجون مائة ألف منهم غير المطاردين. وصلت الخيبات إلى مشكلة المرور التي تحصد أكثر من عشرين ألف روح كل عام ولم يعثروا لها على حل. لا تخطيط ولا تفكير ولا رؤية لأن العزبة لهم، والعبيد لهم ، والماشية لهم ، والأمن محفوظ بعشرات السجون وصندوق الذخيرة.

خذ مثلا مضحكا عندما أرادوا مواجهة السيول، قرروا إعداد قانون يعاقب من يتحدث عن الأرصاد الجوية غير المصلحة المعنية! هل فعلت ذلك دولة في العالم المتقدم أو المتخلف؟ خذ مثلا آخر مضحكا مبكيا فقد قرروا أخيرا حرمان الفلاحين من زراعة الأرز والقصب والموز بعد أن ضيعوا ماء النيل، وتنازلوا عنه للحبشة التي عاملتهم بازدراء ولم تغير موقفها قيد أنملة! في حين تستهلك ملاعب الجولف كما يقول الدكتور الجوادي أكثر مما تستهلكه زراعة الأرز(150%)!

ويدعي وزير كذاب أن القرار ليس بسبب سد النهضة (العظيم!)- يا حسرة على وطني! ثم يأتي شيخ من شيوخ السلطة وفقهاء الشرطة ليعلن بكل وقاحة أن الوضوء يستهلك 3% من المياه في مصر، وهذا قمة الإسراف والتبذير كما يدعي. كل ذلك استعدادا ليشرب الناس مياه المجاري كما وعدهم من ذبحوا الناس في الميادين والشوارع واغتالوهم في البيوت والأقبية.

الأسبوع الأخير من أبريل 2018م أكد أن الحكم العسكري على مدى ستين عاما لم ينجح في شيء إلا في قهر الشعب المصري وقتل نخبه المحترمة، وصناعة نخب النفاق والبصاصين، واللصوص الذين يسرقون بالقانون واللوائح، وصدق الشيخ حازم أبو إسماعيل- فك لله اسره- حين قال قبل دخوله السجن: سنصبح اضحوكة العالم.. وقد كان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

الله مولانا. اللهم فرج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!