مهما قيل عن بشاعة ما جرى يوم 5 من يونيو 1967 فلن يصف حجم الكارثة التاريخية التي حلّت بنا وأوحلت أجيالاً لا يعلم عددها إلا الله. لقد كان يوم عار وشنار، وغدر وخيانة، وقد سبقه كذب وتدليس يعجز الشيطان عن الإتيان بمثلهما، وسبقه قهر واستبداد، وإصرار على أن تقع الهزيمة بتلك الصورة التى وقعت بها..

 
ولقد لخص الشيخ الشعراوي المشهد برمته ساعة سجد سجدة شكر لله على تلك الفاجعة التي تؤكد -كما قال- أن عين الله ساهرة، وأنه حق عدل، وأن المهزومين أحق بتلك الهزيمة، ولو لم يُهزموا لاضطرب يقين الناس في عدل الله وقوته.
 
ولقد صاحبت أحد الذين شاركوا في تلك الحرب، وهو الزميل الفنان سيد عبد الفتاح -رحمه الله- الرسام بمؤسسة أخبار اليوم، وكان وقتها متطوعًا بالجيش -فحكى لي قصصًا تنكسر لها رقاب الأحرار من مشاهد الذلة والصغار التي لحقت بنا؛ حيث أكد أنه طورد في صحراء سيناء هو والمئات من الضباط والجنود، بلا سلاح، بلا طعام، بلا شراب، بلا قيادة توجه، وبقوا على تلك الحال أيامًا وليالي؛ فلم ينج منهم إلا أفراد بعدد أصابع اليد، كانوا يسيرون سير المهزومين المنكسرين وفجأة يظهر طيران العدو فيقصف عددًا منهم، ويفر الباقون، الذين حاصرهم الجوع فأكلوا مما أنبتته الأرض أو مما تصدق عليهم به البدو، ثم حاصرهم العطش، وكان أقسى من قصف الطائرات فشربوا أبوالهم، ثم لم يجدوا بعد ذلك هذه الأبوال، فأقسم سيد -رحمه الله- أنه لو ذهبت كل مشاهد الدنيا من ذهنه فلن يذهب مشهد شباب أشداء أقوياء زاملناهم سنين، كانوا يلفظون أنفاسهم أمامنا عطشًا ويبكون كما تبكى النساء؛ فلم نستطع أن نقدم لهم شيئًا.
 
ولم تكن تلك الهزيمة -كما ذكرت- من فراغ، بل تهيأت لها الأسباب. إذ بعد استيلاء العسكر على السلطة عام 1954، شرعوا في هدم جميع أسباب القوة والبقاء؛ بدءًا من العمالة والتبعية للغرب، وانتهاء بصناعة الفرعون الديكتاتور. فالمطالع لكتاب «ثورة يوليو الأمريكية» للراحل جلال كشك- وقد حشد فيه عشرات الوثائق والأدلة- لا يشك في عمالة ناصر للصهاينة والأمريكان، وقد ساق قصة بناء برج القاهرة، وساق معها ما يثبت أن هذا الرجل كان زعيمًا في العلن، عميلًا في السر، يعاقب الأمريكان -جهرًا- بتحويل ثلاثة ملايين دولار تبرعوا بها لمصر؛ لبناء برج القاهرة بزعم أنه لا يُشترى، في حين كان وكيلهم في مصر، بل الوكيل الأول للصهاينة في بلاد العرب؛ حيث كان بطل الخيانة في حصار الفالوجا وفي (سيناريو) مقتل البطل أحمد عبد العزيز.
 
و(ناصر) الخاسر نفسه هو من افتعل المعركة مع الإنجليز من قبل -ولم يكن لذلك مبرر وقد قارب الاتفاق معهم على الانتهاء- حتى وقعت حرب عام 1956 التي تفكك فيها الجيش ثم أُسر وقُتل الآلاف، وفرّت القوات هاربة عارية إلى بورسعيد، يلاحقها الأعداء الذين كانوا ينتقون الضباط من بين الأسرى ويطلقون سراح عشرات الآلاف من الجنود المذعورين تودعهم سخريتهم والانتقاص من شأنهم.
 
