بقلم: أحمد مصطفى

في صباح الجمعة 3 من ذي الحجة 1358ﻫ الموافق 12 يناير 1940م، رحل العالم الجليل الشيخ طنطاوي جوهري بعدما أضاف إلى المكتبة الإسلامية عددا من المؤلفات غير المسبوقة في العلوم الإسلامية؛ فقد سطر بقلمه كلمات من نور في علم التفسير وغيرها، كانت في بعض جوانب حياته خصوصيات لم يتوافق معه فيها إلا القليل من العلماء.

وُلد طنطاوي جوهري في قرية كفر عوض الله حجازي بمحافظة الشرقية عام 1862م في أسرة فقيرة اتجه ربها إلى العمل الزراعي ليكفل أهله، غير أن شغف ابنه طنطاوي دفع عمه ليتكفل بتعليمه الذي انكب عليه بما وهبه الله من ذكاء حاد مكنه من حفظ القرآن الكريم وهو صغير واتقان اللغة العربية، وشذ عن أقرانه بالعناية – منذ صغره – بالعلوم الطبيعية – وهي التي تركت بصمات في شخصيته وقلمه الذي جذبه لبحور العلوم الواسعة والمتدفقة فكان نتاجه غزيرا في العلم، وإن كان جانب لم يتميز به عن أقرانه من العلماء لكنه في ذات الوقت تبحر في تأليف الرجال الذين يعملون لهذا الدين وهو ما جذبه – رغم أنه العالم الكبير – أن يكون في صفوف دعوة الإخوان المسلمين بقيادة الإمام حسن البنا.

بين ثنايا الكتب

لم يكن الشيخ طنطاوي عالمًا متخصصا في جانب واحد من العلوم، بل تميَّز في كل نواحي العلوم؛ فكان عالم الدين الوطني، كما كان عالم الاجتماع العالمي، جمع بين الثقافتين الدينية والطبيعية والإنسانية، فمزج المسائل الدينية بالآراء الاجتماعية والسياسية، والعلمية وأخرج مؤلفات سطرها بروح حديثه مع الحفاظ على حقيقة دينه، والتي وصفها الدكتور ريتشارد هارتمان بقوله: "إن طنطاوي جوهري يسير على نهج الإمام محمد عبده في فهمه أن الإسلام هو دين العقل والفهم لا التقليد، وأن العلم إذا أحسن فهمه يصبح أداة صالحة لفهم الدين.

ولذا تفرَّد العلامة «طنطاوي جوهري» ببعض المؤلفات مثل [الجواهر في تفسير القرآن الكريم] والذي وصفته بنت الشاطئ بقولها:[قدم الشيخ طنطاوي جوهري تفسيره (الجواهر)، فوجدت فيه الجماهير ما يريحها من مهانة الإحساس الباهظ بالتخلف].
كما قال عنه الأستاذ عبد العزيز عطية -عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين: "عرفنا شيخنا بعد أن أرتوى من معين العربية والفقه الأكبر والمنطق، حتى قصده الكثيرون من نواحي العالم، يستمعون لآرائه، وكان أكبر همه أن يذيع رسالة السلام عن طريق تعاليم الإسلام".

وأيضا كتاب [أين الإنسان] والذي ناقش فيه قضية هي من أعتى القضايا على فلاسفة ومُنظِّري عصره، وهي قضية «السلام العام»، وكيفية استخراجه وصنعه من النواميس الطبيعية، والنظامات الكونية، والمدارات الفلكية، فهو بمثابة خطاب ورسالة موجهة لكل طبقات المجتمع، دعوة للعودة للإنسانية الخالصة الحقيقية.

وهو الكتاب الذي رشحه لنيل جائزة نوبل للسلام عام 1940م بالإضافة لكتاب "أحلام في السياسة.. وكيف يتحقق السلام العام؟ حيث اعتبر أول عربي يرشح لهذه الجائزة.