ومن المؤكد أن مصر قبل حرب 1967 كانت أكثر تفوقًا عددًا وعدة من الصهاينة، فضلاً عن أن اليهود لم تكن لهم دولة بمعنى الدولة، وفضلاً أيضًا عن أننا أصحاب حق وأرباب قضية. لكن كل ذلك لم ينتفع به العسكر العلمانيون الذين خروا منهزمين أمام طيران الكيان الصهيوني الوليد في ست ساعات -أى والله، جاب طيران الصهاينة طول مصر وعرضها فى ست ساعات، يدمر كل شىء، ما تصدت له طائرات ولا وحدات دفاع جوى أو حتى راجمات طوب وحجارة. فماذا يعنى ذلك؟!
 
إن هذا يعنى أنه لم يكن هناك بلد. ضاع البلد، أضاعه العسكر يوم اعتمدوا على عدوهم في غذائهم وسلاحهم ودوائهم، ويوم صار القرار من واشنطن، أو موسكو، ويوم تم تخريب الجهة الداخلية، وقتل المصلحين وسجنهم ، وملاحقتهم، ويوم صار الإسلام مضطهدًا في بلد الأزهر. لقد كرست الدولة جهدها فى ملاحقة الإخوان المسلمين واستئصالهم ، وتوسعت فى بناء السجون لحبس مزيد من المصريين، خصوصًا بعد التوجه إلى روسيا الملحدة، فألغيت المحاكم الشرعية، وهيئة كبار العلماء، وتم تخريب الأزهر، وقام إعلام الدولة ومؤسساتها بنشر الرذيلة، ودعم مظاهر الدعارة والفُجر.
 
هُزمنا يوم دشن العسكر إعلامًا مضللاً يتبنى الكذب والتدليس طريقة ومنهجًا، ويوم حاربوا لأجل ألا يكون هناك صوت آخر غير صوتهم على الساحة، ويوم استغلوا جهل الشعب فى إقناعه بقضايا وهمية، مثل الحرب على الرجعية البائدة والرأسمالية الفاسدة، ويوم رعت سلطتهم حفنة من المنافقين الذى قلبوا الصورة، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وشغلوا الجماهير بأمور الكرة والفن والموضة..
 
هُزمنا للفساد السياسى الذى أسسته تلك العصابة، فوأدت به الحريات، وقتلت به الديمقراطية، وقضت به على ما تبقى من آدمية لدى المصريين، وقد نظروا إلى الشعب باعتباره قطيًعا لا يدرك معنى تداول السلطة؛ فزرعوا بداخله الخوف، وهددوه باسم الوطنية والانتماء فقالوا: من ليس معنا فهو عدو للوطن والعروبة.
هُزمنا يوم اعتلى قزم مضطرب النفس رأس السلطة، وظن أنه فرعون موسى، فهو معصوم لا يخطئ، ملهم لا معقب لحكمه، وقد رثاه أحد شعراء الرذيلة بعد هلاكه بقوله «فقدناك يا آخر الأنبياء». وهذا المجنون المهزوم هو من تسمى الآلاف باسمه تيمنًا بلقبه، وما ذلك إلا فتنة خاض فيها المصريون.
 
هُزمنا بعد ما وقع الانهيار على المستويات كافة، الاقتصادية من ديون وبطالة وغلاء وانخفاض قيمة العملة وتوقف الإنتاج. والأخلاقية من اختلال القيم وغياب المروءة. واجتماعيًا من تفسخ واضطراب وطلاق وعنوسة وفقر ومرض وبلطجة ومخدرات ودعارة وانتحار وأطفال وشوارع.. إلخ.
 
لقد تقزمت مصر حتى صارت فى حجم الدويلة أو الولاية التى لا صاحب لها. فكان لا بد من وقوع الهزيمة.
 
واليوم يتكرر (السيناريو) نفسه، لكن بصورة أفظع وأبشع، فلا نستبعد أن تقع الهزيمة، لكن بما أنهم صاروا عبيدًا للصهاينة، فإن الهزيمة المنكرة ستكون فى جبهة أخرى أمرّ وأقسى.