بين قلوب الإخوان

كان لروح العالم طنطاوي جوهري المتعمقة والمتميزة في معرفة الرجال من اشباههم، وهذا ما جعله يكون حصنا حصينا على حسن البنا حينما ظهر بدعوته في بداية الثلاثينيات ، فعلى الرغم من أن دعوة حسن البنا انطلقت عام 1928م بالإسماعيلية قبل أن تنتقل للقاهرة بعد سنوات قليلة، دفعت العديد من علماء هذا العصر إلى أن يتقربوا منها ويتعرفوا عليها، بل ينطوي بعضهم تحت لوائها، رغم حداثة سن من اطلقها، إذا قيس بهؤلاء العلماء الذين لهم زمن طويل في دروب الحياة والعلم، غير أن الرؤية التي نظر بها الشيخ طنطاوي جوهري الى البنا هي التي جعلت من العالم الكبير ينطوي تحت قيادة هذا الشاب الذي قال فيه حينما سأله ذات يوم بعض العلماء: كيف تقبل وأنت العالم الجليل أن تكون تابعًا لمدرس أقل شأنًا منك؟ فردَّ عليهم بقوله: لو تعلمون عن هذا الشخص ما أعلم ما ملكتم إلا أن تبايعوه على نصرة الإسلام، ثم قال: "إن حسن البنا في نظري مزيج عجيب من التقوى والدهاء السياسي، إنه قلب عليّ وعقل معاوية، وإنه أضفى على دعوة اليقظة عنصر "الجندية"، ورد إلى الحركة الوطنية عنصر "الإسلامية".

وعندما انتقل الإمام البنا إلى القاهرة قابله الشيخ جوهري وسأله – بعد أن ذاعت شهرته وطريقة دعوته العملية للإسلام - إلام تدعو؟! قال: أدعو إلى القرآن. فقال: دع هذا اللفظ الكريم من حديثنا؛ فإن هذا اللفظ مظلوم ظلمًا بيِّنًا، فما من فرقة قامت في الدولة الإسلامية مهما كانت زائفةً عن الإسلام إلا وادَّعت أنها تدعو إلى القرآن، فأجبني بتفاصيل ما تدعو إليه في كل ناحية من نواحي الحياة، قال: فشرح لي تفاصيل دعوته فوجدتها في حدود كتاب الله.." كما ذكر في كتاباته.

وبعد اقتناع الشيخ طنطاوي جوهري بالدعوة قال له الشيخ البنا: يا سيدي الأستاذ.. إنك أستاذنا وأستاذ الجميع، وأنت حكيم الإسلام، وأراك أحق بمنصب الإرشاد لهذه الدعوة مني، وهذه يدي أبايعك.. فقال الشيخ: لا يا أخي.. أنت صاحب الدعوة، وأنت أقدر عليها، وأنت أجدر بها، وأنا أبايعك على ذلك، ومدَّ يده فبايعه.

اختير الشيخ طنطاوي ليكون ممثلاً عن إخوان القاهرة في مجلس شورى الإخوان العام، والذي عُقد في 11 من ذي الحجة 1353ﻫ الموافق 16 من مارس 1935م، وتولى رئاسة تحرير صحيفة (الإخوان المسلمين)، التي صدر العدد الأول منها في 22 من صفر 1352ﻫ الموافق 15 من يونيو 1933م، وكان أول مقال فيها للشيخ بعنوان: "إلى القراء الكرام".

وخُصِّص له في المركز العام درسٌ في تفسير القرآن الكريم، كان يفسر القرآن بالعلوم الحديثة، وهو لون لم يكن مألوفًا في ذلك الوقت، وكان الشيخ بارعًا في التفسير وفي الإقناع؛ حيث كان على قدم راسخة في التفسير وفي العلوم الكونية معًا.

وكان أكثر الآثار الواضحة للشيخ طنطاوي داخل الدعوة أنه كان أول من احتضن أول مجموعة من طلبة الجامعة وأرشدهم إلى طريق دعوة الإخوان المسلمين عام 1933م حينما ذهبوا يسألونه عن طريق للعمل للإسلام فأرشدهم للعمل للإسلام داخل جماعة الإخوان، وتكونت أول مجموعة من الطلاب لجماعة الإخوان وكان منهم الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد وإبراهيم أبو النجا وغيرهم، حيث سارع من شدة فرحه أن اتصل بالإمام البنا بالإسكندرية ليعود ويجلس مع هؤلاء الطلبة – الذين اعتبرهم الشيخ طنطاوي فتحا مبينا – وتكون منهم نواة قسم الطلاب بجماعة الإخوان المسلمين.

كان حب الشيخ طنطاوي جوهري للإسلام غير محدود, وكان يسلك كل الطرق التي تؤدى لرفعة هذا الدين، ويتعاون مع كل من يعمل له، دون النظر إلى سنه أو مكانته العلمية, رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

للمزيد:
1-  عبد العزيز جادو: الشيخ طنطاوي جوهري... دراسة نصوص، دار المعارف، 1980م.
2-  محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، دار الدعوة، 1999م.
3-  حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
4-  محمد عبد الحميد أحمد: ذكرياتي، دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية، 1993م.
5ـ إخوان أون لاين.